عودة الضفاوي .!
تاريخ النشر: 21/10/18 | 9:34قد تقول أنني أصبتُ بجنون مجنون ..
رأسك ووجهك ,الملفوفان بلفافات المستشفى البيضاء , ولم تظهر منهما إلا العينين والأنف , كنتَ أجمل مما كنت عليه قبل فراقنا ..
كانت عينيك تشعّان سحراَ مسحور , يأخذ الناظر إليهما الى ما وراء الأفق الجميل .
رأيتك ملاكاً طلَّ من السماوات العليا ..
**********
وصلتك ..
بعد أن لمحت وجهك , يرتفع قليلاً عن الأرض ,الذي كان جندي الاحتلال يجرُّك على ترابها ..
رأيتك صورتك على صفحة الجريدة ..
حملتها وطرت الى خالتي – جارتكم ..خِلتُ زمن المسافة التي قطعها الباص , من الجامعة الى محطة بيتها دهرا .
جلست على مقعدي فيه ,أحرِّك صفحة الجريدة الى الشمال والى اليمين , الى الأعلى والى الأسفل ,غرفت من الصورة حتى تعبتْ عيناي من تفحُّصها والتحديق فيها..
عيناك المتحدّيتان ..
الدَّم الذي كان ينزف من جبهتك ..
يدك الحمرا ء التي كانت تتحسس تراب الأرض ..
كلُّها كانت تصرخ من صفحة الجريدة ..
أنا ..أنا.. !
عندما دخلت على خالتي , ألقيت الصحيفة في حِجْرها ..
تناولتها وعيناها منصبتان على وجهي, محاولة ان تنتشل من تعابيره شيئاً , يخرجها من البئر الذي رميتها فيه .
تقدمتُ منها , وسحبتُ الجريدة من يديها , ووضعتها أمام عينيها , وأشرتُ بإصبعي الى صورة , تحتل مساحة واسعة من الصفحة وصرختُ بها :
لمين هذه ..!!؟
قالت وهي تغرف بعينيها من الصوره , وتعابير وجهها تتشكَّل
بأشكال وألوان مختلفة :
إعرفيها..أنا لليش جاي عندك !؟
مش معقول ..مستحيل .!!
خرجت من بين شفتيها همهمات مخنوقة ..
شو شو !؟ مستحيل ..!
ل .. لؤ .. لؤي .!؟
شو وصَّله لهناك .!؟ سألتها.
أبوه أصله من هناك ..من البيرة ..
كان قد تزوَّج ابنة جيراننا .. وسكنوا هنا في حيفا ..
يا حرام ..!! كل إلّي صار له ” بسببك ” .!
رمتني عمتي باتهام كله إعجاب .
**********
في طريقي إليك ..
مرَّ أمامي شريط , أول مظاهرة “جررتكَ ” إليها ..
كنت معي .. تسير الى جانبي في المظاهرة ..وفجأة اختفيتَ ..
بحثت ُعنك بين الجموع ..
تلفَّتُ الى كلِّ الجهات حولي ..
أمامي .. خلفي ..الى شمالي ..الى يميني ..
اختفيت مثل قطرة ندى , عندما تهاجمها الشمس ..
كورقة شجر خريفية , طارت في مهبِّ الريح ..
كنا نسير في مظاهرة , نجوب شوارع حيفا .. ثائرين على جرائم الإحتلال في غزة ..
قبل أن ” تتبخر ” حاولتُ أن أمسك بيدك , كي لا ” نضيِّع ” بعضنا , فسحبتها , كأن يدي أفعى تمتد للسع يدك .!
وعندما التقيتك بعد أيام , سألتك عن سبب غيابك عنّي , تستَّرت خلف أعذار واهية , فغفر لك حبّي الأعمى .. وأوجد لك أنفاقاً واسعة لتنفذ أعذارك منها .
*************
بدايتنا كانت ..
التقيتك في بيت خالتي الحيفاوية .. التي كنت معتادة ان أقضي في بيتها ساعات أو أيام , في سنوات دراستي الجامعية , في جامعة حيفا ..
