تأبَّطتُ سلمى- كلام قابل للكلام- سرد: محمود مرعي
تاريخ النشر: 08/11/18 | 10:10تأبَّطتُ سلمى أصيلًا، وسلكت طريق الصَّهيل الأصيل، كانت عيون الوقت مشرعة على خُطاي، وسلمى تعيد ترتيب الجهات، وتكتب السِّياق، تكتبنا، وللرِّيح هبوب من جهة الـمنحدرات وراءنا حيث النَّخيل لم يزل يحاول أَنْ يكون حيِّزًا من مكان.. وعلى طول طريق الكهوف الـممتدَّة من فجر الأيائل الكُنَّسِ إلى صباح العائدين حلمًا، كانت سلمى تغنِّيني أغاني الغجر السَّابقين.. كانت تقصُّ عليَّ سيرة جدائل عرائس القصب البعيد.. كانت تقول وكنت أُصغي..
كانت حقول الصباح على الجنبين، وسنابل الوقت تنمو صعودًا نحو نجم قَصِيِّ الطُّلوع.. وكان نخيل الشَّمس يشمخ في العُلا، وسلمى لم تزل تغنِّيني تراتيل جلجامش قبل رحلته.. وكانت تهمس لي بأغاني جولييت الخجولة في نافذتها الـمطلَّة على النَّهار وحبيبها.. قالت سلمى بعد غفوة خمر ربيعيٍّ:
– أراك كالقدر وحيدًا في مهبِّ الـمسالك صوب الـممالك والـمهالك، منذ عاقرتك لم أر صحبك الأوَّلين ولا بنيك القادمين، ولم تزل تركض خلف ظلِّك القديمِ، أما آن لك أَنْ تموت هلالين وشمسًا، ربَّما تحملك الجهات إليك وترجع أنا..
• يا سلمى، ألم أخبرك باليقين التَّعِب في حناجر السَّفر، وقلوب الدُّروب الخضراء في غسق الـمعارج صوب الصَّهيل الأصيل؟ ألم أحملك وردة نهارٍ صيفيٍّ من فصولي الغريبة، يوم هبَّت عليَّ ريح الوقت الجديد، وأنا على تخوم الكلام العابر مدارج الـمدارك، وتشبَّعتْ عروقك بي فصرْتِ أنا؟
– منذ تعرَّينا على عتبة مقصلة الكينونة وأنت تلقي عليَّ حضارة الكلام وحضور البدايات في تفاصيل اللُّغة.. لم تَنْطِقني مرَّة غير نشيد غِواية مسكر عُدتُ منه درسًا من فلسفة.. متى ترتقي حضارة أنوثتي ومدارج حرِّيَّتي حَتَّى أراك مختلفًا عن مألوفك؟ متى أراك بلا كلام تعتقد الشُّروح على ما اخضرَّ من جسدي؟ سئمتك.. لم ألدْ منك غير صمتين وريح وصفير كلام.. كم تمنَّيت فصلًا من جنون يداهمك فأنغمس في عروقك عزف راعٍ على كتف واد في ربيع الـموسيقى ونيسان البدور..
• اعتدلي قليلًا أيتها الشَّقيَّة.. تأبَّطتك لأعقل عنِّي ما أكون ومن أكون.. فإذا أنت أَضْيَعُ منِّي فوق رماد عنقاء مغرب.. دعي الصَّمت يتكلَّم الآن فصلين من سبات ربَّما نصحو.. والكهوف الآن عاريات أمامنا والشَّمس تطلُّ عليها تقرض الزَّمان فيها ثُمَّ تَزاوَرُ عن حصاها.. سنصلها بعد وجه فاسكُني قليلًا كي أرتِّب اللُّغة..
نزلت سلمى إلى سحيق خاصرتي.. وراحت تقطف الهواء عن شجر الضَّوء وتملأ جيوب خاصرتي.. تقول إِنَّهُ زادنا في رحلة الكهوف، حَتَّى نعبر مدارك الكهوف إلى ذواتنا سالـمين إِلَّا من شطوب الرِّيح حين تصفعنا.. قطفت ما شاءت حَتَّى ثقل حملنا ثُمَّ ارتقت إلى كتفي وجلست رأسها فوق رأسي والرِّيح تقاتل شعرها تجرُّه خلفنا فيمتدُّ موجًا يسير إلى شاطئه.. ثُمَّ انحنت على غيابنا وانغمست في رحيق كنَّا نعدُّ قبل السَّير.. وصاحت كُنِّي يا أنا.. فضممت سلمى وصارت رحيقًا..
جاء الكلام منتصبًا كشماريخ النَّخيل في أوانها.. كظباء فوق شماريخ تطلُّ على شمس النِّطاح.. أشحت عنه قليلًا صوب معانينا الـمقبلة على صهوات الشَّمال كفراش يغطِّي عين الشَّمس.. والكلام يزاحمني علَّه يجد فسحة من وجود يستقرُّ فيها ريثما يتناسل الآتي.
أرحل وسلمى إلى صمتنا الآتي، يستوقفنا كلامنا الأوَّل في العشق، الَّذي تركنا عند حارس الوقت، يعيد ترتيبنا لغة وكينونة، فنفيق على سفرنا الـمتوغِّل بنا في أحشاء العدم الجديد.. أتأبَّطها هواء مورقًا أخصفها عليَّ حَتَّى حين سيأتي.. أترجمها كلامًا قابلًا للكلام وضدِّه، في حضرة اللَّفظ الـمُقَدَّم فاعلًا وإن تأخَّر.. كلانا وجه للكلام سقط على معنى فشاكله فأنبت الوضوح.