ضحى… حيرة الهويّة وسيطرة الحلم
تاريخ النشر: 14/10/18 | 0:19لم أكن لأختار عنوانًا كهذا لمداخلتي هذه لو كنت أكيدًا من جنس العمل الذي بين يديّ؛ ولو لم يحدّد الكاتب جنس هذا العمل على صفحته الأولى لما عرفتُ أنّ الحديث يدور عن رواية بمعناها المعهود، منذ تولستوي مرورًا بهمنغواي ومحفوظ ومُنيف ومينا. ولكن، من قال إنّ الإبداع توقّف عند هؤلاء؟ ومن حكَم أنّ الفنّ لا يقترب من الإبداع والعبقريّة إن لم يكن محبوسًا في إطار؟
ها أنا منذ سطوري الأولى أكشف عن أسلوبي الذي أستخدمه في مداخلتي هذه فهي لن تكون دراسة أكاديميّة منصاعة لمتطلّبات التنظير، وكذلك لن تكون نقدًا انطباعيًّا ذاتيّا، إنّما ستجمع المداخلة بين الطرفين باقتصاد. وبما أنّني محدود في وقت المداخلة، فسأتحاشى مضمون العمل هذا وأتخصّص في الحديث حول قضيّتين فحسب، ترتبط الثانية منهما بالأولى ارتباطا عضويًّا بارزًا: 1- هويّة النصّ 2- الشعريّة الطاغية.
الهويّة
إنّ ضياع هويّة العمل التي ألمحتُ إليها في البداية، والتيه، وعدم القدرة على الإحاطة بهذا الكمّ الهائل من المعلومات الثقافية، والاتّساع السياحيّ، والأدبيّ، والتاريخيّ، والتقنيّ وغيره، وبالتالي التشرّد وعدم الوصول إلى اليقين، كلّها من علامات ما بعد الحداثة، التي طوّرها ثلّة من علماء الفكر الغربيّين، ناسفين من خلالها ذاك اليقين الذي حاولت المدارس القديمة التأكيد عليه من خلال ربط الدوالّ بمدلولات واضحة متّصلة بالثقافة الشاملة للعلامات والإشارات اللغويّة. عليه، فإنّ هذا الخليط الهائل للفنون والأساليب في هذا العمل، والدمج الواضح للسرد بالشعر والخطابة، وللتاريخ الموثّق بالسرد التاريخي الذاتيّ والسيرة الذاتيّة بالسيرة الشعبيّة والواقع بالخرافة السندباديّة، كلّها تغدو من علامات ما بعد الحداثة التي ادّعاها الكثير من أدباء العرب، وحازها النفر القليل منهم فقط؛ ومع هذا الكولاج المتّسع تغدو هويّة هذا العمل غير واضحة المعالم، إلا إذا كان من يحدّد للعمل جنسه هو المؤلف فقط، ولا شأن للناقد أو الباحث في هذه العمليّة، وهو تفكير يتنافى مع ديمقراطية الفنّ التي نادت بها المدارس الحديثة وفي رأسها ما بعد البنيوية. وما دمتُ أومن بتحرر النصّ من مؤلّفه في لحظة وقوعه تحت يدي القارئ، فإنّني أمارس حريّتي حتّى النهاية وأقول: نحن لسنا أمام رواية! بل أمام كوكتيل ثقافيّ، فيه من كلّ ما لذّ وطاب، لكنّه يخلو من بطل آدميّ واضح المعالم، ومن حبكة متنامية، واضحة المسالك. وإن شئنا الدقّة، فإنّ البطل في هذا العمل تحوّل من الذاتيّ متمثّلا بعبد الباقي وقصّة عشقه في بداية العمل، إلى العامّ متمثّلا بالوطن مرويًّا عبر الوثائق التاريخيّة من ناحية، ومجموعة من الشخصيّات التي عاشت تحت أكناف هذا الوطن من ناحية ثانية. إذن على المستوى الشكليّ الأوّليّ يلحظ كلّ قارئ أنّ هذا العمل ينقسم إلى شطرين تفصل بينهما حدود واضحة؛ فبينما يميل القسم الأوّل (قريب النصف) إلى الرواية العاطفية الذاتية، فيروي قصّة حبّ خائبة، بأسلوب رومانسيّ شاعريّ، فإنّ الثاني أميل إلى الواقع التاريخيّ الموثّق، والموثّق أحيانًا بالتاريخ الدقيق والمكان (مثلا من 297 حتى النهاية 346). حتّى أنّني لأدّعي أنّ كلّ قسم بحدّ ذاته هو جزء من رواية مختلفة، لم تكتب، ولم تكتمل. والدليل أنّ قصّة عبد الباقي مع حبيبته انتهت كأنّها لم تكن في القسم الثاني، الذي يجمعنا فيه المؤلف مع شخصيّات نسائيّة تقطن القدس وكلّ لها قصّتها، وفي رأسها قصّة ضحى، التي تصلح وحدها أن تكون رواية مستقلّة كامل الاستقلال عمّا سبق.
