أَبْعادٌ دلالِيَّةٌ وَفَنِّيَّةٌ في شِعْرِ الأَسْرِ
تاريخ النشر: 20/09/18 | 19:30عبد الناصر صالح أنموذجًا ….. تَطْرَحُ دِراستي التي جاءَتْ مَوْسومَةً “بأبعاد ك دلاليةٌ وفنيةٌ في شعرِ الأسرِ” ألشَّاعِرَ عبدَ النّاصِرِ صالح أَنْموذجا، لِتُجيبَ على حُزْمَةً مِنَ الأسئلةِ مِنها:
1-هَلْ يُشكُلُّ أَدَب الأسْرِ فَتحاً جَديداً في المَشْهَدِ الإِبداعِيِّ أمْ يَتَّصِلُ بِموروثٍ أَدَبِيٍّ؟
يُسَجَّلُ الأُسْرُ في الموروثِ الأدبِيِّ عندَ العَرَبِ ابتداءً مِنَ الجاهليَّةِ، مُرورًا بِعُصورِ الأَدَب جَميعًا، وُصولًا إلى التّاريخِ الحديثِ وِلا سِيَّما في فِلَسطينَ الّتي تُعَدُّ حالةً خاصَّةً في المَشهَدِ الحديثِ، فلا نَكادُ نَجِدُ مُجتمعًا أوْ رُقعةً فِلَسطينيةً تَخْلو مِنْ سَجينِ رَأْيٍ أوْ مَوْقِفٍ أوْ مُقاوَمَةٍ مباشرة.
وقد كانَ لِلشُّعَراءِ نَصيبٌ وافِرٌ مِنَ التّجارِبِ في السُّجونِ في العُصورِ الأدَبِيّةِ لِأسبابٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنها لجوءُ بعضِ الشُّعَراءِ للهِجاءِ، مِمّا يدفَعُ القائمينَ عَلى الأُمورِ لِحبسِهِمْ دَرْءًا لِصواعِقِ أَلْسِنَتِهِمْ بِسَبَبِ ما كانَ لِلشعرِ مِنْ آثارٍ نقدِيَّةٍ تميلُ إليها عواطِفُ الناسِ.
وقَدْ نَظَمَ الشُّعَراءُ الجاهليونَ الّذينَ تعرَّضوا للسَّجْنِ قصائِدَ في مَحابِسِهِمْ مِما يَعْني أنَّ أَدَبَ السُّجونِ بَدَأَ مَعَ طُفولَةِ الشِّعْرِ العَرَبِيّ،ِ بَلْ كانَ طبيعيًّا جِدًّا لأنَّ الشّاعِر الجاهِلِيَّ كانَ شديدَ الإحساسِ بِما يَدورُ حَوْلَهُ ويعايِشُهُ مِنْ أحداثٍ، فَلذلِكَ عبَرَّ عَنْها بِقصائِدَ كانَتْ تُرجمانَ نَفْسِهِ وما تَحْمِلُ مِنْ عَواطِفَ وَهُمومٍ، وَقَدْ دَخَلَ العديدُ مِنَ الشُّعَراءِ القُدامى السُّجونَ لِأسبابٍ جُلُّها سياسِيٌّ، أَوْ بِفِعْلِ مَكائِدِ الخُصومِ في البَلاطِ.
إنَّ الحديثَ عَنْ تَجَلِّياتِ السِّجْنِ في قَصائِدِ شُعراءِ العَرَبِ يستدعي بالضرورةِ معاينةَ قصائِدِ أبي فِراسٍ الحَمدانِيِّ، فَقَدْ عُرِفَ بالرُّومياتِ الّتي نَظَمها في أَثْناءِ أَسْرِهِ لَدى الرُّومِ.
