الو …..عاصي الرحبّاني
تاريخ النشر: 18/10/18 | 7:15 استلمت بالامس بلفوني الجديد من الجيل الجديد جدًّا ، ورحتُ وأنا غير الخبير في التقنيات اعبث به، فأداعب هذا الزرّ تارةً وتارةً ذاك، لعلّني اتذكّر ما أرشدني اليه الموظف الفنيّ المسؤول، ولكن دون جدوى ، وبدا لي اخيرًا انّه يُجري اتصالاً فأنصتّ، وجاء الصّوت بعيدًا، والرنين بعيدًا عميقًا.
وانتظرتُ ولم يُطُل انتظاري، فجاءني الصوت هامسًا ، شجيًّا قائلاً :هنا السماء …..معكم الملاك ميخائيل …مَن تطلبون؟.
واستفقتُ من الصدمة …السماء ؟!!..العلكَ تمزح ؟!.-
لا …لا امزحُ ..صدّقني انا من السماء …ماذا تريد؟-
وتلعثمتُ قائلاً انا …انا من الارض.-
اعلم تمامًا وأحبّ أن أعلمك أننا نعرف كلّ حركةٍ وسكنةٍ عندكم.-
ولا ادري لماذا طفا على سطح ذاكرتي عاصي الرحباني ، ألانّي كنتُ انوي أن اكتبَ رسالةً لفيروز في عيدها الثّالث والثّمانين والذي يُصادف في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من كلّ سنة .
قلتُ سريعا : اريد ابن انطلياس ،عاصي حنّا الرحباني …الموسيقار اللّبناني الشهير أتعرفه ؟
فضحك الملاك قائلا على رِسلكَ،من لا يعرفه !! أتقصدُ ابا زياد ، انّه يقود مع اخيه منصور إحدى جوقات الملائكة التي ترنّم وتُسبّح…
وتابع قائلاً: انتظر ، أنّي اسمعُ انّ الموسيقى قد هدأت، لعلّ هناك فاصل من راحة…انتظرني على الخطّ.
وانتظرت …وجاءني الصوت من الطرف الآخر لاهثًا …الو نعم انا عاصي الرّحباني…مع من أتكلّم ؟.
وكدتُ أطيرُ من الفرح…وتداركتُ نفسي قائلاً أنا…أنا صحفيّ من الأرض ومن الجليل تحديدًا.
– من الجليل ؟ من الناصرة . من بلد الربّ ….يا مرحبًا
قلت: في جعبتي يا أخي الموسيقار عدّة أسئلة أودّ أن تجيب عليها ، وثِق أنّ فضائيات العالم العربي والغربي ستحتفل بها!
انّنا نتابعكم من هُنا ، نتابعُ الأصيل والشاعريّ الهامس، ونُشفِق على الهابط .
عُذرًا فالزؤان ملأ قمحكم في الفترة الأخيرة.
_ مَن تقصد يا ابا زياد ؟
_ بل قُل مَن لا اقصدُ؟
ورنّت ضحكاتُه لتملأَ جنبات الفضاء.
في صوت فيروز عَبقٌ من رمّان قانا ، واريج من سوسنات الجليل ، وكركرة من شلاّل البانياس ، وبراءة من طفل المغارة، وهمسٌ من وشوشات الملائكة وعٍطرٌ من قداسة….
فماذا يقول عاصي الرحباني ؟
لا يسعني الاّ ان اصفّق لك.فترنيماتها تشقّ السماء في كل فصح.
أتذكر –قلتُ- تاريخ ميلاد فيروز سفيرتنا الى النجوم؟
فضحك قائلاً : آه منكم انتم معشر الصّحافيين أبدًا تريدون أن تُوقعوا بين الناس، فاسمعني جيّدًا ، انّ تاريخ فيروز لا يُنسى ، انّه في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من كلّ عام، …يوم ولادتها غنّت الرياح والأوراق والسماء سيمفونية ولا أحلى…انّها في مثل هذه الأيام سترفل بعامها الثالث والثمانين ..لا …لا ليسامحني الربّ الإله.. الثالث والخمسين… …انّها خمرة مُعتّقة وروح وثّابة ، وقلب كبير ، وكنز نَدَر َمثيله في الأرض كلّها .
فيروزبصوتها الكريستالي المُعطّر ، تأخذكَ بعيدًا الى عُمق الإحساس ، والى وطن ٍلم يخلقه الله بعد، فتنتشي وترقصُ روحُكَ على وقع حبّات المطر الأول ، بعد جفافٍ طالَ أمده….فيروز قهوة الصباحٍ على شرفة الامل …فيروز شوقيَ الهادر.