وبما أنّني ما زالت في طرح القضيّة الأولى، جنسيّة النصّ، فإنّ لي ملاحظةً أخرى حول حيرة الكاتب وتخبّطه في شعاب هذا العمل وأثناءه، هذا التخبّط الذي جعل العمل يتراوح بين فنون مختلفة، وقاد القارئ إلى تخبّط مماثل تماما (وليس التخبّط في الأدب ما بعد البنيويّ سمة سالبة)، من حيث وضع القارئ على أرض الغربة من ناحية، ووضع هويّة العمل في دروب الشكّ. فالعمل هنا كولاج، والكولاج من الفنون التي احتفى بها الشكلانيّون الروس أيَّما احتفاء، لأنّهم اعتبروه أكثر ما يعبّر عن التغريب (defamilirization) الذي بحثوا عنه في النصوص كدليل على أدبيّة النصّ. أمّا ما بعد البنويّين فطوّروا الفكرة نحو إلغاء التسميات والتصنيفات والحديث فقط عن أدبيّة النصّ لا أكثر، وعليه يغدو الدمج بين النصوص نوعا من البحث عن الطاقة الأدبيّة القصوى التي يمكنها أن تصعق القارئ، وتضعه في عالم الغموض التامّ. وهذا الغموض إنما يقود بالضرورة إلى إلغاء دور الكاتب نفسه، فتعلن بعد قراءتك نصّه عن موته. وماذا بالنسبة للعمل الذي بين يدينا؟ حيرة الكاتب في تشكيل نصّه جعلته يحشد فيه كمًّا كبيرًا من النصوص والتقنيّات المتباينة أحيانا. فالإطار العامّ الذي يبدو عليه القسم الأوّل من العمل أقرب إلى السيرة الشعبيّة، وقد وظّف فيه الكاتب شخصيّة الراوي، وردّد عبارة “قال الراوي” في أكثر من موضع، ثمّ بيّن علاقة الراوي بالجمهور، وحماس الجمهور، كما بالغ في بعض الأوصاف والمشاهد وفق عادة الرواة الشعبيّين. مثال: توقّف عبد الباقي عن الكلام، كأنّه يضيف ديكورا جديدا لمسرح الرواية، أو يفحص انتباه المتلقّين، لكن الجمهور كان مشدودا إليه، متفاعلا مع البطل… قال أحد الحضور: يعني الزلمة كان نظيف….”. (ص 123) هذا التفاعل بين الجمهور والراوي، وهذا السرد والتحكم من قبل الراوي بكل ما يجري هو من أهم سمات السيرة الشعبية.
فإن قلنا إنّ السيرة الشعبيّة في إطارها العامّ هي الغالبة على هذا الجزء، فإنّنا لا يمكن أن ندّعي أبدًا أنّ الطرح والوصف هما شعبيّان، بل لعلّهما يرتقيان في معظم الأحيان إلى الخيال الذاتيّ الحالم الذي قد يقود إلى نوع من الترميز والغموض أحيانا. وهذا الغموض يتكثّف مع شيوع استخدام الأسلوب الخرافيّ أحيانا هنا وهناك، بل توظيف شخصيات أسطوريّة لتكون رموزًا للواقع الحادث. إلى جانب ذلك كلّه ينتشر أسلوب المناجاة الذاتيّة الحالمة، فنراها ترافق النصّ هنا وهناك، لكنّني أتناولها في معرض مناقشتي للقضيّة الثانية: الشعريّة.
