في فيينا أو في كريات حاييم ، الفاشية واحدة لا تلين
تاريخ النشر: 31/08/18 | 0:28عدنا إلى البلاد من رحلة مختلفة، كانت أقرب إلى صدفة قادتنا للنبش في عظام التاريخ وحماقاته. عندما هاتفتني ابنتي دانة كنا نطوف في شوارع مدينة فيينا من على متن حافلة سياحية يسمونها في عدة دول أوروبية “هوب آند أوف”، وهو في الواقع “باص” من طابقين، يتيح لمستعمليه زيارة معظم معالم المكان، مثل عاصمة “الهبسبرغيين”، والنزول في كل محطة والعودة منها، حسب الرغبة، على مدار أربع وعشرين ساعة.
سألتها برسالة خطية قصيرة تأجيل المحادثة، إلا إذا كان الأمر طارئاً، فلقد كنت أعلم أنها في مدينة العقبة الأردنية، تشارك في الجولة الثانية من ورشة عمل دراسية رعتها وترعاها كلية ” كينغز” البريطانية وجامعة لندن.
كنا، في مطلع شبابنا، نترقب، كشحاذين للحب والجمال، زيارة مدينة الڤالس؛وأتذكّر كيف أتيناها أول مرّة ، قبل سنين، بصحبة “أسمهان” النادرة، التي خلّانا صوتها نحلم بطيور الجنة وهي تبكي وتغني في ليل مدينة يسكنها القمر.
كانت ڤيينا بالنسبة لي، لأسباب سرمدية، مثارًا لمتعة متمناة ولخيال مستفز . ولن أنسى كيف قابلتنا، في ذلك الخريف، ببرود وتكبّر ؛ حين جئناها، محملين بجيناتِنا، لنحاول تفكيك عقدنا الشرقية على عتبات “شونبرونوها”، ونستذكر غيث الحضارة في حدائقها، ونلهو على سلالم موسيقى دانوبها الشقي.
“بابا، وصلنا أنا ودورون مطار ايلات لنطير عائدين إلى تل أبيب” ، كتبت لي دانه في رسالتها الأولى التي بدت قلقة، وأردفتها متألمة “غلّبونا كتير وعاملونا بطريقة حيوانية” .
أخفيت ما وصلني عن عيني أمها وصديقينا، وتابعت قراءة ما كان يردني منها خلسةً ؛ فهمت أنها عادت من العقبة برفقة زميل يهودي يشاركها في الورشه اسمه دورون. وبعد أن “اكتشفت” موظفة الأمن في المطار “عروبة” دانه و”يهودية” دورون استنفرت وقامت بالتفريق بينهما على الفور ؛ فأدخلت دانة وحقائبها الى غرفة، وأبعد عنها دورون في غرفة أخرى.
مررنا في شوارع المدينة المليئة بتحف عمرانية تشهد كيف كان صولجان التاريخ ينتصب من حلق هذا المكان. كنائس بهندسات قوطية ورومانية وأخرى مبتكرة وحديثة، وكلها يحمل بصمات مَن بنوها، وتعكس تعاقب الدول وعقائد من حكمها وتجبّر ؛ وبجانبها، على ضفة الدانوب يستقر جامعها الكبير بمئذنتة التي ترتفع الى علو 32 مترًا .
بدأ يقلقني كلام دانه، فقد تركنا البلاد وأخبار اعتداءات الفاشيين اليهود على العرب تنتشر يومًا بعد يوم، وتصلنا تباعًا لتعكر صفو اجازتنا.
قرأنا عن خبر اعتداء رجل أمن في مطار بن غوريون على مواطنين عرب دروز من قرية دالية الكرمل ورشّهم بالغاز ؛ وتابعنا صور اصابات الشبان الثلاثة أبناء مدينة شفاعمرو وقصة نجاتهم بالصدفة من موت محقق بأيادي زمرة من الفاشيين هاجموهم في “كريات حاييم” قرب حيفا.
لقد تركنا وطنًا صارت فيه “الدانات” فرائس سانحة لكل متطرف وفاشي قد ينقض عليهن بلا رادع ولا تردد ولا وجل؛ خاصة بعد أن أفلت معظم المعتدين في الحوادث السابقة من العقاب ومن المحاسبة.
حاولت أن أشغل ذهني بجمال ما نشاهد، وبقساوة الطقس في ذلك النهار؛ فلقد وصلنا فيينا هذه المرة، ومعناها مدينة النسيم العليل، في منتصف آب ، ويقيني، هكذا تندّرت مع صديقي نبيل، الذي عانى من الحر مثلي، أن “رامي” لم يزر المدينة في آب ؛ ولو فعل لأيقن أنها مدينة من نار وتراب ومن ماء وشراب، وأنها ليست من مدن الجنة كما تخيّلها في أغنية أسمهان الساحرة. فهي بقصورها ومتاحفها وجامعتها ومسارحها وأوبراها قد تكون شاهدة على نبوغ العظام، بيد أنها كانت مرارًا أخت الحماقة والهوان. ثم وإن كانت ولّادة للرقة ولجميع الفنون، فإنها كانت كذلك أمّا للطاعون وحصّادة للموت وللأسى ؛ تماما كسائر بنات التاريخ الكبير والأحمق، وكضحية لنزق مَن تصرّفوا كآلهة وعاشوا كخالدين لا يُقهرون.
