هل يُعتبر عادل الأسطة في “ليل الضفّة الطويل” كاتبًا إشكاليًّا؟
تاريخ النشر: 18/11/18 | 19:41لعلّ الإشكاليّةَ الأولى التي تواجه القارئ في هذا المؤلّف هو الاسم الذي اختاره الكاتب، وهو “ليل الضفّة الطويل”، ثمّ تصنيفُه كنصّ قصصيّ رغم اعتباره روايةً برأي بعض الدارسين، والسؤال الذي يعنّ لنا هو: لماذا نُحمّل النصّ أكثرَ ممّا يحتمل؟ ولماذا ننأى بآرائنا عن مشيئة الكاتب ونعدّ نصّه رواية، وقد سبق له أن أشار إلى أنّه نصّ قصصيّ؟ لماذا لا نحترم رأي منتج العمل ما دام قد اختار له الاسم الذي يراه مناسبا لتوصيفه؟ صحيحٌ أنّ هذا النتاجَ يشمل كثيرًا من مواصفات الرواية من زمان، مكان، شخصيّات متعدّدة، أحداث، وراوٍ، لكنّه يبتعد عن الرواية مسافاتٍ شاسعةً لأنّ الرواية نتاج تخييليّ قد يقارب الواقع لكنْ لا يطابقُه تماما، وقد يعتبره البعض مقاطعَ من سيرة غيريّة جماعيّة لاعتماد السيرة على الواقع والحقيقة أكثر من اعتمادها على الخيال، إلّا أنّه يبتعد عن السيرة لأنّ السيرة تتبّعُ حياةِ إنسان أو مجموعة من الناس في فترة زمنيّة ممتدّة ومتسلسلة، وهي تقترب بذلك من التاريخ، ونحن نرى في هذا العمل صورةً حقيقيّةً للواقع المعيش الّذي يصوّره الكاتب لحياة الإنسان الفلسطينيّ في عدّة مناحٍ حياتيّة، وأماكنَ مختلفةٍ، متطرّقًا لشخصيّات وثيمات عديدة، إنّه يبدو كالمصوّر الفوتوغرافيّ يتنقّل بعدسته إلى فضاءاتٍ مختلفة؛ من الحافلة، إلى الشارع، إلى الجامعة، إلى القيادة والفصائلِ الفلسطينيّة المختلفة، ويعرّج أحيانا على البيوت ووصف ما يدور فيها، حتّى يكاد لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ويصوّرها، ليبدوَ نصُّه بذلك نصًّا وقائعيًّا تسجيليًّا، ولينتمي هذا العملُ، في اعتقادنا، إلى ما يُسمّى بالأدب التسجيليّ.
أمّا الاسم الذي اختاره الكاتب لنصّه فهو “ليل الضفّة الطويل”، وقد يَفهم القارئ المعنى الحقيقيَّ للّيل وطولِه في الضفّة، اعتمادا على ما جاء في النصّ، يقول الراوي: “هنا يبدأ الليل منذ الثالثة عصرًا ويستمرّ حتّى صباح اليوم التّالي”(النصّ، 18). وفي موضع آخر نقرأ: “لقد بدأ منع التجوّل الذاتيّ”. يهمس راكب ويتابع: “والآن سيبدأ الليل الطويل”، وتبدو الشوارع فارغةً إلّا من بعض الحافلات”(37). لكن عند البحث عن دلالات لفظتي “الليل والطويل”، واسترجاع الوقائع التي يسجّلها الراوي، فمن المتوقّع أنّه يقصد المآسيَ والمتاعبَ والمعاناةَ التي يقاسي منها أهلُ الضفّة، سواءٌ من الغريب المحتلّ، أو القريب الذي يدرك مواطنَ وجع الناس وآلامهم حتّى لتغيبَ آمالُهم في التخلّص من هذه الحياة الشّاقة وأعبائها الجاثمةِ على كواهل الناس.
يقع الكتاب في جزأين على امتداد تسعين صفحةً من القطع المتوسّط، يستحوذ القسم الأوّل على مساحة تربو عن ثلثي حجم الكتاب، ويترك الكاتب أقلّ من ثلثه للجزء الثاني؛ الأمر الذي يُظهر تكثيفَ الكاتب للطرح الذي أورده في جزئِه الأوّل، إلّا أنّ ما جاء في الجزء الثاني لا يقلّ أهمّيّةً عما تقدّمه. في الجزء الأوّل يرصد الكاتب بالدرجة الأولى الواقعَ السياسيَّ الذي يعيشه الناس في الضفّة في ظلّ الانقسامات الكثيرة للقيادة الفلسطينيّة والعلاقات غير السويّة بين فصائل المقاومة المختلفة، ومواقفِهم المتباينة من مفاوضات السلام وغير ذلك من الموضوعات المؤرِّقة على الساحة الفلسطينيّة، ويلتفت أحيانًا للواقع الاجتماعيّ والعلاقات الإنسانيّة بين سكّان الضفّة، واصفًا ظروفَهم الحياتيّةَ الشاقّةَ، والمآسيَ الكثيرةَ التي أصابت الفلسطينيّ منذ النكبة إلى ما بعد توقيع اتفاقيّة السلام في 13 أيلول عام 1993، ولا يدّخر جهدًا في وصف ممارسات جنود الاحتلال والقوانين الجائرة التي سنّها الاحتلال للتضييق على حياة الناس في الضفّة، أو سلبهم ما يملكون، ولا ينسى تضمينَ نصّه الخطابَ الثقافيَّ العربيّ والغربيّ، وفيما يلي التفصيل؛
الجزء الأوّل
ما يثير في هذا النصّ هو الأسلوبُ الفنّيّ الذي وظّفه الكاتب في سرد أحداث الجزء الأوّل، إذ يعتمد الضميرَ الثانيَ (المخاطب) في سرد أحداث النصّ، ويظهر فيه الراوي مخاطبًا نفسَه، مبتدئًا سردَ كلِّ حدث بفعل أو أفعال متتالية على النحو التالي: “تنهض من الفراش، تفتح الشبّاك وتنظر إلى الخارج، فتجد عمّال البناء نشطين يمارسون أعمالهم كعادتهم، تذهب إلى المطبخ، فتشعل الغاز وتضع عليه القهوة، ثمّ تستلقي على مقعدك”(ص9). لا يكتفي الكاتب بذلك، فبعد استهلال السرد بضمير المخاطب، يتنازل عنه، ليسندَ السرد لسارد آخرَ بالضمير الثالث (الغائب) على امتداد النصّ كلّه، ومن ذلك قوله: “وتستمع إلى أحاديث الناس. يتحدّث ابنُ المخيّم المجاور عمّا جرى مساء أمس. “لقد كانوا يلعبون كرة القدم. جاء الجنود فجأة. خاف الأطفال وهربوا، ثمّ ظنّ الجنود أنّ هناك أمرًا ما فأطلقوا الرصاص وأصابوا الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرةَ”( 