السرد الشعريّ الحالم
أنا أدّعي أنّ حسين في عمله هذا كان رومانسيًّا حالمًا أكثر من كونه روائيًّا يسرد واقعًا أو يرصد مستقبلا برؤيته الخاصّة. ودليل على ذلك أن العمل من أوّله لآخره يعجّ بالمجازات والكنايات والتشبيهات والبلاغة العربية اللفظية على نحو لم أشهد له الكثير من الأمثلة في رواية حديثة، إلا إذا اعتبرنا روايات الرومانسيين وفي رأسهم جبران حديثة. أعني، سرد الكاتب على امتداد العمل، خاصّة في قسمه الأوّل، سرد ليس من هذا العالم، ولا من هذا الواقع، تشعر وأنت تقرأه أنك تحلّق بعيدًا، في عالم من المُثل والأحلام، تعبيرًا، تصويرًا ولغة. ومع امتداد هذا الحسّ الشاعريّ الحالم، يميل الكاتب بشكل تلقائيّ إلى نوع من الإيقاعيّة. حقيقة فقد استغربت أنّ في العمل كلّه لم أجد توظيفًا من قبل الشاعر للحوارات أو الخطابات العامّيّة وتحريكًا للحوار الواقعيّ ولو لمرّة واحدة إلا في صفحتين (ص 203-204) وأكون شاكرًا لو وجد أحدكم موضعًا آخر يهدينا إليه. حتّى إنّ كل الحوارات تقريبًا جاءت بالفصحى، وهي أقرب إلى الفلسفة والتخييل منها إلى الواقع، أرفع من أن نقتنع بأنّها يمكن أن تجري بين شخصيّتين من لحم ودم.
مثال: (عن لسان حبيبة عبد الباقي): دع الحبّ يا رفيقي يتنفس، يدبّ على الأرض بين الناس، يمشي معنا في زحمة الطريق، ترتطم أجسادنا به، دعه يكنْ إنسانيا لتكونَ المسرّة على الأرض. أليس تبادل الحبّ هو الطريق الأفضل لمسح الغبار عن نضارة الجسد، دعنا يا صديقي نعش على لسان العصافير، وبين شفاه الياسمين” (ص 46)
المشكلة التقنيّة في هذا الجمال السرديّ أنّك تسمع من خلاله وترى في أسلوبه صوت الكاتب وأدواته الخاصّة، كم بالحريّ وهذه اللغة العالية في الوصف والتشبيهات والمجاز تتكرر في رتابة واضحة على لسان كلّ الشخصيات تقريبا، الراوي (عبد الباقي) الحبيبة، أمّها… وعليه تشعر أنّك أمام أقنعة غير حيّة تتلفّظ بلسان حال الراوي-الكاتب نفسه، فلهم جميعا ذات الأسلوب والتوجّه والمحتوى والرسالة، ممّا يدلّ على سيطرة للراوي على الشخصيات بحيث لا تعطى مجالا للتحرّر والاستقلال.
هذا السرد الذهنيّ الحالم هو سرد أقرب إلى الشاعريّة الراقية منه إلى النقل الواقعيّ الحيّ، ولعلّني رصدت في هذا العمل عشرة أنواع مختلفة من الظواهر الشعريّة، أرتّبها من البسيط إلى الأعقد:
1- توظيف المجاز حتّى في السرد والحوار: قالت تانتشكا: “ناب الفراق عن طيب لقانا، فتسلل النسيان إلى ذكرياتنا، وسيطر الإهمال على مواعيدنا، وطمس الغبار بريق مناجاتنا، جاءت الغيمة تطفئ الجمرة… هبّت الريح تبعثر الكلمات اللطيفة وتشوّه النغمة”. ما هذا الوصف إن لم يكن شعرًا صافيا؟ المجاز فيه يقود الجوّ نحو الحلم، واللغة نحو موسيقا خاصّة. وهو أمر يتكرّر في جنبات العمل. لاحظوا مثلا كيف يعلّق عبد الباقي على فشل علاقته بحبيبته: “هل أتكوّم في ظنوني الشقية وأتركها تغرق في عصير وحدتها الخانقة؟”/ في موقع آخر: أرضع التياعي وألعق حزني وأقهر حنقي”.