ولا نَنسى الإشارةَ إلى شَاعِرِ العربيَّةِ الأكْبَرِ أبي الطَّيِّبِ المُتنبي الّذي قامَ بِثورةٍ في مَطْلَعِ شبابِهِ لِتحقيقِ طُموحاتٍ قوميَّةٍ عَلى ما يَقولُ الرُّواةُ
ويُسَجِّلُ أَدَبُ الأسرى في التاريخِ الفِلَسطينِيِّ المُعاصِرِ حُضورًا ملموسًا ابتداءً مِنْ فترَةِ الانتدابِ مُرورًا بِنكبَةِ فِلَسطينَ، فَالنكسةُ فالانتفاضةُ، وتوقيعُ اتِّفاقِ أُوسلو. وهذِهِ الأحداثُ أفرزتْ شُعراءَ فِلَسطينيينَ قَدّموا أروَعَ أمثلَةِ الأَدَب المُقاوِمِ، كَما حَضَروا في الميدانِ، مِمّا عَرَّضّهُمْ للاعتقالِ والأَسْرِ دونَ أّنْ يَكْسِرَ ذلكَ شوكَتَهُمْ بَلْ جعلَهُمْ أَشَدَّ إصرارًا على المُضِيِّ في طَريِقِ النِّضالِ.
2- هَلْ عَبَّرَ شِعْرُ الأسْرِ عَنِ الثّوابِتِ الوطنيةِ ومُتغيراتِ المَشهدِ السّياسيِّ والنضالِيِّ؟
آمَنَ شاعِرُنا عَبْدُ النَاصِرِ صّالِحِ أنَّ السِّجْنَ مَدْرَسَةٌ يتخرجُ فيها المُناضلونَ وَهُمْ يَحملونَ أوسمَةَ العِزَّةِ والكرامَةِ، لِذلكَ لَمْ يكبَحِ السِّجْنُ جُموحَ طُموحاتِهِ المَشروعَةِ، بَلْ كانَ السِّجْنُ حافزاً أكبَرَ لِكَيْ ينطلِقَ بِعنفوانٍ أقوى في مَيدانِ النِّضالِ.
وبدا في حالَةِ هُدوءٍ نفسيٍّ وانسجامٍ كبيرٍ مَعَ الذّاتِ بسبب إيمانِهِ اليقين بِعدالَةِ قَضيتِهِ. وَلهذا لا يَشْعُرُ بِوطأَةِ السّلاسِلِ ولا يَراها قادِرَةً عَلى إيقافِ مَسيرتِهِ اليَقينيةِ مُقاتِلاً في سَبيلِ الكَرامَةِ، فَهُوَ صَيْحَةُ العَدْلِ المُدَوِّيَةُ في سَماءِ الحقيقةِ، ولذلِكَ صَمِّمَ عَلى الجهرِ بِالحقيقةِ إلى أَنْ يَستعيدَ الإنْسانُ الفِلَسطينيُّ أرْضَهُ بَعْدَ طولِ اغْتِرابٍ وفُقدانٍ.
ولقدْ سارَ شاعِرُنا في هذا الخطِّ السّامي، منذُ مَطلَعِ شبابِهِ في الجامعة، ممّا جعلَهُ يفقِدُ حريَّتَهُ في مُعْتَقَلاتِ الاحتلالِ، إلا أنَّ أَسرَهُ لَمْ يجعلْهُ يستسلِمُ أوْ يلينُ أو يتنازَلُ عنْ مبادِئِهِ، لذلكَ كانَ يوجِّهُ مِنْ مُعْتَقَلاتِهِ نداءاتٍ دائمةً تستنهِضُ الهِمَمَ وتذكِّرُ بضرورَةِ الحِفاظِ على الحُقوقِ ومُقاومَةِ المُحتلِّ بالوسائِلِ كافَّةً.