11). هكذا يبدو الراوي محايدًا في سرد أحداث الجزء الأوّل كلّها. وهذا ما يؤكّده الدكتور أفنان القاسم في تقديمه للكتاب بقوله: “أهمّ ما في المستوى الخطابيّ التنظيمُ البنيويّ لضمير المخاطب، إذ يجعلُه السارد محورًا سببيًّا لتوليد الحالة، فهو لا يحكي عنه بقدر ما يحكي عمّن لهم علاقة به، ليُبرزَ ضميرَ الغائب، وبالتالي ليمثّل ضميرُ الغائب هذا شخصيّةَ الحالة التي يرمي السارد إلى التوقّف عندها”(المقدّمة 5) يعتمد الكاتب، في عمليّة السرد، تقنيّةَ تناسل الأحداث من بعضها البعض، إذ يروي ساردٌ ما حدثًا معيّنًا، يتولّد عنه حدث آخرُ لسارد جديد، ولا يكاد ينتهي ليظهر ساردٌ ثالث لحدث جديد، وهكذا تتوالد الأحداثُ من بعضها دون أن يأتي السارد على نهاية حدثه مفصّلًا، ومن ذلك: “يُعقّب الآخر: “لقد حاولوا مرارًا قتل السائق أو معاونه، ونجحوا مرّة أو مرّتين” ويصمت للحظة، فيما يتابع الآخر: “لو يأتون ليلًا والناس نيام”، فيجيبه الآخر: “إنّهم يخشَوْن من هجومات ليليّة بالرصاص والقنابل”(ص12). إنّ تبنّي هذه التقنيّة السرديّة تُظهر الساردَ بضمير المخاطب (أي الكاتب) مجرّدَ مستمعٍ لما يدور من أحاديثَ بين الناس، فينقلها بواسطة سارد آخرَ، ليتحرّرَ هو من تبعيّة السرد ومؤونتِه، وهو أسلوب منتشر ومعروف خاصّة في النثر العربيّ القديم مثلِ كتاب “كليلة ودمنة”.
الخطاب السياسيّ
يمكن اعتبارُ كتابِ “ليل الضفّة الطويل” نصًّا سياسيًّا احتجاجيًّا في المقام الأوّل، إذ يلحظ القارئ تذمّرَ الرواة على اختلافهم ممّا يسردون من أحداث، أو يرصدونه من سلوكيّاتِ قادةِ التنظيمات السياسيّة الفلسطينيّة، والانقساماتِ العديدة في صفوف الفصائل الفلسطينيّة حتّى صار الناس يهدّدون بعضَهم بالفصيل الذي ينتمون إليه، ومن ذلك ما جرى من خلاف بين شابّ وبقّال، يقول الراوي: “وكادت المعركة بين الاثنين تنشب، فهدّد الشابُ البقّالَ بأنّه سيُحضر له الشبيبةَ، ممّا جعل الأخيرَ يقول له: إن كنتم رجالًا فتعالوا، وسأحضر لكم حماس”(ص 15). يظهر احتجاج الراوي لممارساتِ القيادات والفصائل الفلسطينيّة، “وكيف انتقلت العشائريّة من العائلة والمجتمع إلى الفصائل نفسِها، يسارِها ويمينِها” (16)، كما يرصد النصّ ظاهرة التذبذب في الآراء والمواقف حتّى عند القادة الكبار أمثال ياسر عرفات الذي يقول بعد حرب الخليج من على شاشة التلفاز: “إنّ أمريكا هي بلد محايد، ثمّ غيّر رأيه بعد أسبوع”( 9)، أو ما قاله الرفاق عن إلياس. ف. إنّه: “رجل أردنيّ وإسرائيليّ، ويريد تطبيق الحكمِ الذاتيّ، ولن يتمّ ذلك إلّا على رقابنا. وفجأة أخذ الرفاق القدامى يصعدون معه على الطائرة نفسها متّجهين إلى واشنطن ليفاوضوا على بيع أنفسهم أوّلًا، وليفاوضوا، من ثُمّ، على بيع فلسطين”( 9 – 10). يُظهر الكاتب امتعاضَه ممّا آلت إليه العلاقةُ بين الفصائل الفلسطينيّة المختلفة، إذ غدا أيُّ فصيل عدوًّا للآخرِ، وعن ذلك يقول: “لقد أصبح الفصيل الآخر هو الاحتلال للفصيل. حماس عدوّها فتح. وفتح عدوّها حماس. وياسر عبد ربه عدو نايف حواتمة. والأخير عدوّ الأوّل. وأصبحت فلسطين هي الأخ القائد الرمز”( 23). يُعرّج النصّ على إبراز دور المرأة الفلسطينيّة في الانتفاضة على لسان شاب يحاوره قائلًا: “صحيح أنّ المرأة شاركت في الانتفاضة، ولكنّ الأكثريّةَ ما زالت كما كانت”، ويضيف مبيّنًا تراجعَ دور المرأة في الانتفاضة قائلًا: “وعلى العكس فإنّ هناك ارتدادًا نحو الخلف. تصوّر مثلًا أنّ حركة فتح تعلّق في الجامعة لافتة تحذّر فيها الأجنبيّات من الدخول إلى الجامعة بلباس غير محتشم، لأنّ ذلك يتنافى وعاداتِنا وتقاليدَنا”( 44 – 45). يواصل السارد توجيهَ نقده السياسيّ لكلّ القادة في كلّ التنظيمات والفصائل، ولا يتردّد في توجيه نقده لأبي عمّار، وبذلك يخرج عن حياده المصطنع، وهو يخاطب نفسه قائلًا: “يقتلك هذا الأبو عمّار. هل هو مناور أم منافق؟ لقد طردوه مرارًا من بلادهم وكان يصرّ على العودة. هل هو بلا كرامة، أم أنّه لا ينظر إلى الكرامة الشخصيّة حين يحضر الوطن؟”( 29)، ويسترسل النصّ في نقد أبي عمّار، وهذه المرّة على لسان امرأة عجوز متصابية تُصرّ على أنّها لم تتجاوز السابعة والعشرين من العمر، فتقول: “أبو عمّار ما حطّ إيده مع حدا إلّا انهزم الآخر. لو يحطّ إيده مع إسرائيل”.( 29 – 30). ويصل نقد أبي عمّار، على سبيل النكتة، إلى درجة المساس بشرفه وشرف زوجته، كما ورد على لسان شاب فتحاويّ يقول: ” قال سهى حامل والجبهة الشعبيّة أعلنت مسؤوليّتها عن الحادث”(ص 30). وتتكرّر نفس النكتة في النصّ على لسان قريبةٍ للراوي حينما زارتهم في البيت، يقول: “أخّذّتْ تقول، على مسمعي، العديد من النكات، فكرّرَتِ النكتةَ التي رويتها عن سهى بطريقة مختلفة، وزعمت أنّ ثلاثَ منظّماتٍ أعلنت المسؤوليّةَ، تماما كما هي العادة عندما يقوم فلسطينيٌّ بعمل ضدّ جنود الاحتلال الصهيونيّ”( 79).
