قراءة في رواية “ضحى” لحسين ياسين
تاريخ النشر: 15/10/18 | 12:42العنعنة وتبدُّل الرواة يولِّدُ طقوس الحَكايا
كان يا ما كان في قريب الزمان، وفي هذا العصر والأوان
قراءة في رواية “ضحى” لحسين ياسين
بقلم: د. راوية جرجورة بربارة
إنّ عتباتِ النصّ كعتبات البيت إذا كانت كثيرة وضيّقةً تُتْعب القارئ، وعتبات نصّ رواية “ضحى”، تتركُك لاهثًا، فالعتبة الأولى: العنوان “ضحى”، والعتبةُ الثانية العنوان الفرعيّ: “ثلاث نساء في القدس” يبئّران النصّ حول شخصيّة نسائيّة اسمها “ضحى” ثمّ يُحيلنا إلى أنّها واحدة من ثلاث نساء في القدس، ونحن نقرأ باحثين عنهنّ وعن علاقتهنّ في المكان، وهكذا يكون العنوانُ غيرَ حياديّ يؤدّي وظيفتَه الإيحائيّة (connotative function) فيقيّدنا أثناء القراءة في العودة إلى مدلولاته؛ وأنا أقرأُ كنتُ أبحث عن ضحى، وحين وجدتُها بتُّ أبحثُ عن علاقتها بتانيا، أو بأمّ تانتشكا وبماري تريز، وهكذا ربطني العنوان وقيّدني وأرجعني إلى النقاش الأدبيّ القائم بين النقّاد حول العنوان مستعينةً بالكتاب المهمّ لبروفيسور محمود غنايم “غواية العنوان” ، وذلك لِما أحدثه عنوان الرواية من مفارقات قرائيّة عندي شخصيًّا وتركني بعد كلّ فصلٍ أقرأه في الرواية أبحث عن ضحى، وعن النساء الثلاث اللاتي معها، وألهث لأربط بين نساء الحَكايا، فأعاود القراءة من جديد، هناك من النقّاد مَن ينظر إلى العنوان كوحدة مستقلّة موازية للنصّ، وإذا كان العنوان “ضحى، ثلاث نساء في القدس” نصًّا موازيًا، كان عليه أن يكون أكثر حياديًّا فلا يفضّل ضحى عن غيرها من النساء، ولا يخصّها بالعنوان وبالعتبة الأكبر على اعتبارها نصّا مستقلًّا بذاته، وتكون حصّتها في الرواية هي الأقلّ من بين غيرِها منَ النساء فتكون هذه هي المفاجأة الأولى، وتأتينا المفاجأة الثانية على مهلها، فلا يعود العنوان نصًّا موازيًا إذ يلتقي المتوازيان في الرواية الثانية في الكتاب ويتقاطعان، فتظهر ضحى بمعناها الحقيقيّ لا التأويليّ، الذي يمكن أن تحتمله على مضضٍ، وكما تظهر فجأة تختفي فجأةً فلماذا كانت الرواية باسمِها؟ ألأنّها العربيّة بين أجنبيّتيْن؟ أم لأنّها تأويلًا تشبه القدس وما آلت إليه حين “أدخلوا كلّ زناة الليل إلى حجرتها ووقفوا يسترقون السمع إلى صراخ بكارتها”؟
هناك من النقّاد مَن يرى “أنّ العنوانَ يقودُ إلى النصّ، بل أنّ العنوانَ هو النصُّ والنصُّ هو العنوان” ، وفي حالتنا هذه لا يمكن الأخذُ بهذا القول، لأنّ ضحى لم تكن كلَّ النصّ، والنصّ لم يكن عن ضحى وحدها، بل تشعّب ليحدّثَنا تواريخ وتراثَ وجغرافيّةَ العديدِ منَ الأماكن والشعوب. إذًا فلنَرَ ما يقوله الناقد حليفي في هذا الشأن: “النصّ الموازي في الرواية هو خطابٌ مفكَّرٌ فيه، آثمٌ لأنّه الشيء الذي يوجّه المتلقّي ويرسم انطباعًا أوّليًّا عن ذلك النصّ، سرعان ما يتوسّع أو يتقلّص مع القراءة” ، وكم كان آثِمًا عنوانك أيّها المبدع، وكم كان مفكَّرًا فيه، أردتَها “ضحى” فِلَسطينيّة الثوب والتاريخ والتعاطي فأخَذْتَنا إلى غيرها ليرويَ حكايتها/حكايتَنا، ألَمْ تعترف بذلك في آخر صفحة من الرواية حين قلت: “الحلم أجمل من الواقع. لم نفقد إيماننا بالشفاء من جرح التاريخ، فخلْفَنا ماضٍ مدوّنٌ يقرأُه، بدلًا منّا، صوتُ الضحيّة”، وهنا تكمن جماليّةُ نصِّكَ أنّك تركتَنا نسمع تاريخَ القدس ونراه من عيون ضحاياها، من عيون الفلسطينيّين والألمان واليهود.