وفي مَعْرِضِ حديثِهِ عَنِ الانتفاضَةِ وَهُوَ أسيرٌ في مُعْتَقَلَهِ يتغنّى بِالحَجَرِ الّذي أَرْعَبَ المُحْتَلَّ، يَقولُ شاعِرُنا في قصيدة “في البَدْءِ كانَ الحَجَرُ”
في البَدْءِ قَدْ كانَ الحَجَرْ\\ بَيْتًا، إلهًا للعبادَهْ
قَدْ صارَ الحَجَرْ\\ رَمْزًا لتحقيقِ السِّيادَهْ.
3 ــ ما معالم الصورة المبتكرة للشهيد في شعر عبد الناصر صالح؟
وفي نبرَةٍ مَلْحَمِيَّةٍ مليئَةٍ بِالنَّفَسِ القَومِيِّ وبِبريقِ الإرادَةِ وقُوَّةِ الشَّكيمَةِ يَطلُبُ شاعِرُنا منَ المناضِلِ الاستمرارَ وَعَدَمَ الاستسلامِ للجراحِ، فيقول:
لا تَكْتُبْ وَصَيَّتَكَ الأَخيرة
وانْتَظِرْ. هيَ ضَرْبَةٌ أُخْرى\\ ويَكْتَملُ القَمَرْ.
وللشُّهداءِ نصيبٌ وافِرٌ مِنَ القصائِدِ الّتي كَتَبها في الأسْرِ، فالشُّهَداءُ هُمْ مَنْ يَرسِمونَ طريقَ النَّصْرِ لِلوَطَنِ ويُعَبِّدونَ مسالِكَهُ، وَيُعَلِّمونَ الأجيالَ معنى التَّضْحِيَةِ لِنُصْرَةِ الحَقِّ والعدْلِ، وَلِذلِكَ تبرُزُ كثيراً في قصائِدِهِ مُفردَةُ الشَّهيدِ وَمُشْتقّاتُها، وَمِنها قَصيدَةٌ لَهُ بِعنوان “هَلْ غادَرَ الشُّهَداءُ” نَلْمَسُ فيها جَوَّاً مَلْحَمِيَّاً يُعَدُّدُ مَآثِرَ الشُّهَداءِ في حُضورِهِمْ الدَائِمِ وصناعَتِهِم ذاكِرَةَ الوَطَنِ يَقولُ (مِنْ قصيدَةِ “المَجْدُ ينحني لَكُمْ”، ص91) ــ
يَتَسابقُ الشُّهَداء\\ تِلْكَ رصاصَةٌ في الرّأْسِ تَهْوي
تَحْملُ البُشْرى لأَجْيالِ العَرَبْ\\ لَمْ يَرْحَل الشُّهَداء
لكِنَّ انتفاضَتَهُمْ \\ على مَرِّ السِّنينِ ـ سَتُنْقِذُ الفِكرَ الفِلَسطينيَّ من نَارِ الخُطَبْ
4- ما تأثيرُ التَّجْرِبَة الاعتقالِيَّةِ على التَّجْرِبَة الشِّعْريَّة لَدى الشّاعِرِ عبدِ النّاصِرِ صالح؟
يُعَدُّ الشّاعِرُ عَبْدُ النَاصِرِ الصّالِح مِنَ الشِّعْراءِ الفِلَسطينيينَ المجددينَ في القصيدَةِ العربِيَّةِ جامعِينَ بَيْنَ المَوروثِ الأدبِيِّ العَرَبِيِّ ومُعطياتِ الحداثَةِ، فَقدْ نَهَل مِنْ عِلْمِ العَروضِ، واستوْعَبَ المُوسيقى الشِّعْريَّة، باطِّلاعِهِ علىالشِّعْرِ القديمِ، لذلك اعْتنى شاعِرُنا عَبْدُ النَاصِرِ الصّالِح بالصُّورَةِ الشِّعْريَّة في جميعِ أطوارِ مراحِلِهِ الشِّعْريَّة ابتداءً مِنَ القصائِدِ الّتي كتبها في السُّجونِ الّتي اعْتُقِلَ فيها لِنشاطاتِهِ النِّضاليَّةِ وَمُروراً بِحضورِهِ الوازِنِ في المَشْهَدِ الشِّعْريِّ الفِلَسطينيِّ المعاصِرِ، إنَّ المُتأمِّلَ في شِعْرِ عبدِ النّاصرِ صالح يَجِدُ أنَّ الأسْرَ قَدْ مَنَحَ قَصائِدُهُ فَضاءاتٍ دلالِيَّةً جَديدةً لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنها الشَّاِعُر قّبْلَ أَسْرِهِ، وَيَكْتَشِفُ أَنَّ البِناءَ الفّنِّيَّ قَدْ تَأَثَّرَ بِمُفْرداتِ الأسْرِ كما يَقِفُ مُتَأمِّلًا على تَأثيرِ السَّجْنِ على تَشكيلِ الصُّورةِ الفّنِّيَّةِ.
