ليلة الرّحيل الأخير

تاريخ النشر: 19/09/18 | 8:52

مات فنان ووطني كبير.
حدّقتُ في الصورة التي أمامي في أعلى صفحة الجريدة.
نفس الملامح المألوفة، العينان العسليّتان الكبيرتان ذات النظرة الحادّة، الشفتان الغليظتان الحازمتان بدتا أكثر صرامة، الشعر البنيّ الأملس كان لا يزال غزيرا ومتدليّا على جبهته العريضة، في وجهه المستدير ذي البشرة البيضاء، الصّافية رغم مرور السنين.
أسامة رباح.
اتّسعت عيناي دهشةً.
مات؟؟
ولكن اسمه في الجريدة ليس كذلك. عبد الرحمن السعيد.
عدتُ لأتأمل في الصورة من جديد. تفرّست فيها دقائق طويلة.
لا. لست حمقاء. أعرف ما أرى.
لم يكتبوا الكثير عنه. فنان ووطني كبير. لا أكثر ولا أقل. لم يكتبوا ماذا فعل حتى يصبح وطنيا كبيرا. بدا الأمر كلّه مكتنفا بالأسرار. تماما كما عرفته قبل عشرين عاما.
قال لي حينذاك إنه يحبّني، وأنا أيضا قلتُ له ذلك. كنت أحبّه كثيرا. في تلك الأيام، كنتُ شابة في العشرين من العمر فقط، صغيرة كي تحب رجلا آخر. صغيرة كي تطلب الطلاق.
في الثامنة عشرة تزوّجتُ من عدنان. كنا مخطوبين مدة سنتين. أراد أن نتزوج بعد سنة من الخطوبة، ولكنني صمّمتُ على إكمال امتحاناتي النهائية والالتحاق بالجامعة. كان ذلك شرطي الوحيد، فلم يعارض. هل كان ذلك خطأ؟
كان حملي بسيرين هو الخطأ، ولكنني كنتُ مصمّمة على إكمال دراستي الجامعية رغم ذلك. ثم التقيتُ بأسامة.
طويلا، ممشوقا، بقميص كحليّ وبنطلون أسود، وقف هناك على محطة الباصات، يتأهّب للركوب. وأنا جالسة قرب الشّباك، في طريق عودتي من الجامعة إلى البيت، ظننتُ أنني أعرفه. ولكنه قال لي، بعد أن جلس إلى جانبي في الباص، إنه حديث السكن في المدينة، ورغم أنني كنت متأكدة أنني رأيته من قبل في مكان ما، ورغم محاولاتي للتذكّر، إلا أنني لم أفلح في ذلك، ولكن ذلك لم يكن مهما، لأنني عرفته جيدا منذ ذلك اليوم. أو هكذا ظننت.
لا، لا. كنت أعلم أنني لا أعرفه. كان مصمّما ألا أعرف عنه شيئا. وقد نجح في ذلك.
جذبني الحديث معه وأثار اهتمامي به. قال لي إنه رسّام يجوب العالم بحثا عن الجمال وإن لديه في هذه الأيام معرضا في المدينة ودعاني لحضوره.
في المعرض، قال لي، بعد أن شكرني على الحضور وأخذني في جولة قصيرة بين لوحاته، إن لديّ عينين مسكونتين بالحزن، وهذا ما شدّه إليّ.
حزن؟؟
نعم. حزن عذب لم يرَ مثله في حياته.
ثم قال أيضا إنه يريد أن يرسمني، فهل أقبل؟؟
أخذتني الدهشة من كلامه. لا، لم أقبل في بادئ الأمر، ولكنني قبلتُ أن آخذ منه رقم هاتفه.
«اتّصلي بي… إن أردت.» قال لي.
لم أتّصل به طوال شهر كامل وكدتُ أنسى وجوده. نعم، ربما كنتُ سأنسى وجوده تماما… لولا مشكلتي مع عدنان.
أتذكّر ذلك اليوم جيدا. لم أفكّر بشيء حين تركتُ البيت في ذلك الصباح، كما في كل صباح، متوجّهة إلى الجامعة. توقّف الباص على المحطة. وفجأة، مرّت صورته أمام عينيّ كما رأيته أول مرة.
