كمال أبو ديب في دراستهِ للصورة الشعرية من خلال كتابهِ “جدلية الخفاء والتجّلي”
تاريخ النشر: 04/10/18 | 10:48قبل أن نبدأ في التطرق الى دراسة البروفيسور كمال أبو ديب حول الصورة الشعرية الواردة في كتابهِ “جدلية الخفاء والتجلي – دراسات بنيوية في الشعر”، يتوجب علينا أن نُعَرِّف الصورة الفنيّة وهي أهم ما يُعنى به النقد الأدبي الحديث، وكان العرب قد ذكروها من خلال دراستهم للتشبيه والمجاز، واستعمل الجاحظ كلمة الصورة والتصوير فقال: “فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير”.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنَّ عبد القاهر الجرجاني قبل عشرة قرون قد أخذ هذا المصطلح، وتحدّث عن أثر التصوير وفعله في النفوس فقال: “فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم، وتفعل فعلاً شبيهًا بما يقع في نفس الناظر الى التصاوير التي يشكلّها الحذّاق بالتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر. فكما أنَّ تلك تعجب، وتخلب، وتروق وتؤنق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا يُنكَر مكانه، ولا يخفى شأنه.. كذلك حُكم الشعر فيما يصنعه من الصورة، ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجماد الصامت في صورة الحيّ الناطق، والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرّب والمبيّن المميّز”. ونظريته في النظم جعلته يربط السرقات الشعرية بالصورة، فالمعنى قد يكون شائعًا مألوفًا ولكن صياغته ترسم له صورة جديدة تنّم على براعة الشاعر وقدرته على التصوير، فيقال: “إنّ “للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك”.
وانطلاقًا من هذه الأفكار يقول البروفيسور كمال أبو ديب أنّه “في الشعر، قد بلغت دراسة الصورة درجة من التعقّد، والقدرة على الكشف، والذكاء، يندر أن نرى لها مثيلاً في دراسة الأبعاد الأخرى
لهذا الفن. وقد يكون ذلك نتيجة لاتخاذ الصورة أساسًا فنيًا ومضمونيًا لأبرز مدرستين في الشعر الأوروبي الحديث: الرمزية symbolism والصوريّة imagism، لكنه أيضًا، قد يكون سببًا في اتخاذ الصورة أساسًا للخلق الشعري في هاتين المدرستين، ولعلّ أحد أهم الاتجاهات الحديثة في دراسة الصورة، الاتجاه النفسي”.
ويذكر الأستاذ الدكتور أبو ديب أنَّ الغرض من بحثه هذا أن “يُظهر أنَّ للصورة مستويين من الفاعلية هما المستوى النفسي والمستوى الدلالي، أو الوظيفة النفسية والوظيفة المعنوية، وأنَّ حيوية الصورة، وقدرتها على الكشف، والاثراء، وتفجير بُعد تلو بُعد من الايحاءات في الذات المتلقية، ترتبطان بالاتساق والانسجام (Harmony) اللذين يحققان بين هذين المستويين للصورة”.
ويأتي البروفيسور أبو ديب بالحقيقة أن الناقد الأوّل الذي توصّل الى استكناه هذه الطبيعة البنيوية هو الناقد العربي عبد القاهر الجرجاني.
أمّا في النقد العربي الحديث، فيرى البروفيسور أبو ديب أنَّ تحليل الصورة ما يزال هشًّا، ذوقيًا، جزئيًا، وقاصرًا من حيث توفّر النظرة الحيوية الى الصورة فيه، مشيرًا الى وجود أحد الأدلة على ذلك وهو كون عمل شاعر مثل أدونيس ما يزال ينتظر تحليلاً نقديًا متعمقًا.