ولنعد إلى العتبات، يفتتح حسين ياسين روايته بعنوان “على عتبة النّصّ، قالت لي الغجريّة”، وبعد أن يصف الغجر وأسواقَهم وفلّاحاتِهم وأحوالَهم وخباياهُم، تشكّ فيه الغجريّة وتظنّه من القبيلة لأنّ لونَ بشرتِهِ وملامِحَه تنسجم مع أوصاف الغجر، ولأنّ “الاقتلاعَ والتهجيرَ في كينونته مفْصَلٌ محدّدٌ واضحُ المعالم” على حدّ قوله، فتسأله: “متى اقتلعوك من أصولكَ وغرّبوك عن ذاتكَ؟” فيجيبها : عام الثمانية وأربعين. “قالت: اطلب حقَّك. بإلحاح.. ولا تساوم. قلت، والتورية تنتصر على المعنى، والخيال يصدم الواقع: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قالت: المشكلة في من اغتصب الحقَّ، كيف يؤدّيه، وليست في من يطلبُه.. لا تحمل مشكلةَ غيرك. يكفيك من الهمّ مشكلَتُك” ، هذه العتبة التي لا علاقة لها بالرواية بتاتًا ولا بشخصيّات الرواية، تمهّد لنا بأنّ ما ستطرحه الرواية هو الهمّ، والشتات وكيفيّة انتهاك واغتصاب حقّ الغير، وتمهّد لنا بأنّ الراوي والروائيّ/الكاتب لا ينفصلان كثيرًا عن بعضهما، وأنّ للراوي سلطة كبيرة على النّصّ يسيّره على هواه ويشاركنا بمن يريد لنا هو أن نسمعَهُ، ونحن نعرف أنّه من القوى البشريّة الفاعلة على النّصّ قوّة الكاتب الحقيقيّ، والكاتب الضمنيّ، والراوي والشخصيّة، عدا عن القارئ الضمنيّ والقارئ الحقيقيّ. وحكاية الغجريّة إنْ لـمّــحت لي بشيء فقد وشَتْ بأنَّ سلطةَ الكاتبِ الضمنيّ (حسين المتّخذ موقفًا من الأمور ويريد إيصال الرسالة) تكاد تكون متطابقة مع سلطة الكاتب الحقيقيّ (حسين ياسين بكلّ معطياته الحياتيّة المعروفة)، يعني روح الكاتب الحقيقيّ تخيّم فوق النصّ، وهذا على اعتبار أنّ إناء الكاتب بما فيه ينضح، فهل كانت تجربته مع تانيا محض خيال؟ هل علينا أن نصدّق الراوي المتماهي مع الكاتب الضمنيّ، والذي أسماه الكاتب “عبد الباقي”، ذاك عبد الباقي الذي تغرّب إلى روسيا طلبًا للعلم، وها هو يسرد “للسواعير” قصّةَ حبّه واغترابِه ولذّاتِه في بلاد الغربة، فهل نصدّقه؟ وهل “يُصدَّقُ شابٌ تغرّب أو ختيار ماتت أجيالُه؟” هل هو خيال الكاتب وأعذبه أكذبُه حالُه حالُ الشّعر أم أنّ التجربةَ المعيشةَ كان لا بدّ لها من تفريغٍ يدعمه الاسترجاع الأدبيّ المنوط بمسبّب التداعي ألَا وهو الهاتف الذي أتاه على عجَلٍ من حبيبته الروسيّة واضطرّه أن يقطع رحلته ليعود بالقطار مستذكرًا ومتذكّرًا كلّ ما مرّ بينهما من حبٍّ وشهوةٍ وثقافةٍ وأدبٍ وتفاهمٍ وتنافرٍ على اعتبار تباعد الثقافات والمفاهيم، وكما جاء على لسان عبد الباقي: “ليست الذكريات أشباح الأحداث السعيدة، هي ومضات