يجد القارئ صدًى لهذه الأنماط السلوكيّةِ والمواقفِ المتغيّرةِ بتغيّرِ المصلحة الذاتيّة في مواضعَ كثيرةٍ من النصّ؛ يجدها بين صفوف القادة الفلسطينيّين، وفي الجامعة بين الأساتذة والطلّاب، وعند الناس المتسلّقين، وغيرِهم من بسطاء الشعب وعامّتِه، ومن نماذجِ هؤلاء أبو العرب الذي ذهب “إلى أمريكا مناضلًا، وعاد دكتورًا يقبض الراتب آخرَ الشهر، ولم يتذكّرْ شيئًا مما كان يقوله. أبو العرب الآن رمزٌ لأولئك الذين يناضلون حتّى يصلوا فقط، ثمّ ينتهي العالم الخارجي لهم”( 28). ومثلَ ذلك يفعل البقّالُ الذي يحدّث الراوي عن أخيه السجين، فيلمح القارئُ في حديثه تباينًا بارزًا بين موقفه من العدوِّ وبين ما يتمنىّ، يقول الراوي مخاطبا نفسه:” ويسألك: فكرك يتم حلّ ويخرج المساجين” وتضحك، فالبقّال يدعو دائمًا إلى عدم الصلح مع الأعداء، ويتهجّم باستمرار على الذين يفاوضون”(10).
إنّ هذا التذبذب في الآراء، والنفعيّةَ التي تسيطر على الإنسان، فتجعل صاحبَها يغيّر رأيه من النقيض إلى النقيض؛ تثير حفيظة الراوي، فنسمعه يقول: “لقد جاءت منظّمة التحرير الفلسطينيّةُ فحوّلتنا إلى ثوّار، ثمّ إلى مرتزقة، لا نناضل إلّا بعد أن نحسبها، كم نربح وكم نخسر، وأصبح كلُّ مَنْ يحتاج إلى نقود يتحوّل إلى ثوريّ، وها هي السوقُ الأوروبيّةُ المشتركةُ تُحوّل الشعبَ الفلسطينيّ كلَّه، كذلك، مثلَ المنظّمة، إلى لاجئين وشحّاذين”(41). وحين يتذكر الراوي عودة الملك حسين من مرضه، والحفاوة التي استقبله الناس بها يقول: “تصوّروا أنّ التلفزيون الأردنيّ يغنّي للملك ليلَ نهار، وحين يعود من مرضه يخرج مليون كلب لاستقباله. نحن شعب كلاب، ونحن الذين نصنع آلهتنا. لو كان حرّر أريحا فقط لخرجنا لاستقباله معهم”(46_ 47).
الخطاب الاجتماعيّ
يرصد الراوي حياةَ الناس اليوميّةَ والعلاقاتِ الاجتماعيّةَ التي يعيشها الناس في الضفّة، فيعكس امتعاضه من الأوساخ المتراكمة في داخل الإنسان الفلسطينيّ دون أنْ يُعيرَ انتباهًا للأوساخ المتراكمة في الطريق، يخاطب نفسه قائلًا: “لا تلتفت كثيرًا إلى نظافة الدرج فثمّةَ وسخٌ في نفوسنا يعُمّ ويطغى. لقد وصلْنا إلى مرحلة لا أعتقد أننا سنبرأ منها”. تخاطب نفسك وتتابع: “وفينا من الوسخ ما لا يوصف”(10). أمّا في الحافلة فالسائق لا يستجيب لطلب راكب أراد النزول في مكان ما وتابع حديثه وقصصَه مع الراوي دون أن يعير الراكب اهتمامًا(10). و”تصعد فتاتان الباص. تخجل إحداهما من الجلوس في مقعد يجلس على جانب منه رجل طاعن في السنّ، ربّما أكبرُ من والدها، فيقوم رجل آخرُ وزميلُه لتجلس الفتاتان اللتان لم تتجاوزا الثانيةَ عشرةَ” (11). وحين يتجوّل الراوي في الشارع يستمع للشريط الهابط الذي بدأ يغزو الأسواق، شريط أبو يوسف (كعك بعجوة)، ويعلّق أحد المارة: “هذه هي نهاية الانتفاضة” فيما يقول عابر آخرُ: “ينبغي على أطفال الانتفاضة أن يُحذّروه من إشاعة مثل هذه الأغاني الساقطة”(14). يواصل سيره في الشارع بين عربات الخضار والفواكه، إذ لا يجد متسعًا على الرصيف لسيطرة الباعة عليه في ظلّ غياب السلطة، وقد صارت الأراضي ملكًا لهم، ووصل بهم الأمرُ إلى مطالبة صاحب أرض، كانوا يستخدمونها، بدفع تعويضاتٍ لهم، عندما أراد تسييجَها وهدّدوه بالشبيبة وبحماس(17 – 18).
