قراءة وتحليل لقصيدة “أشرعة العراء” للشاعر الفلسطيني “صالح أحمد كناعنة”
تاريخ النشر: 02/10/18 | 10:34نص القصيدة:
///
أشرِعَةُ العَراء
شعر: صالح أحمد (كناعنة)
///
فتّشتُ عن يَومي فقادَتني المرايا للعيونِ الساهِراتِ على الوجَع
لا شَيءَ يُشبِهُني هُنا!
لا شَيءَ يُقنِعُني هُناك!
كيفَ انزَلَقتُ إلى السّرابِ أنا الذي ما زلتُ أبحَثُ عَن حُروفٍ
أستَطيعُ بأن أصوغَ بِها أناشيدَ انطِلاقي كَي أرى…
شمسًا بحجم يدي، وأمنِيَةً بحَجمِ بَراءَتي…
والريحُ تجمَعُني، وأتبَعُها، وتَسحَبُني إلى…
أفُقٍ على عَطَشٍ تَغَرَّبَ عن ملامِحِهِ ليبحَثَ عَن غَدٍ؟!
ويَصُدُّها عنّي اختلاطُ الواقِفينَ على نَواصي المَوجِ…
ثمَّ يرُدُّني لجُنونِها عطَشٌ، وما في الموجِ مِن نَجوى الزّبَد.
..
كيفَ انزَلَقتُ إلى النّهاياتِ الغَريبَةِ أيُّها الحبُّ الذي…
ما زِلتُ أبحَثُ عن خيوطِ شُروقِهِ…
ليكونَ لي صَدرًا ومَرفَأ؟
كلُّ المَفارِقِ للغُروبِ تَشُدُّني، وأنا الذي…
ما زِلتُ أبحَثُ عَن شروقٍ ما يُفَجِّرُ فيَّ إنسانَ البِدايَة!
وتكونُ لي لُغَةٌ
وأكونُ أغنِيَةً
وأحسُّ لي شَفَةً
تقتاتُ مِن شَغَفي
لتَصيرَ لي صِفَةٌ
وأعودُ أبحَثُ عَن يَدي في لُجَةٍ…
أعتى مِنَ الحُلُمِ الذي عاقَرتُهُ.. وأضَلَّني…
فغَدَوتُ حَرفًا حَنَّطوه!
هذا صَداهُ بلا جَسَد!
..
يا مَهبِطَ الأحلامِ مِن وَجَعِ الصّدى
هل في المدى جِهَةٌ بلونِ ملامِحي؟
وجهي الغُروبُ ومعصَمي شفَقٌ أوى
وَجَعَ النَّشيدِ على جُنونِ جَوارِحي
عينايَ سارِيَةٌ تخافُ مِنَ الهَوى
حتى مَ والأهواءُ كُنَّ مَسارِحي
بحثًا عَن الأبعادِ أهذي والرُّؤى
ريحٌ… سأوقِدُ شُعلَةً لجَوانِحي
وأعودُ أبحَثُ عن مَفاتيحي التي غَرِقَت…
بِمَوجٍ ما اهتَدَيتُ لسِرِّهِ..
ويجيئُني غضَبًا على غَضَبٍ وأشرِعَتي العَراءُ..
وَمَوطِئي زِبَدٌ… وقَد وَزَّعتُ أعضائي على
جُدُرِ التَّنائي، والتّجافي، والتَّشَرذُمِ، واللَّهَب…
..
ظِلٌّ يَدي..
غَيبٌ غَدي..
لا حَرفَ لي آوي إليهِ لأتّقي
شرَّ انفِصامي، واختِلافَ مَلامِحي!
كلُّ الحُروفِ تَصُدُّني!
هَل أتّقيها؟
أم تُراني أتّقي كَفّي التي عَقَّت يَدي؟
::::: صالح احمد (كناعنىة) :::::
***
قراءة وتحليل القصيدة بقلم الأستاذ “هيثم رفعت”
///
عرض شعري مبهر يمثل تلك الكلمات الراقصة على مسرح الورقة بلحن شجي وعازف متنوع لفنون المجاز عبر النظر إلى الخلف واسترجاع ما كان لمقابلة الحاضر من جديد
وهنا قدم شاعرنا النص الذي يشبع خيال القارئ وكان هذا النص كبحر شاسع يجدف فيه عقل ووجدان ذلك القارئ حيث يشاء وهنا تظهر جمالية قابلية النص للتأويل- و إن غلب عليه النمط الوجداني – وبكل الانعكاسات الدلالية لرحلة المتن حيث استهلها شاعرنا بعنوان كان اللافتة المختزلة المعبرة عنه ، أشرعة العراء : الشراع أداة للتوجية ولكنها مغلوبة على أمرها و بحاجة إلى قوة تحركها أو تدفعها ، العراء مكان مفتوح محفوف بالمخاطر – ملكيته للعدم – وهنا لخص لنا شاعرنا الرحلة الانسانية في جملة مركبة مشعة بالحقيقة والمعنى
من أدب الحكمة و الفلسفة وما أشرف ذلك من مداد .