جميلة، نحبّها فنستدعيها، تأتي بحسِّ الحكاية وتغيِّبُ جسدها” (الرواية ص. 51)، وإن توقّفنا عند اسم الراوي عبد الباقي، فهو يعيش على باقي الذكريات، وعلى باقي الأرض، وعلى بقيّةٍ من تاريخٍ وأملٍ. حينها كان عبدُ الباقي يحكي لنا قصّة حبٍّ متبادلةٍ بين اثنين، بين شعبيْن، بين طرفَي نقيضٍ لنفهمَ لاحقًا أنّ عودة عبد الباقي إلى بلاده هي عودة محمّلة بالنقائض، والذكريات وتاريخِ شعوبٍ أخرى حتّى لو لم يبح بها لاحقًا وتناساها إلّا أنّها خلفيّة للشخصيّة لا بدّ من معرفتها. ما يفعله عبد الباقي هو محاولات استكشافٍ للناس وللمناطق، فمن روسيا إلى جبال تيان شن والقبائل المغوليّة، إلى القدس إلى شتوتغارت، وهنا يراودني نفس السؤال الذي راود الكاتب النيجريّ تيجو كول، حين سأل “ما هو المكان؟ هل هو مساحة ضيّقة ومجمّدة في زمنٍ ما؟ أو هو شيء أوسع نطاقًا يلبسُ صورةً ويتجرّدُ منها على امتداد فترات مختلفة وحسب وجهات نظر تجاربنا في أماكن أخرى؟ وهذا هو السؤال المركزيّ برأيي الذي تطرحه الرواية، وإذا كنّا نبحث عن علاقة بين تانيا وضحى، أو نقاط تقاطع، فعدا عبد الباقي، نجد أنّ روايةَ كلٍّ منهما تروي رواية المكان في زمنٍ محدّد، فتلبس تفاصيل وتتجرّد من أخرى، ولو كانت ضحى ستكتب عن نفس الأماكن اليوم في هذا الحاضر لاختلف القصّ والمعنى والتورية والمشاعر والسّرد والأحاسيس. إذًا ضحى رواية الإنسان في المكان، هي رواية التبدّل، تبدّل الحيّز المكاني، تبدّل اسمِه ومعالِمه وناسِه وتاريخه، وما يؤكّد لي ذلك هو الإسهاب في الوصف التاريخيّ للمكان، والاستطراد غير المبرَّر الذي يخلق فجوة ويسدّها بعد صفحات، تاركًا إيّانا مذهولين من جرأة الكاتب الضمنيّ على خلط ودمج الموضوعات التي لا علاقة لها بالحكاية، بل تكمن كلّ علاقتها في المكان، فها هو يترك قصّته مع تانيا ليخبرنا قصّة القبائل المغوليّة، ثمّ يتركنا عبد الباقي ليستريحَ فيستلم الراوي مؤونة السرد، إذًا هي عنعنة، عن الرواي، عن عبد الباقي، عن الراوي الضمنيّ… وما يفعله الراوي أنّه يبتعد نهائيّا عن القصّة ليعطينا معلومات تاريخيّة عن لسان ابن الأثير في باب “ذِكر خروج التتر إلى بلاد الشام”، ولماذا يعلّمنا موادّ تاريخيّة، ويستطرد ويخرج عن الأحداث الرئيسيّة؟ لاستعراض قواه المعرفيّة أم ليقول لنا بأنّ التاريخ الحاضر هو بقايا التاريخ الماضي ومن مخلّفاته؟ يقول عبد الباقي: “بعد هذا الإسهاب التاريخيّ الطويل، نعود إلى الحاضر، إلى الشعوب الإسلاميّة، أحفاد جنكيز خان وسلالة المغول. (ص. 87)، وبعد ذلك يعود للرواية، لكنّها ليست روايته هو وتانتشكا، إنّها رواية والدة تانتشكا التي أحبّت وقت الحرب سيرغي، وظنّته جاسوسًا ألمانيًّا حتّى كشفَتْ لها الدولة أنّه بطلٌ روسيٌّ عمل لصالح بلاده وتجسّس على الألمان في الحرب العالميّة الثانية، وأن تانتشكا ابنة ذاك البطل، وحفيدة ذاك المحارب الذي دافع عن بلاده في الحرب، ونسمع تانتشكا في نهاية روايتها تحكي بلسان عبد الباقي وبلغته تؤنّب والدتها التي تريد حفيدًا من الفلسطينيّ، فتقول لها: لويش هذا؟ لويش هذا الحكي؟ هو متزوّج….متزوّج، من القضيّة” (ص.130)
بعد أن نستمع لرواية الاتّحاد السوفييتي وقت الحرب العالميّة الثانية، من حكاية أم تانتشكا وهي ماريا بترفنا، ينتقل الراوي إلى حكاية ضحى، لكنّه ليمهّد الانتقال من هناك إلى هنا، ومن قصّة لقصّة لا علاقة بينهما، يروي عبد الباقي لماريا مأساته ومأساة شعبه، ويُفهمنا على طريقة “بسمّعك يا جارة تتفهمي يا كنّة”، أنّ ما يتحاوره هو وماريا، ما هو إلاّ تبرير لسردِه علينا قصّة ضحى، إذ يقول: “الشعوب الحيّة لا تسكن الماضي، إلّا بقدر ما تستخدمه أداة من أدواتها، في بحثها عن المستقبل..” (ص. 146)
وكيف تبدأ ضحى؟ ما زال عبد الباقي يروي: “في أوّل زيارة للبلاد، التي شَنَقَتْ وطني، رحت أبحث عن بيتنا، في حيّنا. ومفتاح الدار يتدلّى من عنقي. أتحسّسه بين خطوة وأخرى” (ص. 149) وهكذا يرجع الزمن بالراوي إلى أيّام الطفولة في القدس، وإلى ذاك الزمن الجميل الذي عاشه هناك في طفولته، في مكانه المفقود وزمنه ىالمنقوص، مدرسة المطران في الشيخ جرّاح، شرطة المصرارة، شارع يافا، باب الخليل، مدرسة التيراسنطة والمدرسة العمريّة، وجارهم اسكندر المجدلانيّ قبضاي الحارة، بقالة عمو ذيب اللفتاوي، الخيّاطة جميلة، ونسير معه نحن القرّاء لاهثين باحثين عن ضحى، فنصلها (ص. 154) “أصغر بيوت الحيّ بيت ضحى ابنة الحدّاد…”ضحى جرأتها وشجاعتها كانتا محطّ دهشة واستغراب، ورجولة افتقدناها جميعًا… كانت تقرع آذاننا بمقولات لا نعيها جيّدًا: الشيوعيّة عالم بلا فقراء، الجيش الأحمر داس بجزمته على النازيّة والفاشيّة، وستالين أبو شنب أقوى من تشرشل أبو بنص…ضحى بلا شكّ نضجت قبلنا وقبل أوانها” (ص. 155)، وتبقى الذكريات تسيّرنا حتّى يصلَ بيته فيجدَ اليهوديَّ وقد قطنه، “ولجْتُ الدارَ، يلتقي فيَّ المغلوب بالمنهوب، رِجلٌ تجرّ الخسارة وأخرى تنوء بثقل الضياع، أخطو على سَجّادتنا القديمة….” (ص.168)، وهكذا يتحاور مع اليهوديّ فيخبره مأساة اليهود في أوشفيتس، والقطارات المحمّلة باليهود في أوروبا، والعودة بعد الحرب ليقال له “أنت حاضر غائب” لا أملاك لك ولا وجود فعليّ، واللوعة في قلب عبد الباقي تذكّره بما حفظه عن أبيه في حسرة منفاه: “يا شجرة في الدار حاميها أسد/ تتكسّر الغصون من كثر الحسد/ إحنا زرعنا الزرع وأجا الغير حصد/ يا حسرتي شو نابنا غير التعب” (ص. 177)