2- الكناية والرمز في السرد والوصف (خاصة إذا كان الموقف حسّاسا)؛ وهما من أهمّ تقنيات الشعر الحديث: مهرة أضر بها طول اللجام… احتسيت الشهد، ارتويت من الرحيق، إلى رمانها أسندت صدري أعتصر الشهية والشوق…
3- وإن لم يكن الإيقاع الداخليّ والموسيقا الخفيّة التي تتسلّل إلى النفس من خلال عذوبة الوصف، وتلاؤم اللفظ، كما ظهر في الأمثلة أعلاه، كافية لبيان الشعريّة الطاغية، فإنّنا كذلك أمام موسيقا خارجيّة تتبدى من خلال السجْع المتكرّر أيضًا هنا وهناك وهذا مثاله بعد صفحات قليلة فقط من المثال السابق: “وقفت على بابها مرتجفا من شدة العاصفة وذل العاطفة…”/ “استكان الوجود حولنا في ضوء القمر، إلا من رتابة حفيف الشجر”/ في وجد على ما مضى، وحزن على من قضى/ قطعان مواشيهم كبيره، فعلى يمين كل بيت حظيره/ من تحت الردم من جوف الهدم، من عتمة المكان وخيبة الزمان/ تعيش في عواطفي كأنّها انفعال، وتسبح في حقيقتي كأنها خيال، وتمتدّ في مجاهلي كأنّها سؤال (هذا في تعبيره عن حبه للقدس…)
قد نبرّر هذا الانسياق خلف الإيقاع بأنّه يتماشى مع الإطار الذي فرضه الكاتب على نصّه منذ البداية وهو السيرة الشعبيّة (وهي في الغالب تأتي مسجوعة)، غير أنّ هذه الرومانسية الحالمة، وهذا التعبير البلاغي الرفيع، والترميز والضبابيّة لا يمكن لها أن تكون تقنيات في سيرة شعبية كانت في الغالب ملاذًا لمتواضعي الثقافة.
4- التصوير الشاعريّ لمسرح الحدث وهو كثير جدا في النصّ أيضًا والشواهد عليه عديدة: “كنّا ثلاثة: تانتشكا وأنا وقارورة مملوءة بابنة الكرمة العتيقة، وفي الأعالي قمر عاشق يرنو إلينا… يجارينا ويلاهينا، يناجي خدّيها ويغمز قارورة الخمر، مناجاة القمر حنين وأنين تُقطّع نياط القلب وتلهب الملهوف… توسل القمر إلينا أن نقايضه عشقنا ببهائه، آه من رأى قبلي قمرا غريما يناجيها؟؟”
5- الصورة الرومانسيّة الستاتيّة: وصف الطبيعة، ووصف الشخصيّة، دون وجود حركة، وهو غالب على الوصف في النصّ فنكاد لا نجد وصفا واقعيًّا للأشياء والأماكن: مثلا ص 26، وصف الحبيبة؛ ص 52 وصف الطبيعة (صفحة ونصف): “مالت الشمس نحو الغروب وراحت تسحب خيوطها الذهبيّة، وتلملم نورها فتخضّب المغيب. وقد تدثّرت الدنيا في رماد النهار، انسحب النهار مهزوما دامي الجراح، وتزمّل الوجود في رداء الليل…لا يهتك السكونَ إلا وشوشاتُ العشاق وتمايلُ السنابل….”. وكم يذكّرني هذا بالنثريّات الفنيّة الرومانسية لأحمد أمين وجبران والمنفلوطي!