5- ما أبرَزُ القَضايا الّتي شَغَلَتْ مِساحَةً في شِعْرِ الأَسْرِ لدى عبدِ النَّاصِرِ صالح؟
ومِنَ القضايا التي شَغَلَتْ مِساحَةً في شِعْرِ عبدِ الناصرِ صالح الرُّموزُ الّتي يَسْتَخْدِمُها، وَعلى سَبيلِ المِثالِ عِبارَةُ المَوْكِبِ الّتي يُشيرُ معناها إلى النّاسِ السّائرينَ جَماعةً، وَلكِنَّها تَأتي لِاختزالِ فِكْرَةِ الانْطِلاقِ الجَماعِيِّ نَحْوَ الحُرِّيّةِ، فهي موازيَةٌ للحركَةِ والانتفاضَةِ والتقدُّمِ للأمامِ، وتلخِّصُ فِكْرَةَ المسيرِ نَحْوَ المُسْتَقبلِ بِخُطىً ثابِتَةٍ واعِيَةٍ لا تتوقَفُ على الرُّغْمِ مِنَ العواصِفِ، وَقَدْ كررها في مَواضِعَ عِدَّةٍ في شِعْرِهِ كَقَوْلِهِ في قَصيدتِهِ “رسائلُ من الزنزانة”
المَوْكِبُ المَوْعودُ شَقَّ طريقَهُ عَبْرَ البِحارْ
وَسَرى..تُعانِقُهُ النَّسائِمُ والمَحارْ
ورأيتُ طَلْعَتَكِ النَّدِيَّةَ من بَعيدْ… مَثُلَتْ أَمامي مثلَ طَيْفٍ لا يَحيدْ.
كَما يحضُرُ رَمْزُ البَحْرِ أيضًا في قَصائِدِ شاعِرِنا حُضورًا واضحًا، والبَحْرُ في الغالِبِ صورةٌ رَمْزِيّةٌ، تُوحي بالانكسارِ والانتصارِ أي النزوح والعوده، وَهُوَ مِنَ العناصِرِ الطّبيعيّةِ الّتي وَرَدَتْ بِكثرةٍ في الكتاباتِ الإبداعيَّةِ المعاصِرَةِ، واتَّخَذَتْ أبعادًا جمالِيَّةً وإنسانِيَّةً، وقدْ كتبَ شاعِرُنا مطوَّلَةً شعريَّةً أسماها نَشيدَ البَحْر، ضمَّنها كُلَّ المَعاني النِّضالِيَّةِ الّتي تَمورُ في أعماقُهِ. يقولُ في أَحَدِ مقاطِعِ مُطَوَّلَتِهِ نَشيدُ البَحْرِ:
هُوَ البَحْرُ لوْنُ البلادِ المُقَدَّسْ
حينَ يصوغُ الرّبيعُ أخاديدَها
ويُهدهِدُ منها الجُذورَ الدّفينةَ
وَنَجِدُه يستخدِمُ النّباتاتِ رموزاً تَحمِلُ دلالاتِ الوَطَنِيَّةِ والانْتماءِ والانْدماجِ التّامِ بَيْنَ المُواطِنِ والوَطَنِ. فَمِنْ ذلكَ اسْتِخدامُهُ لَفظتَي الزَّعْتَرِ والحِنّاءِ في قَصيدتِهِ “هل غادر الشُّهَداء “ديوان المجد ينحني لكم.