_ هل من كلمة تُوجهها إلى امّ الكلّ ؟
_ فيروزتي ….كِبر البحر بحبّك ….بُعد السّما بحبّك…السماء الحالمة والتي يعجز لساني عن وصفها لم تُنسني حِقبةً من العمر ملأتِ فيها أحاسيسي ووجداني ، وعزفتِ على وتر مشاعري لحنًا سرمديًا.
_ وماذا عن زياد ؟
_ زياد…”الله يخلّيه ” غدا رجلاً ملء ثيابه، تعجبني فيه ثورته وتمرّده ، ولكنه سيهدأ …
– كذا الطبيعة- كما حجر جبران الذي رُميَ في الماء فأحدث دوائر ثمّ ما لبث أن هدأ واستكان ، وكذا زياد المُرهَف الحِس ّ ، والمُطعّم بفيروز والرحابنة ، سيهدأ وسيعرف أنّ هناك في الأعالي ربّ للعرش…زياد استمرارٌ لنا وتواصل ، وأنا واثقٌ بأنه سيتابع المسيرة ،وسيكمّل المشوار وسيزيّن جبين الغناء بدرره وموسيقاه….وسيرعى البيت الذي أحببتُ ..
_ لطالما يا أبا زياد ما أُعجِبتُ بشاعريتك وبأغانيك الرائعة، البسيطة القريبة من القلب والروح .. ولكن هناك أغنية لم أفهمها رغم أنني استملحها كثيرا وارددها .
_ما هي…؟
_أنها أغنية ” تعا ولا تيجي ،إكزوب عليّ ..والكزبه مش خطية” ماذا تعني بها ؟
ورنّت ضحكته الهادرة ثانية من بعيد وقال :
_ أنّا الآن بصوتي الخشن- وشتان ما بينه وبين صوت فيروز – سأغني لفيروز تعا ولا تيجي…انّي أموت شوقًا إليها، وفي عين الوقت أتمنّى لها العمر المديد ، لتُتحِفَ البشرية بعبق صوتها وأريج غِنائها.
_ مَن مِن الشعراء عشقتَ وأنت تصول وتجول في وديان لبنان وسهوله ومروجه وصنّينه؟
_ العمالقة كثيرون ولعلّ أعظمهم ديستويفسكي وطاغور وشكسبير وجبران وشوقي ، وهؤلاء جميعًا اركن إليهم اليوم وارتاح لرفقتهم بعد العمل مع النوتة ، هذه التي ملأت كياني وما زالت.
__ وماذا تقول للبنان ؟
_ لا أقول إنّما ابكي …انّ قلبي يتفطّر حُزناً كلما مرّ هذا اللّبنان ببالي ..لقد أضحى صيدًا سائغاّ للكلّ، بشرّي جبران تبكي أولادها وبسكنتا نعيمة تولول .. والزعماء يتقاسمون غنائم الفقراء…والكهرباء تفرُّ نهارًا وليلًا ،والقُمامة حدّث ولا حَرَج !!!
_ لنعُد يا أبا زياد لفيروز ، جارة القمر فبماذا تنصحها؟
_ فيروز ليست بحاجة لنصيحتي انّها تحسب الأمور حسابًا دقيقًا …منذ أن عرفتها والتأني دربها والتريُّث طريقها، ولكنني أريد أن تبقى كما كانت أبدًا بعيدًا عن الإعلام والفضائيات ، فحياة الفنّان الخاصّة هي مُلك له وحده ، وكذا فيروز فهالة القداسة – وهي تستحقها-جاءتها من انتمائها لفنّها الأصيل ؛ انتماءً قدّرها عليه كل مَن عَرَفَ الغناء وتذوّق الموسيقى من كلّ لسان وشعب….سفيرة الارض الى النجوم لا تزال كما هي نجمة النجمات …احَمّلكَ تحياتي لها وأصلّي كيما تطول ايامها على الارض .
_ ابا زياد…مَن أحببتَ من المطربين ومن تحبّ اليوم ؟
_ : فيروز ثُمّ فيروز ثُمّ فيروز
_ و………….
_ والصّافي وحبيبي نصري شمس الدين اللذين يشاركانني اليوم التسبيح .
_ واليوم : إحراج!!! …ورغم ذلك أقول إنها ماجدة …ماجدة الرومي.
_ أستاذ عاصي …ما هو رأيك بأخيك الياس الرحباني؟
_ الياس ، توأم روحي وتِربُ صباي و أخي الصغير………….
ولم اسمع بقيّة الإجابة ، فقد رنّ بلفوني مُعلِنًا السادسة والنصف صباحًا ، الموعد الذي استيقظ فيه لأتأهّب لاوصل زوجتي الى مدرستها حيث تعمل ، فقمتُ وأنا العنُ الساعة التي رنّ بها هذا البلفون اللعين .
بقلم : زهير دعيم