مأساة الحلاج
تاريخ النشر: 21/09/18 | 7:58والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت
إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي
ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهــم
إلا و أنت حديثي بين جلاســي
ولا ذكرتك محزوناً و لا فَرِحا
إلا و أنت بقلبي بين وسواســـي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس
ولو قدرتُ على الإتيان جئتـُكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس
ويا فتى الحيّ إن غّنيت لي طربا
فغّنـني وأسفا من قلبك القاســـي
ما لي وللناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للنـــاس
بهذه الابيات الرائعة رسم شاعرنا الطريق للعشق الالهي ولسمو القلوب عن كل ما يشغلها عن الله واذاب بكلماته الرقيقة قلوب قاسية لم تعرف الله يوما فأحبه الناس والتفوا حوله…شاعرنا اليوم هو ابو المغيث الحسين بن منصور الحلاج الفارسي الاصل والذي نشأ وترعرع بالعراق .
اما عن تسميته بالحلاج فيقال إنه امتهن مهنة ابيه بحلج الصوف ، وقيل انها احدي كراماته فبينما هو جالس بدكان حلاج وبه قطن غير محلوج، وقد انصرف صاحب الدكان لحاجةٍ فلما عاد وجد قطنه محلوجاً، فذاع الامر . وقيل ‘حلاج الأسرار’ لدرايته بها واطلاعه عليها.
منذ نعومة اظافر شاعرنا عرف طريقه الي الصوفية وتعلق قلبه بحب الله فيقول: متى سهرت عيني لغيرك أو بكت … فلا بلغت ما أملت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فلا رعت … بأرض المنى من وجنتيك وجنت …ويرى الحلاج أن أعلى درجات المحبة تحدث حينما يتخلي الإنسان عن ذاته بالكلية فيفنى عن ذاته في ذات محبوبه الأعلى،فلايرى في الوجود سوي الله، وهو ما جسده في هذا النظم الرائع:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ** نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ** وإذا أبصرته أبصرتنا…
لقد امتلك الحلاج لغة خاصة لايعيها الا من عرف ان الطريق الي السعادة غاية لا يدركها الا من ذاب في حب الله و استغني بالله عما سواه لهذا لا غرو ان كلماته بدت مبهمة لكثير من معاصريه من رجال الدين حتي الصوفيين منهم الذين اتهموه بادعاء النبوة وفي احيان اخري ادعاء الالوهية ..
لم تكن مأساة الحلاج الوحيدة لغته انما كانت مأساته الاخري هي انه نحا منحي مغايرا لما عرف عن قدامي الصوفيين والمعاصرين من اعلام الصوفية في زمنه من حب العزلة والاستغراق في العبادة وترك امور الدنيا وجهاد النفس في صمت فالجهاد عند الحلاج تعدي جهاد النفس الصامت الي جهاد الاوضاع الاجتماعية والسياسية المحيطة بالنفس فقاد الحلاج منهجا اصلاحيا قائما علي نبذ الظلم والطغيان والفساد الذي مثله البيت العباسي في زمنه وراح يتنقل بين البقاع المختلفه حاملا دعوته الشريفة فأحبه الناس واعتنقوا مذهبه في الحرية فلما طار خبره الي الخليفة العباسي المقتدر بالله- والذي تولي الحكم صبيا في الثالثة عشر من عمره وسيطرت عليه امه – قبض عليه وأتهمه بالكفر والزندقة .
كان الحلاج ثابت الجأش وهو يواجه اتهام هو ابعد ما يكون عنه فحب الله ليس الحادا وعشق الله ليس زندقة وقال لقضاته متحديا :ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه ، وأنا اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والعشرة الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين فالله الله في دمي…، لكن قوله لم يفت في عضد مناوئيه ونفذوا حكم المقتدر بالله فيه فجلد الف سوط وقطعت يداه وقدماه واحرقت جثته ولما صارت رماداً ألقوها في دجلة، ونصبت رأسه علي الجسر ببغداد..
واتفق أن زادت دجلة في تلك السنة زيادة وافرة، فيما اعتبرها اتباعه من كراماته..
كان مصير الحلاج مروعا ولقد لاحقت لعناته خلافة المقتدر بالله فشاء الله ان يدب الخلاف بين قائد الجيش “مؤنس الخادم” وقائد الشرطة “محمد بن ياقوت”، فانحاز المقتدر لابن ياقوت، بينما انضم معظم الجيش لقائده “مؤنس”، ووصل الصراع الي مواجهة مسلحة قتل فيها المقتدر بأيدي احد افراد جيشه وذبح بالسيف واجتثت رأسه على رمح وسلب ما عليه وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش وهكذا كان انتقام الله جزاءا وفاقا.
د.محمد فتحي عبد العال – باحث وكاتب مصري