لا تختلف أوضاع الجامعة عن أوضاع الشارع والسوق، ضجيجُ الطلبة في الممرات يجعل القراءة عسيرة بل مستحيلةً، مكبّراتُ صوت، طلّابٌ وطالباتٌ يثرثرون في الساحة، جدلُ بصوت مرتفع، حماس تدافع عن نفسها زاعمة أنّها لا تفرّطُ في القضيّة، وتشتم م. ت. ف. والوفد المفاوض، مطالبة بعودة المبعدين، يردّ أنصار م. ت. ف. متحدّثين عن ماضيهم النضاليّ. يتحدّثون عن ثمرة القتال. عن المفاوضات. يشدّدون على عدم التنازل(19 – 20)، هذا الوضع جعل أحدَ الأساتذة يخمّن ما يدور بفكر الجندي الذي يُقيم فوق العمارة المقابلة، قائلًا: “مِن المؤكّد أنّه يقول هذه أيّ شيء إلّا جامعة”(28).
تبدو حياة الناس في الضفّة قاتمة باستثناء منطقة رفيديا، فحين يبدأ ليل الضفّة الطويل بعد الساعة الثالثة لا يجد الناس ما يفعلونه سوى النوم ظهرًا، أو السيرِ في الشوارع، أو زيارةِ بعضِهم البعض، “وتبقى شوارعُ المدينة الرئيسةُ شبهَ فارغة باستثناء شارع رفيديا. هناك مساءً ثمّةَ عالمٌ آخرُ. غربٌ آخرُ. تساءل ذات نهار صديق: “يا أخي لماذا تكون الحياة والحركة دائمًا في الجانب الغربيّ من المدينة؟ لماذا يقطن الأغنياء والمثقّفون أيضًا في جهة الغرب؟ هل هو نزوع غريزيّ نحو الغرب الغنيّ وإبداء الولاءِ له؟”(38)، أمّا المخيّماتُ فتقبعُ، برأي متحدّثٍ آخرَ، في الجهة الشرقيّة من المدينة تماما مثل عمّان، “فهل هو تخطيطٌ صهيونيّ أردنيّ حتّى يقولوا لنا لا تسألوا عن الغرب الذي خرجتم منه؟ أو اقنعوا بما أنتم فيه وإلّا فليس أمامكم سوى شرق آخرَ: الصحراء”(38). وممّا يزيد مأساويّة الحياة في المخيّمات أنّ أهل المخيم الواحد يتفاضلون فيما بينهم حسب البلد الذي انحدروا منه، فاليافاويّ يرى نفسه مميّزًا عن غيره، “نحن أهل يافا غير” يقول لك ويضيف: “نحن عائلات محترمة، ولنا عاداتُنا وتقاليدُنا، وحتّى الآن فإنّ اختلاط نسائنا بالآخرين محدود، ويقتصر على بعض العائلات”(43).
“هذه هي الضفّة” لازمة تتكرّر في مواضعَ عديدةٍ من النصّ، ويصل الأمر بالراوي مع وصفه لحياة الناس بأن يلعن الضفّة، “تهمس وأنت ترقب ليلها يخيّم ويجثم على الصدور، تنتظر نشرة الأخبار، تخرج إلى الشارع، تقف عند البقّال، يأتي الناس فرادى، يتحاورون، يتحدّثون عن حركة البناء النشطة، عن السرقات التي بدأت تتكاثر، عن حالات اختفاء الفتيات واغتصابهنّ”(45). هذا هو الوضع زمنَ الانتفاضة التي عملت على اختفاء عاداتٍ إيجابيّةٍ كثيرةٍ، “كانت الشابات قبل الانتفاضة يسرْنَ، مساءً، في الشوارع، والآن يجلسن في البيوت، يخاف الأهل على بناتهم، ولكن الأبناءَ يخرجون غصبًا”(48)، وفي هذا إدانةٌ صارخةٌ للانتفاضة وما أفرزت من سلوكيّات سلبيّةٍ كثيرة، فهي لم تُحْدِثْ أيَّ تغيير إيجابيّ، وفي ذلك يقول الراوي: “يا أخي “تخاطب نفسك” أين التغيير الذي أحدثته الانتفاضة في الناس؟”(53). ما يزيد في احتجاج وتذمّر الراوي أنّه يرى المستوطناتِ تتطوّر بسرعة حين تتراجع مدينتُه إلى الوراء، يقول: “تنظر من النافذة فتجدُ المستوطنة وقد تحوّل ليلها إلى نهار. تكشف عن حجمها الحقيقيّ، ويواصل ليل الضفّة الطويل إمعانه في الظلمة”( 65). يؤرّق الراوي تطوّرُ المستوطناتِ السريعُ منذ استهلال نصّه فيقول: “وتنظر من جديد عبر النافذة لتبصر بيوتًا جديدة في المستوطنة. تهمس: هذه المستوطنات الحبلى لا يعرف المرء حقًّا متى ستضع مولودَها لتعود فتستقرَّ على شكل ما. ولأوّل مرّة يعرف المرء أنّ هناك حبَلًا ما يدوم أكثرَ من تسعة أشهر. حبَلًا ما ليس له موعدٌ نهائيّ”(9).
يصل الراوي مع نهاية الجزء الأوّل من النصّ إلى قمّة اشمئزازه من كلّ الأوضاع التي يرصدها، فيقول: “الأفضل أن يتحوّل المرء إلى حشرة. الأفضل ألّا يشاهد التلفاز. الأفضل أن يتحوّل المرء إلى كائن بيولوجيّ” […] وتذهب في ليل فلسطين الطويل(64 – 65).