ثمّ يتابع الحوار وينقل السّرد لليهوديّ الذي يخبره عن الهولوكوست وأنّه فقَد أهله في أوروبا، وفقَد ابنه في القدس، “في خريف جافّ، جاءوا إليّ بصندوق محكَم الإغلاق” (ص. 178).
وهكذا يتبدّل الرواة في الرواية عن قصد، ليس لأنّ ذاك تَعِبَ والآخر يُريحُه، بل لنرى مأساة الإنسان في المكان، لنرى الروايةَ التاريخيّة من وجهات نظر مختلفة، لنعرفَ ونفهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه، لذلك عند خروجه من بيته المنهوب وجد شمعون ابن الخواجا حسون جاره من رحافيا وزميله من أيام المدرسة، والآن يرتاح عبد الباقي من السّرد، فهو كان غريبًا وعاد، أمّا شمعون فلم يُهجَّر سنة 1948، وبقيَتْ أخبار كلّ أهل الحارة لديه، تلك الحَكايا البائسة المحمّلة على جِمال الذكرى، “جمال محمّلِة وجمال بتعنّ/ ع إيّامٍ مضت، ع البال بتعنّ”، وبعد أن يروي شمعون قصص الجيران، يصل لقصّة ضحى التي وقعت ضحيّة الحرب، “وكان لضحى في خمّارة البصرة، زبائنها الدائمون، يطلبونها، دون سواها من البنات” (ص. 201)، وضحى كانت عشق الطفولة بالنسبة لعبد الباقي تُزوّج زواج مسيارٍ لجاسم الربيعيّ هربًا من القوّاد فؤاد عجمي صاحب خمارة في الحي الشرقي الجنوبيّ، ثمّ علاقة ضحى “عروس التركمان” بابن الساحل ونهايتها على يد بحّار غربيّ ذبحها.
هكذا تنتهي ذكريات القدس مع ضحى، لتبدأ الرواية الثالثة مع امرأة ثالثة هي ماري تريز، وهنا يلتقي عبد الباقي صدفةً بأُلفيي من الألمانيّة “جئتُ من أستراليا أنثر الورود على ضريحَيْ أبويَّ، وأجول في أطلال عمري وما تردَّم من حياتي”، إذًا مرّةً أخرى، كان لنفس المكان الذي جاءه عبد الباقي القدس، حكاية قديمة لم يعِشها هو ولم يعرفها إلَّا من لسان الراوي أُلفيي، الذي كان ينقلها لنا أحيانًا على لسان أمّه ماري تريز الالمانيّة التي كانت في معسكر التركيز في فالدهايم، وكما تماهى عد الباقي مع ناهب بيته اليهوديّ في المأساة المشتركة، نراه يتماهى مع ماري تريز، ومع حزنها وألمها حينذاك فيقول لابنها: “أعرف هذه الحالة، أعرفها جيّدًا، فعندما هرستنا المأساة، كنت أرى حزن الكبار، وكيف كانوا يخبّئونه عنّا، الصغار” (ص. 242)، وهكذا نستمع لحكاية القدس وأهلها وناسها وروّادها من سنة 1910، من خلال حكاية ماري تريز والتمبلريز، حتّى 1948، وكلّ ما حصل في القدس حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه.