أنا ابنة دير الأسد .. القروية الفلاحة .. كما كان يحلو لك , أن تتندر على حسابي .!
حدثتك عن الزيتون واللوز والسريس والخبيزة , وعين الماء ..
وحدثتني عن حفلات الأصدقاء , وآخر صرعات الموضة ..
,لكنك أشعلتً في روحي الحبَّ للبحر .. بحر حيفا ..
فقضينا ساعات طوال , ونحن نسير على رماله .. رسمنا عليها خُطا حبنا الأولى .
جلسنا عليها , وتركنا لأمواجه , لتكتب بحبر زبدها لواعج حبنا , على صفحات مائه .
تخيَّلت نفسي عروس البحر , وأنت الملاك الذي خرج من بين أمواجه , ليرقص معها رقصة على تموجات أنغامه.
كنت معي على البحر , ولكنني لاحظت أنك لم تستطع ان تغوص معي الى أعماقه ..
غصتُ عميقاً , وأنت بقيت على الشاطئ ..
سألتني : ما هذا الوجوم ,الذي تسلّل الى قسمات وجهك .!؟
يُتْم حيفا ..غياب حبيبها ..!
أجبتك , وأنا أقاوم دمعة , كانت تحاول ان تتسلل من عيني .
فلم تَعِ ما قلت ..
حيفا بالنسبة لي ثكلى ..فقدت وليدها وما زالت تجلس على قمَّة الكرمل , وتمدُّ نظرها الى أفق البحر , تنتظر ابنها ليظهر من بين التقاء زرقتي الماء والسماء .
أما بالنسبة لك فكانت حفلات وومقاهي وملاعب , ومتاجر
ومراتع وملاهي .. لم ترَ جرح حيفا النازف , من بيوتها القديمة , التي تغوص في وجوم مهجور .
*************
عندما عرضتُ عليك , ان تشارك في المظاهرة , التي ستسير في شوارع بلدنا , ثائرة ضدَّ هدم البيوت ..
قلت كأنك فزت بصيد ثمين لم تنتظره , يخالط لهجتك نوع سمج, من دعابة أثارت غضبي :
” وهي فرصة .. بنشوف أمّك .!”.
وحضرت الى البلد , ورافقتني الى المظاهرة , وسرت الى جانبي فيها ..
وجودك بجانبي فيها, جعلني أعلو الى طبقات , لم أصلها ومن التحدي والتصميم ..
ولكني في زخم المظاهرة ” أضعتك ” بين الجماهير .. بحثت عنك فلم أجدك .
وعند انتهائها , رجعت الى البيت , وجدتك بانسجام شاعري , تناغم أمي , كأنك ” تعشقها ” منذ زمن بعيد .!
” ضيفك مش بتاع مظاهرات .. رجع من أولها ..! ”
قالت أمي بضحكة , أرادت بها التخفيف من وقع الموقف ..
فتركتكما معاً , دخلت غرفتي , و “طرقت ” بابها خلفي , ولم أخرج منها , إلا بعد أن تأكدت أنك غادرت البلد .
ورحت تبحث عنّي , بعد ان ضيعت نفسي عنك , أغلقت في وجهك كلَّ الأبواب , قبل ان تحاول فتحها .. هاتفي النقّال , عمتي , أمي ..دنياي َ ..
حاولتَ أن تعترضني في طريقي للجامعة , فتجاوزتك دون أن أرى وجهك , مزَّقت رسائلك , قبل أن أفتحها .!
حاولت أن أنساك ..
أنا وقضيتي لسنا لعبة بين يديك ..
شهور مرت , وخالتي تنقل اليَّ إلحاحاتك واستعطافاتك .. تطلب ان التقيك لمرة واحدة , لن تطلب غيرها ..
رفضتها ..
*********
حتى رأيت صورتك على صفحة الجريدة تنزف دماً ..
كان الجندي يسحب جسمك على التراب .. ودمك يسيل عليه ..
فطرت إليك ..
يوسف جمّال – عرعرة