ممارسات الاحتلال – الكيل بعدّة مكاييل
تتزاحم الويلاتُ والمآسي على الشعب الفلسطيني من كلّ صوب، فبالرغم مما يعاني الناس من قسوة الحياة وظروفِهم الشاقّة، تنهال عليهم سلطاتُ الاحتلال بأسواطها الملتهبة حتى تنالَ من الصغير قبل الكبير ومن الضعيف قبل القوي، والفقير قبل الغنيّ، ولا تكتفي بذلك إنّما تسنّ القوانينَ المختلفةَ لمزيد من التضييق على الناس، فعند مرور سيّارة عسكريّة لا بدّ للسيارات في الشارع أن تصطفّ من جديد وينتظر السائقون مرورها دون إبداء أيّ تذمّر. يهمس أحد الركّاب: “معهم الحقّ في ذلك” ويتذكّر القانون الذي سنّوه حديثًا: “إنّ عدم التوقّف أو تجاوز السيّارة العسكريّة يمنح الحقّ للجنود بإطلاق الرصاص على الآخرين”(13). تصل شراسة جنود الاحتلال إلى حدّ يجعلهم يتحكّمون بلقمة عيش الفلسطينيّ، فهم يداهمون الأسواق، يلاحقون الباعة، ممّا يضطرُّ الباعةَ إلى ترك بضائعهم هربًا من دفع الضريبة، ثمّ يطلقون برصاصهم نحو الناس بصورة عشوائيّة، يقول الراوي “وفجأة يبدأ صوت الرصاص. تحتمي بالباص، وتنظر إلى جهة المستشفى. كان الشباب الصغار يهربون، وكان الجنود يطلقون الرصاص، كأنّهم على الجبهة، تنتظر انتهاء إطلاق الرصاص وتغادر صوب الجامعة. ولا تلتفتُ كثيرًا إلى وسخ الشوارع أيضًا. “إنّ المرء هنا لا يفكّر كثيرًا بالنظافة، إنّه يفكّر كيف يعود إلى البيت سليمًا معافًى لا جريحًا أو قتيلًا”(18). لا يسعفُ الناسَ مراجعةُ الاحتلال لتسوية أمر ما، يقول أحد الركّاب: “إنّ الاحتلال لا يصدّقنا إطلاقًا. تصوّر يا أخي حين تذهب إليهم لتراجع في أمر الضريبة، وتقول لهم أنّنا لا نملك النقود، تصوّر أنّهم يسخرون منّا ويتساءلون: ما دمتم لا تملكون ثمن طعامكم فكيف تبنون البيوت؟”(36). ويزداد تضييقُ الخناق على الناس بسطوة الاحتلال الذي يفرض عليهم دفع غرامات باهظة لمشاركة أبنائهم في المظاهرات، وقد تعلّموا ذلك من الملك الأردنيّ الذي فعل ذلك في مظاهرات السموع، الأمر الذي يُخرج الراوي عن صمته فيقول: “يا أخي هؤلاء اليهود سرقوا بلادًا كاملة اسمها فلسطين، وشرّدوا شعبًا بأكمله، فلماذا تستغرب منهم هذا؟”(36). يُعْمل الجنود أسلحتَهم ويقتلون الناس والشباب منهم بدم بارد، كما قتلوا شابًا يدعى نعيمًا من شباب المخيّم، ويعقّب أحد الناس مضيفًا: “وسوف يقتلون كلّ المطلوبين حتّى لو قام هؤلاء بتسليم أنفسهم”. تتذكّر كلامَ العجوز الغزّيّ: “في خان يونس ضربوا البيوت بالصواريخ لاعتقادهم أنّ فيها مطاردين”. وترى في الجريدة صور البيوتِ المنسوفةِ. “هذا احتلال نازي” يقول شخص، ويضيف آخر: “والغريب أنّهم تعذّبوا بما فيه الكفاية ولم يتعلّموا”(61).
لم تكن شوكة الجنود قويّةً في الانتفاضة الأولى كما هي عليه اليوم، وها هم اليوم يذرعون الشوارع مختالين، ولا يحرّك أحد ساكنًا. “تصوّر يا أخي، كيف أنّ ستّة جنود يغلقون المدينة. الله يرحم أيّام الانتفاضة الأولى. ما كان واحد منهم يستطيع المشي راجلًا” يقول رجل ويعقّب آخر: “ماذا سنفعل غير ما فعلنا؟ آلاف الشباب سجنت، وآلافٌ أخرى شُوِّهت، ومئاتٌ قتلت، وهذه هي النتيجة”.(34 – 35).
لا يأبه جنود الاحتلال بمقتل العربيّ حين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها لمقتل اليهوديّ، يقول أحد المستمعين لنشرة الأخبار: “يا أخي لمّا يهودي يقتل عربًا في سيّارة يقولون إنّه مختلّ عقليًّا، ولمّا عربي يقتل يهوديًّا بحادث سير يُتّهم بأنّه عمل تخريبيّ”( 62 – 63). كلُّ هذه الممارسات لجنود الاحتلال وكيلهم بعدّة مكاييلَ في التعامل مع الناس تطيل ليل الضفّة وتزيده حلكة حين يتحوّل ليل المستوطنات إلى نهار دائم.
الجزء الثاني
يوثّق الكاتب في الجزء الثّاني ما أثاره الكتاب من ردود فعل كثيرة متوافقةٍ ومتباينةٍ؛ فهناك من مدح الكتاب والكاتب، وفريق آخر مدح لكنّه تحفّظ من بعض الأمور، ومنهم من امتعض من الكاتب والكتاب وما ورد فيه، ثمّ يبيّن كيف عرض الكتاب للمحاكمة في المؤسّسة التي يعمل فيها الكاتب، ويُظهر ما واجه من ضغوطات لسحب النصّ وعدم نشره، لكنّه يقرّر نشره في نهاية المطاف.
في هذا الجزء يتخلّى الراوي عن ضمير المخاطب مسندًا السرد لضمير المتكلّم بالتناوب مع ضمير الغائب، وبذلك يعلن الكاتب مسؤوليّته عن السرد، معقّبًا على الآراء الكثيرة التي قيلت في النصّ، كما يعلن عن هويّة النصّ، بأنّه نصّ سياسيّ. يُطلع الكاتب امرأة تدعى مريم على نصّه، فتحذّره قائلةً: “إيّاك أن تنشر النصّ فقد يسبّب لك العديد من المشاكل”(66).
يعرض الكاتب نصّه على أشخاص معتبَرين لهم ماضٍ وحاضرٌ في النضال الوطنيّ، يقولون له: “عليك ألّا تتحدّى الجميع في هذه المرحلة”(66). يلاحظ الكاتب أنّ نصّه قد وصل إلى أوساط كثيرة في الأرض المحتلّة قبل نشره، فيقول: “هذه ظاهرة جديدة في أدب الأرض المحتلّة لم تُعْرَفْ من قبل”(69). ويحدث أن يخبره رئيسُ نقابة المؤسّسة التي يعمل فيها أنّهم سيحاكمون النصَّ بعد أن يقرأه؛ لأنّ جماعةً من زملائه قدّموا شكوى ضدّه بعد أن قرأوا النصّ(72).