هبطتُ من الباص.
لم تبدُ عليه الدّهشة حين اتّصلتُ به. كأنه كان يعلم تماما وينتظر اتّصالي في أية لحظة، ولكنه لم يقل شيئا حين فتح لي الباب. فقط ابتسم ودعاني للدخول.
وفي ذلك اليوم، قال لي كلاما لم يقله لي رجل في حياتي. لا أدّعي أنني عرفتُ الرجال من قبل، وما يمكنهم أن يقولوا لإمرأة، ولكن عدنان، الرجل الوحيد الذي عرفته حتى ذلك الوقت، لم يقل لي شيئا من ذلك حتى في أجمل أيامنا. وفي الحقيقة، لم يكن ملزما أن يقول. كل شيء كان جاهزا وحاضرا وينتظر، فلماذا يقول؟
جلسنا على الأرائك التي في غرفة الجلوس، جنبا إلى جنب. قال لي إنه يراني رمزا للأنوثة والرّقة وإنني النموذج لإمرأة أحلامه.
وأنا قلتُ له: «غريبة هذه الحياة كم تخبّئ لنا من أمور لم نكن نتوقعها على الإطلاق.»
فقال: «الحياة مليئة، غنيّة وكريمة أيضا. علينا أن نعرف كيف نقتنص منها لحظات السعادة.»
كانت له دائما فلسفته الخاصة في الحياة التي لا تشبه شيئا عرفته من قبل.
عدتُ إلى البيت بعد أن اتّفقنا أن أزوره في الغد حتى يبدأ برسم ملامحي. أحسستُ أن سعادة مفاجئة سكنت روحي.
لم يكن متزوّجا. في الخامسة والثلاثين من العمر كان لا يزال دون زواج، ويقول إنه يشعر كأنه ما زال مراهقا.
«أحسّ أنني قادر أن أحب بتدفّق حتى أكثر من زمان.» قال لي ذات يوم.
كانت علاقتنا تسعدني وتخيفني في ذات الوقت، فتارة أحسّ أنني محظوظة به وتارة يساورني الخوف لأن علاقتنا تحوّلت إلى شيء لم أخطّط له ولم يكن في الحسبان. ذلك الرجل المملوء بالأسرار أضحى أجمل شيء في حياتي. معه أحسستُ بسعادة لا تتّسع لها الدنيا.
كان قليل الكلام، لا يحب الأسئلة وعندما يحسّ أنني بالغت، كان يُسرع لملء الجو بالموسيقى.
«استمعي لهذه الموسيقى. إنها السيمفونية السادسة لبيتهوفن. ياه! اسمعي جيدا وأحسّي بها. أليست رائعة؟» ثم يجلس على الأريكة، يغمض عينيه ويطلب مني أن أفعل نفس الشيء. كنت أجلس بجانبه وأفعل ما يقول، ولكنني كنت أستغرب ذلك الوضع وأبقى أفتح عينيّ قليلا، أسترق النظر إليه، فأجده في عالم آخر بعيد… بعيد جدا… إلى أن تنتهي المقطوعة… فيفتح عينيه شيئا فشيئا، ويبقى يتأمّل في اللاشيء دقائق طويلة.
كان يعشق الموسيقى الكلاسيكية ويحلّق بها بعيدا عن هذا العالم، عن كل الهموم والأحزان، ويستبدل بها الثرثرة التي كنت أمتاز بها.
ذات يوم، بعدما فتح عينيه المغمضتين، تأمّل في وجهي طويلا، وقال: «لا أدري كيف لا ينتبه زوجك إلى كل هذا الجمال.»
«ومن قال لك إنه لا ينتبه؟»
«لو كان كذلك لما كنتِ تلتقين بي.»
فكّرتُ في كلامه. «يبدو أنك تعرف النساء جيّدا.»