6- الصورة الرومانسيّة الديناميّة وأسمّيها الصورة المشهد. وفيها أبدع حسين في الوصف، وبدا شاعرا بكل معنى الكلمة، رسم المشهد بعد أن عاشه روحا وجسدًا فجاء طبيعيا جميلا مقنعا وجذّابا، ولعلّ أفضل صورة مشهد في هذا المشروع الرومانسيّ كلّه فصل “في القارب” (ص 61)، وهو مشهد ممارسة عبد الباقي الحبّ مع عشيقته في القارب، وفيه يدمج الإيقاع، والحركة بالوصف الخارجيّ، والوصف الداخليّ، والسرد النفسيّ والحوار فتشعر كأنّك داخل لوحة فنّيّة زيتيّة غاية في الجمال، أو داخل حلم رومانسيّ في منتهى اللذة، لا تريد الخروج منه. دمج رفيع المستوى، يتوازى في ذهن القارئ مع الدلالة التي توحي بها الألفاظ ليرتسم في ذهنه المشهدُ حيّا ناطقا، يتناسق فيه الإيقاع الخارجيّ للغة مع إيقاع الحدث، وتحرّكات الشخصيّات، وتقلّباتها النفسية البادية بشكل حيّ.
7- نقل الخرافة العامّة كمرآة رمزية للوجع الذاتي، وهي تقنية أقرب إلى القناع في الشعر، من خلفه ينقل الشاعر وجعه الخاصّ: السندباد، أطلس وغيرهما…
8- ابتكار الخرافة الرومانسيّة، أسطرة الوجع الفلسطيني: وأعني به نقل هذا الوجع بشكل أسطوريّ وتشكيل حبكة خاصّة له، واختيار شخصيّة وتسمية وأحداث تحاكي الواقع بشكل أقرب إلى الخرافة. مثال: شخصية ابن الساحل واندغامها مع الطبيعة كما يصفه، لبيان اتصالها الطبيعي بالأرض ثمّ علاقتها بضحى وهي من رموز التراجيديا الفلسطينيّة (ص 220)
9- التناصّ الشعريّ: توظيف بعض الشعر العربي القديم، والشعر المترجم أيضا (ص 56) وربّما الشعر الذي هو من تأليف الكاتب نفسه، ممّا هو دليل على المزاج الشاعريّ الذي كان لدى الكاتب وهو ينجز هذا العمل (غنّيتُ… ص 57)
10- التأثّر الشكليّ: وأعني به كتابة النثر على شكل القصيدة الحديثة متفاوتة الأسطر (ص 141-142).
خلاصة
قرأت لحسين روايتيه ضحى وعليّ، فرأيته في الأولى شاعرًا رومانسيًّا وموسوعيًّا مثقّفًا خصّص الكثير من صفحات عمله لنقل حضارات بعض الشعوب وملامح أوطانها التراثية والجغرافية، إضافة إلى قصصها وطعامها وما إلى ذلك، نقلا مناسبا حينا وغير مفيد حينًا آخر، وفي هذا الموضع كان بإمكانه أن يوازن بين الثقافة والدراما ليُخرج العمل رواية كما يريد. غير أنّ توازنًا آخر كان ينقص العمل ليقترب أكثر إلى حدود الرواية وهو التوازن الشكليّ، وتحديد صيغة واضحة لما يريد الكاتب إنجازه، ويتأتى هذا عن طريق الإقلال من توظيف العبارات الحالمة، والهبوط بالحوار والصور إلى واقع الحياة المعيشة.
أمّا في روايته الثانية علي، فقد لاحظت نضوجًا كبيرًا في تجربته الروائية بحيث يحضر الواقع اليومي والتاريخيّ بشكل واضح، ونشعر بالشخصيات تنبض، مع تحفّظي من بعض التقنيات التي حاورت صديقي حولها. عليه أنا أتوقّع أن تكون روايته الثالثة رواية تتكامل فيها العناصر الدرامية، ويحصل القارئ على النصيب الكافي من الثقافة، ولكن أيضا من التماهي مع الشخصيات حتى الوصول إلى حالة التطهير المنشودة. ولي ثقة كبيرة بثقافة كاتبنا، وإصراره، وموهبته البادية للعيان، التي لا أبالغ إن قلت إنها كفيلة برفع مستوى الكتابة الروائية عامة في بلادنا.
البروفيسور جريس خوري
(ألقيت في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس 11.10.2018)