ويقدّم صاحب الكتاب في دراستهِ هذه عن الصورة الشعرية، عدة أمثلة من الشعر منها أمثلة بسيطة، وأمثلة أكثر تعقيداً، فيأتي ببعض الأبيات الشعرية لابن المعتز، ولأمرئ القيس، وللنابغة الذبياني، وللشريف الرضي حيث يوّضح كيف أنّه في عددٍ من هذه الأمثلة للشعراء المذكورين ينشأ اللا تناسق بين مستويي الصورة، أو اللا انسجام بين مستويي الصورة، بالإضافة الى التناقض الذي ينشأ عند أحد هؤلاء الشعراء، فيخلق هذا الشاعر صورة تفعل باتّجاه معاكس للغرض الأساسي الذي ظنّ أنه يستخدمها من أجله.
ويقترح البروفيسور أبو ديب في هذا السياق أنَّ التناقض ينبع من خصلة يمكن أن يقرّر أنها كثيرة الشيوع في الشعر العربي في عصوره، كلها (باستثناء العصر الحديث لعدم توفر دراسات منهجية موضوعية حتى الآن). فيقول في ذلك أنَّ هذه الخصلة تتلخّص في أنَّ الشاعر العربي، “يركّز غالبًا، على الأبعاد، والمظهر الحسي الفيزيائي والألوان، والحجوم، والمدركات الحسية في عناصر الصورة الشعرية. ولا يولي الشاعر اهتمامًا كبيرًا للانفعالات والأبعاد النفسية التي تثيرها هذه العناصر، سواء بشكل مباشر، أو عن طريق التداعي والترابطات الشعورية، ويسوق صاحب الكتاب في دراسته رأيًا للويس ماكينس (Louis Mac Neice) يعتقد فيه أنه من الخطأ النظر الى صورة الشاعر على أنها زخرفة فحسب، لكن الصورة غالبًا، كما هي في شعر دانتي، توجد في القصيدة لتوضح المعنى او تثبته في نفس المتلقي بقوة. ويرى كذلك أنه في قصائد كثيرة تنسج الصورة والمعنى (أو يلحمان) بشكل يكون فيه من المستحيل فصلهما. وهذا مبدأ من مبادئ الرمزيين. ومع أنَّ ماكنيس هنا يقرّر أنّ الصورة تستخدم لتحقيق وظيفة معنوية، إلاّ أنّه لم يوضّح كيفية ذلك، لكنه من الفرادة بمكان أنه يفرّق بين نسقين من الصور: نسق ذهني (cerebral) أو ميتافيزيقي (Metaphysical) ونسق آخر انفعالي (أو عاطفي) أو حسي أو حدسي.
ويتابع البروفيسور أبو ديب بحثه متسائلاً عن كيفية اكتساب الصورة القدرة على الفعل المضيء الكاشف كي تكون عنصر حيوية وحياة في التجربة الفنية. وجوابًا لهذا التساؤل يجد الكاتب عند الجرجاني ما يوضح ذلك بتأكيده على دور المتلقي، “فمشاركة المتلقي، في فعل التحديد النهائي لبنية الصورة وحدودها، أساسية، ويطلب أن تكون حيوية وكاملة. فالمتلقي مدعو لا الى الاستجابة فقط، بل الى الخلق، ففعاليته لا تقل عن فاعلية الفنان ذاته من حيث إعطاء الصورة أبعادها النهائية التي تحدّد دورها في العمل الفني وعلاقتها به. ولكن في الوقت ذاته فإنَّ “الفنان الذي يعجز عن تحقيق التناغم بين وظيفتي الصورة يرتكب خطأ جذريًا”.
ويؤكد البروفيسور أبو ديب أنّ دراسة الجرجاني توحي بأن الخطأ يمكن أن يصحّحه المتلقي، عن طريق عزل الترابطات التي لا تنمي بنية الصورة في حركتها المتشعبة ضمن القصيدة.