ضحك من كلامي، وقال: «يعني أنني مُحقّ؟» ودون أن ينتظر جوابي، استطرد قائلا: «تعلمين ما مشكلة العديد من الرجال؟ أنهم لا ينظرون إلى نسائهم كثيرا، أعني لا ينظرون… لا ينظرون حقا، ربما لأنهم يجدونهن أمام وجوههم كل يوم فلا يشعرون بحاجة لرؤيتهن.»
«هل هذا يعني أنك ضد الزواج؟»
فكّر قليلا في سؤالي، ثم أجاب: «لا.»
«إذن، لماذا لم تتزوّج إلى الآن؟»
فضحك كثيرا، وقال: «لأنني لم أجد من تقبل بي.»
«معقوووول؟؟»
«ولِم لا؟؟»
«رجل مثلك يمكنه أن يجد العشرات من النساء بإشارة صغيرة من إصبعه.»
ضحك مرة أخرى ضحكته الساخرة. «المهم أنني وجدتكِ أنت.» قال فجأة، وأنا تأمّلتُ في وجهه، ابتسامة حلوة ارتفعت فوق شفتيه، غامضة الحزن.
لم يطل بي الأمر حتى طلبت الطلاق من عدنان.
لم يكن بالإمكان استمرار الحياة بيننا بعدما ذقت طعم الحب. رميتُ كل شيء قدمه لي عدنان وما كان بإمكانه أن يقدمه لي، وذهبت. استأجرت شقة في المدينة وسكنت مع سيرين. لم أقبل العودة إلى القرية رغم إصرار أهلي.
كنتُ قد أنهيتُ دراستي الجامعية، بدأت العمل وبقيتُ ألتقي مع أسامة في شقته.
كان يغيب كثيرا. كان يقول إن لديه عمل ما فيسافر، ويغيب أحيانا ليومين أو ثلاثة، أحيانا لأسبوع وحتى أسابيع. غيابه بات يثير في نفسي الفضول والشكوك. لم يكن يقبل أن يفسّر.
لم أعرف ما سرّ هذا الغموض الذي يكتنف هذا الرجل؟ إلى أين يسافر؟ وماذا يعمل؟
«ذلك لا يهم.» كان يقول. «المهم أننا نلتقي، نحب ونفرح.»
سألته ذات يوم، في شقته، على تلك الأرائك الحمراء التي في غرفة الجلوس، إذ كنا نرتشف القهوة التي حضّرها كما في كل مرة: «ماذا تريد مني؟» ذلك السؤال الذي شغل فكري طويلا.
نظر إليّ نظرة تعجّب ممزوج بالسخرية وارتشف من فنجانه. «ماذا تقصدين؟»
«أقصد أننا نلتقي هنا منذ ثلاث سنوات. كنتُ متزوّجة، والآن… لم أعد متزوّجة.»
«ماذا يعني ذلك؟»
«يعني لم يعُد يمنعك عني شيء.»
ضحك طويلا ضحكته الساخرة، المستفزّة. «لم يكن يمنعني عنك شيء حتى من قبل.»
لم أعُد إلى تلك الأسئلة بعد ذلك اليوم. أظن أنني لم أعد أكترث بها. الحب أكبر من تلك الأسئلة التافهة، قلت لنفسي مرارا وحاولت أن أطمئنها. لقد رفض أن يقول، وأنا كنت العاشقة الولهانة التي لم تعرف الحب من قبل.
لا أستطيع أن أتخيّله ميتا. كيف؟ وقد كان مفعما بالحياة، نابضا، هائجا، عاصفا، جذّابا… ولا أدري حقا كيف استطعت مقاومة كل ذلك في تلك الليلة… قبل رحيله.
كان ذلك بعد عودته من غيابه الطويل، الأخير. بدا مختلفا عما عهدته. كنتُ قد بدأتُ أرتاب من غياباته المتكرّرة وأحسّ أنه متورّط في أعمال مشبوهة يرفض الإفصاح عنها، تتصارع الأفكار في داخلي وتتشابك، ورغم حبي وانجذابي إليه، لم أستطِع رمي كل شيء مرة أخرى. لم أكن واثقة أبدا.