يلاحظ القارئ أنّ سمة التذبذب في الآراء وتغيير المواقف التي شهدها في الجزء الأوّل ما زالت حاضرةً في هذا الجزء أيضًا، فهناك كثيرون ممّن أظهروا إعجابهم بالنصّ ثمّ تنكّروا لآرائهم، فقال بعضُهم إنّه نصُّ تجريحٍ شخصيّ، وأبدى آخر إعجابه بأسلوب النصّ الفنّيّ، وذكر أمام الكاتب أسماء بعض الروايات العالميّة التي نهجت هذا الأسلوبَ، وأضاف أنّ كلَّ ما في النصّ أعجبه، لكنْ لو لم يأتِ على ذكر الملك حسين، فيردّ عليه قائلًا: “وأمّا أنا فليست لديّ مصالحُ شخصيّةٌ، وعليّ أن أكون وفيًّا لدم الشهداء الذين لم يقاتلوا في أيلول لأنّهم زعران، وإذا كان أبو عمّار والثورةُ مضطرّين للمساومة، فعلى بعض الناس أن لا يساوموا وأن يظلّوا في تاريخهم ضميرَ هذا الشعبِ”(83). بالمقابل، يرى أستاذٌ من التيار الإسلاميّ أنّ الكاتبَ كان محايدًا وقد نقل ما يُقال، وهناك من هنّأه على نصّه ثمّ شرع يهاجمه، أستاذةٌ في الأدب الإنجليزيّ تُعجب بأسلوبه، لكنّها تصفه بالأدب المظلم، وأخرى تعتبره مجرّدَ شتائمَ، ثمّ يأتيه شاب يطلب منه أن يكتب مقالًا توضيحيًّا يبيّن فيه رأيه للآخرين، أو يحذف بعض العبارات من النصّ ليتمَّ نشرُه. لكنّ الكاتب يُصرّ على موقفه من النصّ وعدم تغيير أيّ شيء فيه، قائلًا: “لماذا ينبغي أن يكون أدبُنا كلُّه أبيضَ وواقعُنا أسود”(84)، وفي موضع آخرَ من النصّ يقول دفاعًا عن نصّه في ظلّ غياب الديموقراطيّة وحرّيّة الكلمة: ” شعب لا يحتمل وجودَ نصٍّ أدبيّ فكيف سيتقبّل المعارضة؟”( 89). أمّا المحاكمة فلم يخشَ منها، وقد استشهد بما كتبه يحيى يخلف في رواية “نشيد الحياة”، وقصائد محمود درويش “أنا الآخر” و “أحدَ عشَرَ كوكبًا”، وأخّذَ يمجّد شجاعتَهما في النقد والكتابة التي لا تعرف مُحرّمًا ما دام الكاتب يعزّز ويرسّخ قناعات فلسطينيّة أصيلة، ممّا جعله يتحدّى المحاكمة قائلًا: “إذا أرادوا أن يحاكموني فليحاكموا الثورة ومحمود درويش والأدباءَ الفلسطينيّين الذين صاغوا وعيَنا الوطنيّ، ليحاكموا خمسةً وعشرين عامًا أو يزيد من الشعارات التي ربُّونا عليها”(88). ثمّ ينهي الكاتب نصّه، وهو يتابع قطعان المستوطنين، وهم يحرقون المدنَ والسيّاراتِ، ويتذكّر ديموقراطيّة الملك الأبديّ وديموقراطيّة أمريكا، وتدمير العراق، فيكرّر لازمتَه، لازمةَ البرجوازي الصغير: “هذا العالم مهزلة، هذا العالم مهزلة”(90).
جماليّة النصّ – عود على بدء
إضافةً لمّا قدّمنا من جماليّة أسلوبِ النصّ تجدر الإشارة إلى توظيف كمّ هائل من الشخصيّات الثانويّة التي تهيمن عليها شخصيّة الراوي ، ساردِ الأحداثِ بضمير المخاطب، الذي يعتبر مدارَ الرحى والبوصلةَ التي توجّه مسارَ الأحداث، ويعكس النصّ صراعًا محتدَمًا بين ضمير المخاطب وضميرِ الغائب، برأي الدكتور أفنان القاسم، فهو صراع “بين الشخصيّة الأساسيّة وكلّ الشخصيّات الأخرى دون استثناء. إنّه صراع الفرد ضدَّ كلّيّة المجتمع المصاب بالانفصام، وفي هذه المرحلة ليس المقصودُ معالجتَه، فالأمورُ جدُّ متدهورةٍ، وقد وصلَتْ إلى حدّ الاحتضار، وإنّما حفظُ جوهرِ الفردِ وصونُ إنسانيّتِه”(7). كما يعكس النصّ قدرة فكريّة وذاكرة متيقظة تُمكّن الكاتبَ من تذكّر ذلك الكمّ الهائل من الشخصيّات الموظّفة فيه، بعضُها تحمل اسمها الحقيقيّ، وكثير منها تظهر بأسماء مستعارة، تحمل كنًى أو ألقابًا تعكس في كثير من الحالات أوصافَها أو سلوكيّاتِها مثل؛ أبو عرّام اللصّ، الدكتور جوجو، أبو بندر المختار، أبو وردة، أبجد هوّز، أبو بصير الأرنب وغيرهم كثير. ويلاحِظ القارئ أنّ الكاتب يُسقِطُ على النصّ، وخاصّةً على الشخصيّة المركزيّة تفاصيلَ كثيرةً من حياته الشخصيّة، فهو كاتب يعيش في مدينة نابلس، يعمل محاضرًا في جامعة النجاح، بعد أن حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراة في مجال الأدب الفلسطينيّ، وهو مساق أساسيّ يدرِّسه في الجامعة، عاش فترة في ألمانيا وأوروبا أثناء دراسته لنيل لقب الدكتوراة، وخبر الحياة هناك، ممّا خوّله للمقارنة بين حياة الإنسان في الضفّة وحياته في أوروبا كما تجلّى في كتابه “ليل الضفّة الطويل”.
يقدّم الكاتب أحداث نصّه بلغة بسيطة لا تكلّف فيها، بعيدًا عن الاستعمالات المجازيّة المتنوّعة، ويلجأ في المقاطع الحواريّة المكثّفة التي يستمع إليها من الناس، إلى توظيف اللغةِ المحكيّةِ التي تنهال على مسامع القارئ بكلّ عفويّة ليَشعرَ بعذوبة الألفاظ المألوفة له، الأمرُ الذي يسبغ على النصّ واقعيّةً تنأى بالقارئ عن أيّ خيال، كيف لا يتمّ ذلك وقد وسَمْنا النصّ بأنّه نصّ وقائعيّ تسجيليّ، ومن نماذجِ هذه اللغة ما ورد على لسان أحدِهم وهو يقول: “أنا عارف. الله يعين”، ويضيف: “فكّونا من هذه السيرة. طول عمرنا في ورطة وأبو عمّار ما بقي بايديه أي شيء”(47). ويعمد الكاتب إلى استخدام جذر الفعل “همس” مراعيًا الضمير المناسب، ليُشْعرَ بخوف الراوي من المتحدّث عنه، وينتشر هذا الفعل انتشارًا كبيرًا على مساحة كلّ النصّ، ومن نماذج ذلك قول الراوي: “ويهمس أحد الركّاب: معهم الحقّ في ذلك”(13).