ولا يفوت الكاتب أن يأتي بأمثلة من الشعر الحديث لشعراء أمثال أدونيس ولوركا حيث يرى البروفيسور كمال أبو ديب أنَّ الصورة الشعرية كما تتمثل في النموذج الأدونيسي المطروح هنا، “في فاعيلتها على المستوى النفسي، لا تستغل الترابطات والاستجابات الإيجابية فقط، وإنما تركِّز أيضًا، على الاستجابات السلبية.. وتمة صور توحِّد بين النمطين وتستغل التفاعل بينهما عبر ما يمكن أن يُسمى بِ “فاعلية التّضاد”.
وإذا انتقلنا الى النموذج الشعري للوركا في المثال الذي يقدّمه الكاتب وهو قصائد الكاتب وهو قصائد “أغاني الغجر” نجد أنّه في رأيهِ “تصبح الصورة عند لوركا فعل اضاءة واغراق وكشف” ممّا يجعل الكاتب في بحثه هذا يعتقد “أن الاقتراب من فهم متعاطف لطبيعة الصورة عند لوركا يصعب أن يتحقق إلاّ بتطبيق منهج التحليل” الذي تبناه الكاتب في هذا البحث “أي بدراسة تفاعل المستويين المعنوي والنفسي للصورة، ودور هذا التفاعل في انفتاح الصورة على بنية القصيدة: تغذيتها والاستقاء منها”.
مما تقدّم يتضح لنا أنّ البروفيسور كمال أو ديب قد قدّم في دراسته للصورة الشهرية. بحثًا نفسيًا يستحق كل ثناء واطراء وتقدير، ويوحي أنَّ الشعر عملية معقدّة يشترك فيها الخيال الوقّاد، والثقافة العميقة، والتصرّف العجيب في استثارة المعاني وتشكيل الصور، ومن كانت له القدرة على ذلك كان الشاعر المبدع، أي: أنَّ افضل الشعر ما كانت النسب بين معانيه وصوره متعادلة، وكان التناظر واضحًا جليًا، والتضاد بينًّا. ويلاحظ من دراسة الكاتب أنَّ المعاصرين قد اهتموا اهتمامًا بالغًا، بل أولعوا بالصورة الشعرية، لأنّها الوسيلة الفنيّة الجوهرية لنقل التجربة على المستويين المعنوي والنفسي، في حين كان بعض المتقدمين يعدّها زينةً وتزويقًا لا عنصرًا مهماً من عناصر القصيدة.
وأخيراً، وفي ضوء ما أوردناه آنفًا، فإنّه من المناسب أن نضيف ونقول أنّه مهما اختلفت تعريفات الصورة الشعرية باختلاف الباحثين وتنوّع المذاهب الأدبية، فهي عند الرومانسيين تمثل المشاعر والأفكار الذاتية، وعند البرناسييّن تعرض الموضوعية، وعند الرمزيين تنقل المحسوس الى عالم الوعي الباطني، وعند السرياليين تُعنى بالدلالة النفسية. وهي “شكل وعلى وجه خاص رؤيا، وهي تعبير عن شيء ذي استجابة حسيّة تستخدم عادةً تعبيرًا ما اكثر دقّةً، وهي “تلك التي تقدّم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن”، وهي “رسم قوامه الكلمات”، وهي “إعادة انتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو ادراكية غابرة ليست بالضرورة بصريّة” وهي “استعادة ذهنية لاحساس انتجه ادراك فيزيقي”. وقد قال نورمان فريدمان إنها “تُستخدم في مجال الأدب على وجه التخصيص لتشير الى الصورة التي تولّدها اللغة في الذهن بحيث تشير الكلمات أو العبارات إمّا الى تجارب خبرها المتلّقي من قبل، أو الى انطباعات حسيّة فحسب”. وبالإجمال، يمكن القول أنَّ هذه كلّها تشعّبات دلالية تقع في إطار الدراسة التي كُنّا بصددها.
(ألقيت هذه المداخلة في أمسية إشهار إبداعات الناقد كمال أبو ديب في نادي حيفا الثقافي 2018/09/27).
بقلم: الدكتور منير توما – كفر ياسيف