و المفلت للنظر في هذا النص طريقة صياغته وذلك التنوع الفني لأنماط الشعر و هذه الصياغة تساهم في انتاج المعنى لأنها تعكس الرغبة الداخلية لوجدان شاعرنا في جمع الشتات بالمفهوم الضيق والواسع ، الضيق أن الشعر كيان واحد و هو نبض الحقيقة مهما كان شكل ذلك الوريد الذي يتدفق منه ،و المعنى الواسع يمثل الرغبة الملحة لجمع من تفرقوا بلا سبب منطقي مفهوم وهو حال أوطاننا أو شعوبنا – (أفُقٍ على عَطَشٍ تَغَرَّبَ عن ملامِحِهِ ليبحَثَ عَن غَدٍ؟!
ويَصُدُّها عنّي اختلاطُ الواقِفينَ على نَواصي المَوجِ…))
و ما مثل ذلك من قبول الاختلاف و امكانية العيش المشترك و هذا كله يعكس وجع شاعرنا الذي يعرف جيداً أن الفرقة هي راية الهلاك والفناء وفوق هذا كان هذا التشكيل الوجداني يمثل لهيب العاطفة ومرارة التجارب التي أدت إلى الفقد و الضياع.
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً جمالية العرض التصوير الفني الذي بدأ من الداخل إلى الخارج وعاد مرة أخرى من حيث بدأ في خارطة كتابية دائرية الشكل
حيث بدأ هكذا :
-فتّشتُ عن يَومي …
ليتصاعد الايقاع النصي أكثر :
كيفَ انزَلَقتُ إلى السّرابِ ((أنا ))الذي ما زلتُ أبحَثُ عَن حُروفٍ
وكرر السؤال باختلاف الدفة الدلالية :
كيفَ انزَلَقتُ إلى النّهاياتِ الغَريبَةِ (( أيُّها الحبُّ ))الذي….الخ
ونلاحظ تناسب وتناغم كل محطة نصية على حدة فمثلا عندما تحدث مع أو عن الحب اختار السرد الرشيق المختزل الناعم العرض :
ما زِلتُ أبحَثُ عن خيوطِ شُروقِهِ…
ليكونَ لي صَدرًا ومَرفَأ؟
كلُّ المَفارِقِ للغُروبِ تَشُدُّني، وأنا الذي…
ما زِلتُ أبحَثُ عَن شروقٍ ما يُفَجِّرُ فيَّ إنسانَ البِدايَة!
وتكونُ لي لُغَةٌ
وأكونُ أغنِيَةً
وأحسُّ لي شَفَةً
تقتاتُ مِن شَغَفي
لتَصيرَ لي صِفَةٌ
وأعودُ أبحَثُ عَن يَدي في لُجَةٍ…
أعتى مِنَ الحُلُمِ الذي عاقَرتُهُ.. وأضَلَّني…
فغَدَوتُ حَرفًا حَنَّطوه!
هذا صَداهُ بلا جَسَد!
ونلاحظ أن الحيز الدلالي انطلق من ذات الشاعر إلى كل ما يحيط به ثم عاد من جديد إلى ذاته في ختام النص وكأنه يقول لنا أن رحلته في دائرة مفرغة
و أنه سيظل على ذمة الريح في قفلة النص الواهجة والأروع في النص :
ظِلٌّ يَدي..
غَيبٌ غَدي..
– أي روعة هذه ؟
وهنا بداية الاستغراق مجدداً في العمق أو الذات وفوق هذا الطاقات الايحائية اللانهائية التي فجرها هنا يده هي ملك له – تكرر ذكرها ثلاث مرات في النص للتأكيد وللربط و لجرس الدلالة – ورغم هذا لايملك ظلها أو بمعنى أدق كيف سيفسر القدر ذلك الظل و هذا المعنى يفتح شهية التأويل وما تحمله العبارة من رسائل سامية أننا مطالبون بالسبب لا بالنتيجة مهما كانت العواقب أو أمواج الحسرة والضياع :
لا حَرفَ لي آوي إليهِ لأتّقي
شرَّ انفِصامي، واختِلافَ مَلامِحي!
كلُّ الحُروفِ تَصُدُّني!
هَل أتّقيها؟
أم تُراني أتّقي كَفّي التي عَقَّت يَدي؟
والحقيقة أن النص مكتظ بفنون وجماليات الشعر الرفيع المقام بما لا تكفيه هذه الاطلالة المتواضعة و ليسمح لي أستاذي أن أهديه هذه الهدية المتواضعة فقد ذكرني النص بها
دامت قناديل محبرتك الأفلاطونية الساحرة
بك الشعر أروع
بقلم الأديب والناقد المصري الأستاذ “هيثم رفعت” / القاهرة