للشُّهداءِ لوْنُ الزَّعترِ البَريّ والحِنّاءِ
أَقْمارٌ تُحلِّقُ في السَّماءِ\\ ورايَةٌ للمَجْدِ تَخْفُقُ في فَضاءِ القَلْبِ
فَالزَّعتَرُ والحناءُ لَهُما لَوْنُ الخُضرةِ، الّتي تُوحي بِالإشْراقِ والجَمالِ وَفَصْلِ الرَّبيعِ، وَلكِنَّها حيْنَ ترتَبِطُ بالزَّعْتَرِ والحنَّاءِ فذلِكَ يَعني التَّعبيرَ عَنْ فِكرَةِ الانْتماءِ للوَطَنِ ويمكن لنا أنْ نختَزِلَ أَهَمَّ تَجَلِّياتِ الصُّورَةِ الشِّعْريَّة في قصائِدِ الأسْرِ في الظّواهِرِ الآتِيَةِ الرَّمْز والإيحاء
وهي مِن الأدواتِ التعبيريّةِ لدى الشّاعِرِ لِتَوصيلِ كَلِمَتِهِ إلى القارئِ، وهوِ استخدامُ لفظٍ ينوبُ عنْ كلماتٍ كثيرةٍ وَيَحْمِلُ معانٍ متعددةً، “وهواستخدامُ إشارةٍ أو صورةٍ مُحَدَّدَةٍ لْلتّعْبيرِ عنْ عواطِفَ وأفكارٍ مُجَرَّدَةٍ، أيْ أنَّ هُناكَ تَبادُلًا بَيْنَ الكَلِمَةِ وما تَرمُزُ إليه.
6-هَلْ تحقَقَ تناغُمٌ واندِماجٌ بينَ التقنياتِ الفَنِّيَّة والبِنائِيَّةِ والأبعادِ الدّلالِيَّةِ في شِعْرِ الأسْرِ؟
اشترط بَعْضَ النُّقادِ المعاصرينَ في التَّشْبيهِ ألّا يكون َ متكلّفاً أو مصطنعاً بل ينبغي أن يكون منسجماً مع الدلالةِ والشعورِ والإيقاع ، واشترطوا أنَّهُ لا يمكِنُ أنْ يُعدُ التَّشْبيهُ صورَةً إلّا إذا عَبَّرَ عنْ خواصَّ مُحَدَّدَةٍ محسوسَةٍ تُؤدي إلى تعديلِ رُؤيَةِ الأشياءِ
يرْبِطُ الشّاعِرُ بينَ بريقِ وَجْهِ أُمِّهِ والنهارِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بينَهما هُوَ الضَّوْءُ السّاطِعُ الّذي يُبَدِّدُ الظُّلْمةَ، كَما يَربِطُ وَجْهَ أُمِّهِ بِالمَوْجِ الّذي يعانِقُ اللآلئَ القادِمَة َمِنْ أعماقِ البَحْرِ، وَكَأَنَّ الشّاعِرَ بِهذا التَّشْبيهِ يَجْعَلُ أُمَّهُ اسماً مُرادِفاً لِلوَطَنِ، فالأمُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ أُمّاً بيولوجِيَّةً فَحَسْبَ، بل هي أمومةُ وَطَنٍ،
فالاستعارات التي وَظَّفها الشّاعِرُ في سِياقِ المُعاناةِ والصُّمودِ والرِّحْلَةِ نَحْوَ الحُرِّيّةِ، جعلت اللَّيْلَ والرّيْحَ وَالمَوْتَ خُصوماً تُحاصِرُهُ أينَما اتَّجَهَ، وقِمَّةُ الجّوِّ المَلْحمِيِّ حينَ يُشّبِّهُ المُحْتَلَّ بِاللَّيْلِ الّذي يطارِدُهُ، لِيفْتِكَ بِهِ، ويشبِّهُ المَوْتَ كذلكَ بِالعَدُوِّ الّذي يطلُبُ النَّيْلَ مِنْهُ، وَيرى الواقِعَ البائِسَ المليءَ بالظُّلْمِ يُحاصِرُهُ أيْنما تَحَرّكَتْ عَيْناهُ وَوَطِئَتْ قَدَماهُ كَالرّيحِ القَاسِيَةِ العَنيفَةِ الّتي تَسُدُّ الطَّريقَ وتُعَرْقِلُ المَسيرَ بِدوّاماتِها الهائِجَةِ.