يتّكئ الأسطة في نصّه هذا بصورة بارزة على عنصر السخرية والتهكّم الذي نجد له حضورًا مكثّفًا في النصّ، وهو أسلوب ينسجم بصورة كبيرة مع النصّ السياسيّ، ومن نماذج ذلك ما ورد على لسان امرأة عجوز، إذ تقول: “أبو عمّار ما حطّ ايده مع حدا إلّا انهزم الآخر. لو يحط ايده مع إسرائيل”(ص29 – 30). أو قول أستاذ جامعي: “نحن الفلسطينيّين نختلف عن غيرنا من الشعوب الأخرى […] فنحن مدنيّون ولنا تجاربُنا، ونحن فوق ذلك متعلّمون أيضًا”، وذات نهار ينسى الأستاذ الجامعيّ دفتر المحاضرات فلا يعرف ما يقوله للطلبة”(31). وحين يعلم الكاتب أنّهم سيحاكمون نصّه يوم السبت يقول متهكّمًا: “لعلّهم سيحاكمونني بعد أن يفرغوا من تأدية صلاتهم في الكنيس”(82)، وفي كثير من المواضع يذكر كلمة “سخرية” أو “ساخرًا” كقوله: “وواصلت بسخرية: “أقبض من الألمان ومن محمود درويش ومن إسرائيل ومن الأردن وأنا كالمنشار يأكل دخولًا وخروجًا، نزولًا وصعودًا”(84).
يقوم هذا النصّ على تقنيّات أساسيّة تُعتبر عمدة النصّ كالتداعيات، الاسترجاعات، والتذكّر ويستدلُّ القارئ بيسر لا عناء فيه على مواطن هذه التقنيّات من خلال الألفاظ التي تدلّ عليها مثل؛ أتذكّر، تذكّرت، يتذكّر، أسترجع، وغير ذلك، ومما يؤكّد ذلك قولُ الراوي: “تتذكّر حواراتِ الأساتذة. يأتون إليك. يطلبون منك …”(30)، أو “تتذكّر أساتذة الجامعة. فلان يذهب إلى أوروبا ليجمع النقود ويعود”(33)، أو قوله: “وتسترجع صراخ المرأة قبل عشرة أيّام”(65).
يجنّد الكاتب في نصّه إشارات ثقافيّة عديدة، من شأنها أن تحثّ القارئ على قراءتها والاستفادة منها، إضافة لدعم أحداث النصّ. ويستخدم الكاتب معظم هذه الإشارات بصورة سلسةٍ يستدعيها الحدث المذكور أو الحالة المتحدَّث عنها، لكنّه، في مواضعَ أخرى، يستحضرها لمجرّد ذِكْرِها فقط، دون أن يكون لها أيُّ علاقة بالسياق، ومن ذلك ذكرُه لرواية “شرق المتوسّط” لعبد الرحمن منيف، إذ يذكرها مرّة مُبيّنًا نظرة الشرق للإنسان فيقول: “تخاطب نفسك وتصمت، تتذكّر فقط عبارة رجب في رواية “شرق المتوسّط” إنّ شرق المتوسّط لا يلد إلّا المسوخ والجراء”(25)، إلّا أنّه يشير لنفس الرواية، في موضع سابق، لمجرّد ذكرها فقط، دون أن يستدعيها الحدث، فيقول: “تهمس، وتسير صوب الجامعة. تلتقي بالطريق بشاب من كتلة العمل. يستوقفك. يسألك عن رواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسّط” ثمّ تبدآن حديثا عمّا يجري”(18 – 19). ومثلَ ذلك يفعل وهو يذكر رواية أوي جونسون “تخمينات حول يعقوب” ليبيّن فقط أنّ فتاةً باسم أندريا التقاها في أوروبا وأهدته تلك الرواية(64). تحضر بعض الإشارات الثقافيّة في سياق الحديث عن تغيير مواقف الكاتب ونظرائه من الأدباء والشعراء؛ نتيجةَ ما تمارسه الثورةُ ضدَّهم، كصنيعه وهو يذكر رواية “نشيد الحياة” ليحيى يخلف، ملحقًا بذلك محمود درويش وغيره، إذ يقول: “ينشقّ يحيى يخلف فيكتب رواية “نشيد الحياة” وينتقد الثورة وقادتَها، ثمّ يجوع أولادُه فيعود إلى أبو عمّار من جديد ليصبحَ مستشارًا له ويكتب رواية تافهة عن سقوط طائرته في الصحراء، ولا يذكر عرفات إلّا مقترنًا بكلمة الرئيس، والشيءُ ذاتُه يفعله محمود درويش وآخرون”(45). يشعر القارئ في بعض الإشارات أنّها مقحمة على النصّ، رغم محاولة الكاتب خلقِ علاقةٍ بين النصّين، ومن ذلك مقارنتُه بين رأيِه في القهوة ورأي محمود درويش في كتابه “ذاكرة للنسيان” فيقول: “فالقهوة تستثير فيك أشياءَ وأشياء. فهي تعيدك إلى هناك، وتذكّرك بما كتبه عنها محمود درويش في كتابه “ذاكرة للنسيان”، ولكن شتّان ما بين نظرتك ونظرتِه، لقد كانت القهوة وسيلتَه للتمييز بين البخلاء والكرماء، بين مُحْدَثي النعمة وأصحاب النعمة وراثة”(24)، وفي اعتقادنا أنّه يتجنّى على درويش ونصّه الذي يُعتبر من أجملِ ما كُتب في النثر العربيّ الحديث. يكثّف الكاتب من هذه الإشارات التي تشهد باطّلاعه على منتجات الأدب العالميّ والعربيّ، فيذكر الشاعر الجاهليّ الشنفرى، ومريد البرغوتي، الروائيّ إميل حبيبي، وتوفيق الحكيم، عبد اللطيف عقل، مُعرّجًا على كلّ من كافكا، دافيد غروسمان، جان بول سارتر، والفرنسيّ جان بروليه(فيركور)، ووليم فوكنر، واسحق سنجر، وغيرهم. وبذلك تعمل هذه الإشارات الثقافيّة، في معظمها، على دعم أحداث النصّ وتثريه.