“لقد حاولوا اذلالي وقهري. استمروا لأكثر من ساعتين بالضغط عليّ بأسئلة شخصية ومهينة أحيانًا. اخذوا هاتفي وحاسوبي. لقد أخروا ميعاد اقلاع طائرتنا لأكثر من ساعة بسببنا” .
كان باصنا يسير ويقطع موقع الحي/الجيتو اليهودي ببطء، ليتوقف بعده مقابل بيت “زيغموند فرويد” في شارع بيرغاسي ١٩. قطع القاريء تقريره لينقل إلينا تسجيلًا نادرًا أجرته، في العام 1938 ، محطة الاذاعة البريطانية ( bbc) مع زيغموند فرويد بعد شهرين من وصوله إلى لندن هاربًا من فيينا ، التي ضُمّت إلى ألمانية النازية في ذلك العام.
كان فرويد هرِمًا قد تخطى عقده الثامن، وكان صوته حزينًا ومتعبًا لكنه استطاع أن يعبّر عن أمله في النجاة ؛ فلقد أطبق الوحش النازي فكيه على النمسا وقد كان يعيش فيها حوالي مائتي الف يهودي، معظمهم في فيينا.
ازدادت الاعتداءات على جميع المعارضين السياسيين، ومن ضمنهم على الأقلية النمساوية اليهودية؛ وأعلنت الحكومة النمساوية سحب الحقوق المدنية من اليهود وقامت بتضييق الخناق عليهم. صارت حياتهم لا تطاق وسلامتهم غير مكفوله.
قبل نهاية ذلك العام اضطرّ مائة وخمسة وثلاثون ألف يهودي للهرب من فيينا؛ وكان فرويد بينهم. وبقي فيها نحوٌ من خمسة وستين ألف يهودي، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ثلاثة آلاف فقط.
أُمطرت فيينا بالقذائف التي هدمت أكثر من ربع مبانيها؛ وحُررت في نيسان ١٩٤٥ بأيدي طلائع الجيش الأحمر الروسي، وأعلن استقلال النمسا الذي أصبح حقيقيًا في العام ١٩٥٥ فقط.
كنا نتناول فطورنا وقد امتزجت في احاديثنا اخبار الفاشيين، واختلط التاريخ بالحاضر وتداخلت تفاصيل الاعتداءات. قرأت رسائل دانه بنبضها المقلق وأنينها الموجع؛ وعلى الرغم من وصولها إلى البيت “سالمة”، شعرنا بالجرح الذي في صدرها، وعرفنا أن أخبار البلاد تشبه أخبار ذلك الخريف النمساوي.
كنا نتخيّل روائح الحرائق في أزقة حارات فيينا ونستعيد بحة فرويد اليهودي وهي تؤكد فوز العاجزين في الهرب ومجازات البطولة في البقاء ونصر الموت في المواجهة.
ربما يعرف كثيرون أين بواطن القوة، لكننا نكون أحيانًا بحاجة الى نبش عظام التاريخ كيما نتذكر أن الحكمة في تصدي جميع الضعفاء والمستهدفين للفاشيين قبل أن يوثقوا أنشوطاتهم على الرقاب، فهذا هو هو قانون النصر الوحيد، لأن دين الفاشية واحد وقرابينها من الجثث والنازحين واحدة.
مع وصولي إلى البيت شاهدت تسجيلا يتحدث فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، ايهود براك، يتّهم فيه حكومة نتنياهو بالفاشية ويعزز رأيه بإصابة حكومة أسرائيل باثني عشر عارضًا من أصل أربعة عشر، كان قد عدّدها صاحب رواية “اسم الوردة” الكاتب الايطالي أومبيرتو إيكو، لتشخيص مرض النظام السياسي بالفاشية.
أعرف ما سيقوله الكثيرون عن باراك وتاريخه، وهذا صحيح، ولكن سيبقى رأيه مهمًا وتأكيدًا على ما ينتظرنا في نهاية المنزلق.
لقد أجابت دانه محقيقها كما يليق بفتاة حرّة وبمحامية تعرّفت على السراب في دهاليز المحاكم والقوانين؛ لكنّها ستبقى إبنة لجيل يكبر في حضن أمل كسير.
ولقد غنت أسمهان لليالي الانس في فيينا عام ١٩٤٤ وكانت سماؤها تمطر حممًا، ورقصت على أبواب جنتها وكانت شوارعها من بارود ودم؛ إنه الفارق بين الحلم والألم أو ربما مجرد جموح للخيال في سماء المشرق.
فمتى سنصغي إلى صدى التاريخ ونتعلم من دروس الهزيمة؟ عسانا نعرف ونوفق في انقاذ أولاد الريح وروّاد مستقبل وهم يمضون في دروب الكرامة والمستحيل ويتأرجحون بين “رنين الكاس ورنة الألحان
بقلم جواد بولس