وَتَبْدو الاسْتِعارَةُ واضِحَةً في قَوْلِهِ “المجدُ ينحني لَكُم” إذ شبَّهَ المَجْدَ بِالإنسانِ الّذي يِنحني لِأبطالِ انْتفاضَةِ الحِجارَةِ، الّذينَ صَمدوا في وَجْهِ الجلّادينَ ودافعوا عَنْ بِلادِهِمْ بِدِمائِهِم الزَّكِيَّةِ.
وتُعَدُّ الظّواهِرُ الصَوْتِيَّةُ واللُّغَوِيَّةُ كالتَّكرارِ مِنْ عناصِرِ بِناءِ الصُّورَةِ الشِّعْريَّةِ لدى الشِّعْراءِ، فِالتكرارُ يُحقِّقُ التّماسُكَ في المُكوناتِ البِنائيةِ لِلنَّصِّ، والانسجامَ في السِّياقِ النَّفْسِيِّ لِلمتَلقّي يِشكُلِّ مَظهراً إيقاعِياً وَمَعنويَّاً بِنائِياً مًتميزاً يزيدُ مِنْ قُوَّةِ التَّجريَةِ، وَيعزِّزُ مِنْ كَثافَةِ الصُّورَةِ.
ولا تكادُ تَخلو قصائِدُهُ مِنْ هَذا التَكرارِ الفَنِّيِّ الّذي يزيدُ النّصوصَ تأثيراً عَلى المَتلقي وتقريباً لِلمضامينِ الدّلالِيَّةِ، وإشاعةَ جَوٍّ مَلْحمِيٍّ حماسِيٍّ في حنايا الكلماتِ يجعَلُ المُتلقي يَعيشُ لَحْظَةَ الكِتابَةِ لَدى الشّاعِرِ ويشاطِرُهُ انْفعالاتِهِ وثورَةَ مشاعِرِهِ. يقولُ شاعِرُنا في قَصيدةِ “في البدءِ كان الحَجَرُ”:
يَتَجَلى تَكرارُ كلمةِ المَجْدِ، حرفُ اللّام، مجرورات، للسواعِدِ، لِلمقلاعِ، للمتراسِ، للكوفيةِ، للشوارِعِ، وكُلُّها تكراراتٌ تَنْقُلُ للقارِئِ رسالَةَ الشّاعِرِ الّتي اجْتَهَدَ في إيصالِها بِكثافَةٍ، فَقَدْ جَعَلَ المَجْدَ صِفَةً لأدواتٍ نِضالِيَّةٍ تُجَسِّدُ الصُّمودَ والثَّوْرَةَ عَلى المُحتل وَرَفْضِ الخنوعِ والخُضوعِ. هَذا البناءُ الفَنِّيُّ المتماثِلُ يُشبِهُ هندَسَةً مُتْقَنَةً يَحْضُرُ فيها تصميمُ الأبعادِ الفنية، واعتناءٌ واضِحٌ بِالمعاني والانفعالاتِ، وَمَنْحُ جماليَّةٍ لِلنَّصِّ عَبْرَ هذا التوازِنِ بينَ الألفاظِ والكلماتِ ودلالاتِها.
