بوابات وأدراج ودلالات ثقافيّة
تاريخ النشر: 09/10/18 | 12:25د. تغريد يحيى- يونس
تسترعي الانتباه المباني التاريخيّة والعمارات الضخمة والأقل ضخامة في مدينة ميلانو وبعض مدن شمال إيطاليا في عناصر عدّة، كالرخام والأعمدة الضخمة الفخمة، والشبابيك “العملاقة”، والقباء، والفتراج، والفسيفساء، والأيقونات المنقوشة على جدرانها، والتماثيل واللوحات الفنيّة المعروضة فيها. كلّ هذه العناصر تسترعي النظر مباشرة وبتفاوت بين زائر/ة وآخر / أخرى، تبعًا للاهتمام ودقّة النظر والمعرفة بالفن والتراث المعماريّين، وبالهندسة، وتبعًا للحسّ التاريخيّ وإدراك الجماليّات والذّوق الشخصيّ. لكنّ عنصرين آخرين، عادةً أقلّ جذبًا للانتباه، هما ما استرعى انتباهي هذه المرّة. إنّهما البوابات والأدراج! أقوم بمقاربتهما هنا اعتمادًا على انطباعيّ الشخصيّ في خضم المشاركة في مؤتمر علميّ في موضوع مختلف كلّيّا تبعَتْه سياحة أسريّة، ومقاربتي هذه قطعًا لا تعمَد إلى التحقّق التاريخيّ ولا تعتمد على الاختصاص المعماريّ الصِرف، بل تأتي من زاوية سوسيولوجيّة مقارِنة راهنة ومجتزَأة، تلمس بعض الأبعاد الثقافيّة الإجماليّة ذات الصّلة.
واجهات المباني في ميلانو ومدن شمال إيطاليا تخلو من الأدراج. وعلى العكس من ذلك، البوابات فيها حاضرة وبقوّة، وهي مغلقة اغلاقًا تامًّا، إلّا ما ندُر جدًّا. البوابة الواحدة ضخمة، يصل ارتفاعها إلى بضعة أمتار وعرضها إلى معدل بضعة أخرى من الأمتار (ناهيك عن أنّ بوابات الكنائس والكاتدرائيات ضخمة بشكل استثنائيّ)، مصنوعة من الخشب المتين السميك جدّا، حفرت عليها نقوش تتباين في التفصيل والشّكل والجّودة والرّقيّ. يتخلّل المصراع الأيمن للبوابة باب “عاديّ” الحجم عبرَه ي/تدخل من لها الدخول متاح بعد أن ي/تنقر الرّمز الرقميّ (الكود) خاصته/ا، والذي يخوّله/ا بالدخول، ليغلق الباب خلفه/ا مباشرة.
لا يحظى الزائر ولا تحظى الزائر/ة أو السائح/ة برؤية البوابات مفتوحة، وتحديدًا الخاصّة منها، إلّا ما قلّ وندُر. بوابة كليّة العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة ميلانو كانت، بطبيعة الحال، مشرّعة بالكامل أيام انعقاد المؤتمر العلميّ الذي شاركت فيه، والتي تزامنت مع أيام الدراسة العادية هناك. لكنها عادت لتغلَق في نهاية الأسبوع حين مررت قبالتها في يوميْ تجوالي في المدينة، حيث اتخذت من الشوارع والأزقة مسارًا بين مكان إقامتي فيها، مرورًا بالكلّية ووصولًا إلى المعالم الأثرية الشهيرة وعلى رأسها الدو[و]مو – الكنيسة-الكتدرائية،كما تحظى من يعرّفها على المدينة أهلوها، أو في حالات أخرى من ي/تستكشفها بنفسه/ا، إذا ما أسعفه/ا وقت المكوث بذلك.
يمكن للغريب/ة في المكان استكشاف ما خلفَ البوابة بإحدى وسيلتين ممكنتين. الوسيلة الأولى، وهي عَرَضيّة، أن ي/تسترق النظر إلى الداخل عبر البوابة المفتوحة المتاحة. تشرّع البوابات على مصراعيها كما لاحظت أيام الدوام في الجامعات العريقة ذات المباني القديمة، وفي المدارس الأهلية المرموقة عند استقبال التلاميذ وخروجهم بعد انتهاء الدوام، وفي كنائس الحواري في ساعات النشاط الرئيسي، وفي غيرها من المباني العامة في المناسبات العامة، وفي حالة ترميم المبنى العام أو الخاص أو خلال أعمال صيانة فيه تستدعي استخدام آليات ومعدّات عمل ثقيلة. رغم أنّ استراق النظر إلى الأماكن التي لا شأن للفرد فيها هو تطفّل وحتّى تَعَدٍّ على حرمة المكان وخصوصيّة قاطنيه، فإنّ مراعاة المدى المقبول الذي يغذّي الاهتمام “الموضوعيّ” في حدود لحظات من الزمن وعلى مواضع نظر مشروعة، يمكن برأيي التسامح معه، وفي حالة السياحة أن تجعله مقبولًا. الوسيلة الثانية لاستكشاف ما خلف البوابة هي أن يسعفك الحظّ فتنزل/ين في مبنى، كفندق مثلا، أو تزور متجرًا أو شركةً أو مكتبًا، يجاور هذه البنايات وتطلّ جهته الخلفيّة على الفضاء الذي تؤدي البوابة إليه. وهو فضاء مشترك للبنايات المحيطة به تلك التي للسكنى أو تلك التي لأغراض أخرى، والتي تشترك معًا بالبوابة. لكلّ بناية من هذه مدخل وبوابة (داخلية) ودرج داخلي. أما الفِناء المشترك الذي تطلّ عليه جميعها من جهاتها الداخليّة فقد تتخلّله حديقة صغيرة، وموقف لبضع سيارات خاصة، ومساحات لركْن دراجات هوائية وعربات أطفال. هذا ودرجة فخامة الفناء وكذا البوابة تتواءم مع درجة فخامة المباني نفسها.