الروايةُ ليست رواية ضحى، الروايةُ رواية المكان الذي يسكننا ولا نسكنه، يصبح هاجسَنا وشوقَنا وحنينَنا، يحمل النوستالجيا ويعزفها على أنين ناياتنا، رواية ضحى بدأت كالعدّ التنازليّ، من الذكريات القريبة زمنيًّا البعيدة جغرافيًّا في روسيا، وصلت إلى الحرب العالميّة الثانية، أفهمتنا سرّ وجود تانتشكا، وعلاقتها بالحياة، وحدّثتنا عن فترة شباب الراوي عبد الباقي، ثمّ أخذتنا إلى القدس، القريبة جغرافيًّا ولكن البعيدة زمنيًّا بعض الشيء، فاسترجع معنا الراوي أيّام طفولته، ثمّ ابتعدت فينا الحَكايا أكثر إلى ما قبل ولادة عبد الباقي زمنيًّاـ إلى ولادة تاريخيّة مختلفة، أدّت إلى واقع جغرافيّ مختلف، كان مسرحه بين ألمانيا وإسرائيل.
هذا التنازل الزمنيّ أتى ليقولَ قوليْه الهامّيْن: الأوّل أنّنا جميعًا وعلى اختلاف جنسيّاتنا وعلاقتنا الإنسانيّة والضديّة والعرقيّة والاجتماعيّة ببعض، نبقى ضحايا. ضحايا في أمورٍ وارتكابات وارتباكات لا شأن لنا فيها، وهذا يعيدني إلى الغجريّة الأولى في بداية الرواية لأُغلقَ الدائرة، فالمشكلة، مشكلة الروسيّ، واليهوديّ والألمانيّ والفلسطينيّ “في مَن اغتصب الحقَّ، كيف يؤدّيه، وليست في من يطلبه” (ص.13)؛ والقول الثاني في الرواية هو ما ورد في الرواية على لسان الحكيم ميشيل فوكو: “لا يمكن فهم المكان بمعزِل عن ممارسات الناس، والتاريخ هو ممارسات الناس في المكان” (ص. 160).
والوصيّة التي تحملها الرواية بذكرياتها الكثيرة، وسردها الأخّاذ الجميل، وفجواتها على مستوى النصّ والقارئ، والعنعنة في تبدّل رواتها وزوايا سردِها، وصيّة الرواية جاءت على لسان جد الراوي حين قال: “ديتي وطن”، وقال لي أبي ما قاله جدّي، وقد أقول لأولادي: “هذا كلُّ إرثي، فلا تفرّطوا بإرثي واطلبوا ديّتي، ولا تهجروا بقايا الوطن” (ص. 139)
وأُجمِلُ الرواية بثلاثة أبيات:
جْمال مْحَمّلة وجمال بتعنّ وجمال ناختْ مِ التعاب
ضحى مْوَلْوِلِه وتريز بِتئنّ وتانيا ذَبَحْها العذاب
أماكن إلنا وأماكن تحنّ وأماكن سَكَنْها لِغْرابْ
راوية جرجورة بربارة
(نصّ الكلمة التي ألقيت في الندوة الأدبيّة التي عُقدَت حول رواية “ضحى”، في النادي الثقافي يوم 11.08.18)
بقلم: د. راوية جرجورة بربارة