يُكَرِّرُ الشّاعِرُ كَمْ الخبرِيَّةَ في أَسْطُرٍ للدّلالَةِ على كَثْرَةِ المآثِرِ الجليلةِ للشُّهداءِ، ودوْرِهِمْ في زَعْزَعَةِ عُروشِ القَمْعِ، بِالشَّكيمَةِ الّتي أبْدَوها والرَّفْضِ الّذي أعلَنوهُ رُغْمَ جميعِ العواقِبِ، فأفشلوا خُطَطَ الغُزاةِ بِالتضحياتِ الّتي قَدّموها والّتي أَلْهَمَتْ أجيالاً جَديدَةً مِنَ الثّائرينَ.
نتائج وتوصيات
1ــ يُعَدُّ شِعْرُ الأسْرِ في الأَدَبِ الفِلَسطينيِّ امتدادًا لِإرْثٍ شِعْرِيٍّ عَربِيٍّ مُوغِلٍ في القِدَمِ.
2- يُشَكِّلُ شِعْرُ الأَسْرِ وثيقَةً تاريخِيَّةً تَرصُدُ أبْرَزَ الأحداثِ في مَسيرَةِ النِّضالِ الوَطَنِيِّ.
3- تتماهى ذاتُ الشّاعِرِ الأسيرِ مَعَ هُمومِ الجماهيرِ خارجَ الأسْرِ.
4- أفادَ الشّاعِرُ الأسيرُ مِنَ التَّجْرِبَةِ الاعتقاليَّةِ في تكثيفِ الصُّورَةِ الفَنِّيَّةِ مِنْ خِلالِ الرَّمْزِ والإيحاءِ.
5- عَبَّرَ الشّاعِرُ الأسيرُ عَنْ نَبْضِ الجماهيرِ عَلى الرُّغْمِ مِنْ وُجودِهِ في الأسْرِ.
6- لَمْ يكتفِ الشّاعِرُ الأسيرُ بِوصْفِ المَشْهَدِ الفِلَسطينيِّ بَلْ رَسَمَ طريقًا لِلخلاصِ.
7- لَمْ تُؤَثِّرْ قسوَةُ الأسْرِ والتّعْذيبِ والحِرمانِ على عُنفوانِ الشّاعِرِ وإصرارِهِ عَلى الخلاصِ والحُرِّيّةِ.
8- تجاوَزَ شِعْرُ الأَسْرِ مراحِلَ الانْكِسارِ والارتدادِ السِّياسِيِّ، وظَلَّتْ القصيدَةُ إيقاعًا ثائِرًا وَرَصاصَةَ كَلمةٍ.
9- يُجَسِّدُ الشَّهيدُ أيقونَةً دَلالِيَّةً وِجْدانِيَّةً في مُعظَمِ المُنْجَزِ الشِّعْريِّ في الأسْرِ لَدى الشّاعِرِ عَبْدِ النّاصر صالِح.
10- أَسْهَمَ البِناءُ الفَنِّيُّ والتَّركيبِيُّ في تَعزيزِ مَنظومَةِ القِيَمِ الوَطَنِيَّةِ، والتَّحريضِ على المُقاومَةِ في شِعْرِ الأَسْرِ.
( الورقة التي شاركت فيها في مؤتمر “قضية الأسرى في الأدب الفلسطيني المعاصر والذي عقد في 12 من هذا الشهر في مدينة رام الله بمشاركة جامعة القدس المفتوحة ممثلة بكلية الاداب وهيئة شؤون الأسرى، وحملت عنوان “أبعاد دلالية وفنية في شعر الأسر” عبد الناصر صالح أنموذجا )
بقلم: ايمان مصاروة