يذكّر هذا النمط المعماريّ بجزئياته المذكورة “بالحوش”، وخصوصًا في مدن بلاد الشام التاريخيّة، في القرنين التاسع عشر والعشرين، رغم اختلاف التفاصيل المعمارية، وحجم البوابة، وطبيعة العلاقة بين ساكني المبنى الواحد. ولا يمكن ألا تذكّر البوابات المذكورة ببوابات الكنائس والمساجد القديمة في بلاد الشام أيضًا، وحتى تلك التاريخيّة في أسوار مدينة القدس.
تُفْرَز الأنماط المعمارية وتفاصيلها من ثقافة المجتمع واحتياجات ناسه، وهي تجسّد القيم فيه، وتعكس العلاقات المعياريّة بين فئاته المختلفة، بمن فيهم الوافدين من الناس إلى هذا المجتمع. فأيّ الوظائف تؤدي البوابات الضخمة المغلقة الماثلة في واجهات المباني، والأدراج المستترة المستترة عن العين؟
الخصوصيّة والتواضع هما القيمتان الأبرز اللّتان يمكن الإشارة إليهما هنا. البوابات الضخمة المغلقة ونظام اشتغالها تضمن لسكان البنايات والعاملين فيها الخصوصيّة والأمان. كذلك فهي تخفي مركباتهم المركونة هناك عن عيون المارّة، وتخفي بقية عناصر الحياة المرفّهة من تفاصيل البيوت وغيرها. وعند الحديث عن ميلانو، إحدى مدن الأزياء العالمية والتي تجتذب شريحة نخبة من المصممين والمشاهير والمشتغلين في هذه الصناعة وفي فروع ذات صلة وفي غيرها، إضافة إلى طبقة اجتماعية محليّة من ذات المستوى، فمن الغريب أن لا تصدم برموز الانتماء الطبقي الماديّة من هذا النوع. إنها ببساطة لا تشَرّع للرائي/ة بشكل مستفز في السكن. إنه الميل إلى التواضع في هذا الجانب على الأقل. ثمة رموز للطبقيّة متوفرة بالتأكيد في حقول حياتية مختلفة وعلى أشكال أخرى، فالمدرسة الأهلية المجاورة لكلية العلوم السياسية والاجتماعية والتي بادر إلى إقامتها أهال من الطبقات العليا في ميلانو إنّما هي واحدة ليس إلّا من رموز الانتماء الطبقي الاجتماعي. ولمن يُ/تُعنى بالموضوع عامة أو بأحد جوانبه، هذه دعوة لبحث الموضوع بشكل منهجيّ ضمن دراسة للدكتوراه أو ما بعد الدكتوراه، بحيث يأتي اتجاه البحث وعلاقات الشمال والجنوب العالمييْن فيه مغايرة لما عهدناه، إذ يبحث الشرقيّ ثقافة الغربيّ، ويضعه موضع الدراسة.
ولا يمكن المرور بالصّور الحيّة المكثفة آنفة الذكر هذه خلال سفرة موجزة دون أن تحضر في الذهن الأنماط العمرانيّة الخاصّة في الزمن الراهن في الثقافة العربية إجمالًا وفي بلداتنا الفلسطينية في إسرائيل تحديدًا. ثقافة البناء لدينا عامة هي ثقافة استعراض وتفاخر ومباهاة، كما في مناحي الحياة الأخرى. والأنكى أن الأمر لا يقتصر على المقتدرين أو ميسوري الحال، بل وينسحب على متوسطي القدرات المادية وعلى المعوزين حتّى! ويظهر الاستعراض والتفاخر والمباهاة في مساحة البيوت وتصميمها الاعتباطي، الذي لا يجيب على حاجات ونمط عيش هذه الأسرة أو تلك، بل يسير وفق نمط التقليد، وينعكس في مواد البناء في واجهات البيوت وجوانبها في الحجر، وأعمدة الرخام والشرفات المعلّقة والمشربيات والأدراج الملتفة وغيرها! هذا ناهيك عمّا يُركن في الساحات من سيارات تكمّل المشهد الاستعراضيّ. كلّ ذلك في الخارج الظاهر للعيان وبشكل استعراضيّ فظٍ، ضدًا للنمط في الثقافة آنفة الذكر.
اذا مش غلطان، اعتقد ان هذه المباني هي من فترة الباروك.