وبعد، فهل يُعتبر عادل الأسطة كاتبًا إشكاليًّا في نصّه “ليل الضفّة الطويل”؟
حريٌّ بنا قبل الإجابة عن السؤال المطروح أن نوضّح المقصود بلفظة “إشكاليّ”، فقد جاء في قاموس المعاني أنّ الإشكاليّة “هي قضيّةٌ فكريّةٌ، أو ثقافيّة، أو اجتماعيّة تتضمّن التباسًا وغموضًا، وهي بحاجةٍ إلى تفكيرٍ وتأمّل ونظر لإيجاد حلّ لها”، ويرى محمّد عزّام في مقدّمة كتابه “البطل الإشكاليّ في الرواية العربيّة” أنّ الإشكاليّ هو المثقّف الذي أطلّ على الحضارة الغربيّة مباشرةً، فآمن بقيمها الإنسانيّةِ، ورغب في تحديث مجتمعِه، ولكنّه جُوبِهَ بالعداء من قِبَلِ السلطةِ التقليديّةِ التي تؤيّد الجهل والظلام، فاعتُزل وهُمِّشَ قبل أن يُهشّم، فكتب مذكّراتِ معاناتِه المرّة في عالم بلا قيم”(عزّام،1992، 5).
انطلاقًا من هذين التعريفين، يتّضح للقارئ أنّ الأسطة كاتبٌ إشكاليّ بصورة تكاد لا تقبل الجدل، فهو في كتابه يرصد الوضعَ السياسيَّ في الضفّة الغربيّة مشيرًا إلى ما يرى من فساد في المؤسّسة السياسيّة، أو ما يلاحظُه من تذبذبٍ في آراء المسؤولين، وتغيير في مواقفِهم وَفق مصالحِهم الشخصيّةِ، كما يكشف عن الخلافات المحتدمة بين الفصائل الفلسطينيّة المختلفة، وحتّى بين أعضاء الفصيل الواحد، ويبيّن تظاهرَ هؤلاء المسؤولين بالنضال والعناية بالوطن، وهم يعملون على ابتزاز الناس البسطاء، ويفضّلون في تعييناتهم أبناءَ عائلاتهم ومقرّبيهم على حساب مَنْ يستحقّون الوظيفة بجدارة، كما يسعَوْن لإرسال أبناء الأغنياء وذوي السلطة دون الفقراء في بعثاتهم العلميّة والدراسيّة، ويلتفت إلى ما يعاني مجتمعُه من آفاتٍ يوثّقها قصدَ التنبيه إلى ضرورة معالجتِها ليلحقَ ركبَ الحضارة والرقيّ، إضافةً لتصوير ما يعاني الناسُ من سطوة الاحتلال ومعاملته الظالمة.
يتظاهر الكاتب باتّخاذ موقفٍ حياديّ ممّا ورد في نصّه، لكنّه يخرج مرّاتٍ كثيرةً عن ذلك لما أثار غضبَه من سلوك أو تعامل، ومن نماذج ذلك ما جاء على لسان الراوي: ” تقول: إنّ أهمّ شيء هنا (الجامعة) هو أن يدرس المرء فقط، أن يشعر أنّه ينتج، وأن يكون فيما عدا ذلك محايدًا، ثمّ تتراجع”(28). وفي موضع آخر يقول الراوي: “تخرج عن الصمت الذي آثرتَ اللجوءَ إليه اقتناعًا منك بأنّ هذا الزمن هو زمن الصمت: الملك خرى والناس أخرى، والشاعر الجواهري خرفن، هذا الشاعر الذي كان شيوعيًّا ذات يوم وعاش في براغ معزّزًا مكرّمًا، هل ذلّته الغربةُ وأضعفه الحنين”(46).
يُلاحَق الكاتب من كثيرين، يُهَدَّد بالطرد من عمله حتّى القتل، ولا يأبه بذلك، يَطلُبُ منه الكثيرون أن يتخلّى عن النصّ ويسحبه دون نشره، أو يُجري بعضَ التعديلات عليه، لكنّه لا يصغي إلّا لرأيه وإيمانه بضرورة نشر النصّ حتّى يقفَ الناس على ما يجري في بلاده، تحقيقًا لإيمانه بأنّ العلم لا بدّ من أن يغيّر في سلوك أصحابه نحو الأفضل وإلّا فلا جدوى منه.
تبدو الصورة قاتمةً في النصّ، والكتابةُ سوداويّةً، لا تبصر عينُه إلّا السلبيَّ والغريبَ، رغم ما يَذكُرُ من أمور إيجابيّة انتجها الشعب الفلسطينيّ حتّى فرضوا على العالم كلّه وعلى اليهود تغيير نظرتهم للفلسطينيّ، فيسأله ظلّه: “ولماذا لا تكتب إلّا ما هو أسود؟ ولا تقول إلّا ما هو أسود؟”(65)، وتأتي الإجابة حين يستفسر أحد المسؤولين عن هدفه من كتابة النصّ، فيقول: “أريد تصوير ما نحن عليه، وما نحن عليه بارز ومكشوف، أردت فقط أن أدوِّنه، أن أفضح أنفسنا أمام أنفسِنا، أن نقف عارين أمام المرآة لنرى حقيقة أنفسنا”(78). وفي هذا ما يؤكّد إشكاليّةَ الكاتب حسب تعريف عزّام المذكور آنفًا.
ولعلّ ما يُؤخذ على الكاتب صراحتُه المبالغُ فيها، وجرأتُه في تجريحه الشخصيّ للقيادات الفلسطينيّة، واتّهامها في أخلاقها وشرفها، كصنيعه وهو يتداول النكات عن حمل زوجته سهى، أو عدم توخّي الموضوعيّة في نقده لأعمالٍ أدبيّةٍ فلسطينيّةٍ راقيةٍ يفاخرُ بها كلُّ فلسطينيّ، ويودُّ أيُّ كاتب في العالم أن يكتبَ مثلَها.
إنّ نصًّا كهذا، ما زال يشغلُ بالَ النقّاد والدارسين ومتذوِّقي الأدب والناسِ عامّةً، فيسهرون جرّاه ويختصمون، رغم كتابته منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، لهو نصٌّ راقٍ يمكن أن يصنّف بكلّ جدارة في باب الأدب الخالد.
د. محمّد صفّوري
(ألقيت في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس 18.11.2018)