كنا واقفين هناك، على شرفة بيته المطلّة على البحر، ريحٌ باردة هبّت على وجهي، تطايرت معها خصلات شعري المموّج الطويل، وسرت في جسدي قشعريرة. وقفنا دقائق طويلة نتبادل النظر بيننا والصّمت مطبق علينا.
«عليّ أن أقول لك شيئا.» قال.
«ما هو؟»
لم يتعجّل. فكّر طويلا وهو يتأمّلني بنظرة غريبة لم أعرف تفسيرها، ثم قال بصوت هادئ جدا: «سأرحل.»
فوجئتُ به. «إلى أين؟؟!»
«يجب أن أترك هذه البلاد.»
أحسستُ بانقباض في صدري وأخذت دقّات قلبي تتصارع في داخلي. أرخيتُ وجهي وأحسستُ بالدموع التي تبلّل عينيّ. لا، لم أكن مصدومة. كنتُ أعلم في داخلي أن ذلك اليوم سيأتي لا محالة.
اقترب مني بخطوة، أمسك بيدي وغمرني بنظرات دافئة، حانية. «أريد أن أعرض عليك أمرا.» قال فجأة.
رفعتُ إليه رأسي وتأمّلته بإمعان. لم أكن قادرة على تخمين ما سيقول على الإطلاق.
«تعالي معي.»
بُهتُّ. «إلى أين؟»
أمسك بيدي الأخرى. «أريدك معي هناك.»
أحسستُ بلمسة يديه الناعمة ولم تكن بي رغبة في تلك اللحظة إلا أن أرتمي في حضنه وأحتمي في دفء عينيه، ولكنني وجدتُ نفسي أقول مرة أخرى: «أين؟»
«لا تسألي شيئا. فقط تعالي.»
حدّقتُ في عينيه الجميلتين، السّاحرتين، المغريتين، الزّاخرتين بشتّى المعاني.
«سأكون وحيدا جدا دونك.» قال ونبرته طافحة بالصّدق، وأنا أحسستُ بتوق لحمايته كما لم أحسّ من قبل.
لم تكن لي قدرة على قول شيء. أفكارٌ كثيرة انثالت على رأسي واستولت على كل كياني.
ثم اقترب مني أكثر وقبّل شفتيّ ببطءٍ ورقة خدّرتني، قبلة بائسة، مترجّية.
همس في أذني: «أحبّك جدا.»
نظر إليّ نظرة مستعطِفة، ينتظر ردّي. حاولتُ جاهدة التخلّص من قلقي وتوتري. «… أنا…» تمتمتُ، ولكنني توقفت.
ابتلعتُ ريقي بعسر. «… أظن… أنني… لم أعُد أحبّك جدا.»
لوهلة، لم أصدّق أن الكلمات قد خرجت من فمي. كيف؟ وقد كان حبه يتدفّق بداخلي ويتأجّج الشوق بين شراييني؟! ولكنني لم أعُد قادرة على التحمّل.
اتّسعت عيناه دهشةً وظلّتا مسمّرتين في وجهي، مشدوهتين لحظات طويلة… ثم أرخى نظرته، أخيرا، وابتعد عني بخطوة، أغمض عينيه وتنهدّ عميقا. لم يضِف شيئا. ولم أقُل شيئا. لم يعُد هناك ما يُقال.
لم أسمع منه بعد تلك الليلة ولم ألتقِ به أبدا. انقطعت عني أخباره تماما. أحيانا كنتُ أعود إلى تلك البناية التي كانت فيها شقته، أقف على الرصيف المحاذي، أو أجلس على المقعد الخشبي بالقرب من المكان، أتأمّل البيت وتلك الشرفة فتنثال أمام عينيّ عشراتٌ من صور الماضي من تلك الأيام الخوالي.
مضت بي الأيام وبقي يلازمني في أفكاري، ويراودني في أحلامي، وتتردّد في ذهني الأسئلة طوال سنوات. ولكن حياتي لم تتوقّف عنده. الحياة لا تتوقّف عند أحد. هكذا علّمتني الأيام التي سبقته والتي جاءت بعده. سنواتٌ كثيرة مرّت… حتى اختفت صورته من ذهني تماما.

قصة: حوا بطواش – كفر كما
15.9.2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة