عن القصّة القصيرة، أو هكذا خُيِّلَ إليّ,,
تاريخ النشر: 20/11/18 | 11:50“.. وعليه قرّرت أنّ احتياطيّ من اللّغة الشّعرية ستأخذ حضورها المكثّف في مشاهدي القصصيّة. صحيح أنّي أخذت مساري هذا منذ انتقلتُ لنقش القصّةِ القصيرة لكنّه أخذ الآن حيّزا فعليّا بمرسوم رسميّ منّي…”
لماذا للقصّة القصيرة عالم يختلف؟
ألأنّ النّصَّ أقصرُ، والفكرةَ أقلُّ شأنا من السّياقِ الرّوائي، وأسرع؟ ألأنّنا مثلا لا نفكّرُ كثيرا ونحنُ نُسجِّلُ أحداثَها وشُخوصَها؟ ألأنّها لا تُسجِّلُنا بقدرِ ما نُسجِّلُها، أم لأنّنا نستسهلُ الخَوضَ فيها دونَ تخطيطٍ مسبق اعتقادا منّا أنّها مادّةٌ طيّعة وغزيزةُ الحضورِ بينَ عقاربِ السّاعة؟ وهل كلّ فكرة مارقةٍ تصلُحُ أن تكونَ مشروعَ قصّة؟، وما الّذي ينشىء القطيعةَ بينَها وبينَ الرّوايةِ، وهل حقّا ثمّة قطيعة بينهما؟
كلّها أسئلة راودتني، وأنا أُجهّزُ مُداخَلَتي حولَ القصّةِ القصيرة. أسبابُ خوضي فيها، ومراودةِ إحدانا للأخرى عن نفسِها مراودةَ ضدٍّ يصرّ أحدُهُما على الفَوزِ بالأوفرِ دهشة وتأثيرا في الآخرِ المارقِ عبرَ مساكِبِ تبغِه. عنِ الظّرفِ الفكري والإجتماعي الّذي دَفِعني إليها لا بدّ أن أعترفَ أنّها حاجتي للمغامرةِ بأفكارٍ سريعةٍ حارّةٍ تصلُ إلى رأس القارىء بأقلّ قدرٍ من الخسائرِ الرّوحيّة عبرَ قصفِ مُحكمٍ للمُخيِّلة. هكذا باعتقادي يصنَعُون الأدبَ الجيّدَ. لا لأشهدَ على نفسي، إنّما على مذاقِ الدُرّاقِ الطّازَج الّذي يخرجُ مِما نُسمّيهِ “الخَطفةِ القصصيّة”.
باعتقادي لا توجدُ قصّةٌ تُخربَشُ لمُجرَّدِ أنّها ترغبُ أن تُضافَ لأكوامٍ مثلِها من قصص، ولا أؤمنُ بعلاقةٍ ودّيّةٍ مُسالمةٍ بينَ قاصٍّ ونصِّه، لأنّ القصّةَ عالمٌ آخرَ! فهل يعني هذا أنّ العدائيّةَ شرطٌ لتحقيقِها وفقَ طرحيَ هذا؟ لستُ واثقةً لكنّ شروطِ خُروجِها في توقيتٍ بعينِهِ، كأنّها تُعاني من زُحامٍ في المُخيّلةِ، ويجبُ أن تخرُجَ كلُّها دفعةً واحدةً سببَ وِلادَتِها، كَجنينٍ ساعة ولادَتِهِ المُلحّةِ وكاملا!. أبدا، لا يترُكُ بعضَ أجزائِهِ في رحمِ أمّه. ولو حدثَ وبقيت بعضُ أجزائِها تعومُ في المُخيّلةِ فلا أعتقدُ أنّها ستنجحُ في اختراقِ عوالمَ قارىء ينتظِرُها.
ولعلّي لا أبالغُ حينَ أصفُ لحظةَ انتقالي الحاد من كتابةِ الشّعرِ إلى القصّة. كنتُ قد مللتُ يومَها من العاطفةِ ومن الشّعرِ الّذي يجبُ أن يكونَ مُسيّسا كي يصلحَ للنّشرِ، وأعني أيّام الإنتفاضةِ الأولى حينَ بدأَ الشّعرُ يستعملُ لغة الحجارةِ ليشتهرَ. عُفتُ يومَهَا دوافِعِ كتابةٍ حُزِّزَت بنودُها بالبيكارِ. وعليهِ ليس سرّا أنّ مسافات البياض الّتي لرُصاصي ظلَّ عِدائيّاً تجاه علم الهندسةِ والرّياضيّاتِ. فكّرتُ يومها أن أُخربطَ قوانينَ الحكاية كاملة دون مقدّمات ودونَ تبريرات، ودونَ ضوابطَ تحكمُ منطِقَها. كانَ يهمّني حينَها أن أخترِعَ حالةً لم يحكِ عنها أحدٌ قبلي تسعِفُ ظروفَ مجتمَعي المحمومِ آنذاك، رغم سنّي الصّغيرة. وضعُ المرأة الفلسطينيّة والمرأة عموما، ولعلّ اصطدامي اللّانهائيّ بغرورِ الرّجال وضعني موضعَ شُبهة، فكلّ مقاومة تخلُقُ امرأة لا تشبهُ أُصولَها، هي قاعدة! وعليهِ وجدتُ نفسي امرأة مختلفة، كبرت خلال شهور، كأنّما بقوّةِ بَرقةٍ عابرة.
يجوزُ أنّي للمرّة الأولى أعترفُ بما حدث، لكنّ ذهني كان محموماً تماما ولا يطيق مياعةَ السّطورِ القصيرة الحالمة الّتي للشّعر. كُنتُ بحاجةٍ لجُمَلٍ قصيرةٍ حادّة قاصفة أحيانا، أو طويلة تُفبركُ زهوَّ الخرابِ بجماليّاتهِ، ذلك لأنّ مجتمعاتِنا ظلّت على اعتقاد أنّ دَعمَها لسلطةِ الرّجل تعني دعما أزليّا لخرابِ جمالٍ عابرٍ للزّمن. يومَها، للحقيقةِ أردتُ أن أخنقَ هذا الزّمن الّذي يستجيبُ لقوانينَ وعاداتٍ بالية ورخوة، لكن بنعومة وسلاسة، لا يُشكّ بدوافِعِها. فتحدّثتُ عنهُ، لبستُ أرقامهُ وسجّلتُهُ حالاتٍ محمومة بِكلّ ما كتبت، في “الصّندوقة”، “فراشة صفراء”، “أشواق نازحة، “الملكة فكتوريا وسواها من حالات أسميتُها قصَصاً قصيرةً. لقد أسعفتني تقنيّة الكِتابة السّريعةِ تماما. وفجّرت بالوناتُ الغضبِ الّتي تزاحمت في حلقي، ومعظمُ قصصي تربّعت على عُروشِها نساااء. لأنّ المرأة وإشكاليّاتِ وجودها الإجتماعيّة، بعينيّ، ظلّت تنضوي تحت مرجعيّات سياسيّة بحتة، لأنّ الواقع السّياسي الّذي نعيشه في دولة أسمت نفسها دولة اليهود منذ كُنّا، رغم أنّها ترانا بملاييننا في كلّ مكان ولّدت احتقانا مجتمعيّا سافرا، ضمن تبعاتِهِ انتفاخ نزعةِ الرّجال العصبيّة تجاه المرأة حين قَصُرت أيديهم عن انتزاعِ حقوقهم من سُلطة سياسيّة تغبنهُم وجوديّا. وفق ذلك أصبحت المرأة فكرة تفريغ مُشرعة على كلّ أنواع الموت، الرّوحي الفكري والجسدي. ظلّت مضربَ الرّجل، وقبلت هي طوعا بدورها أمام الأزمات الحياتيّة الّتي نحياها في هذه البلاد.
يومَها فهِمتُ أنّ المجتمعاتِ الفلسطينيّة، ومن بعدها العربيّة والشّرقيّة بمجملها ستفشل في خَطّ سياستها الفكريّة ما لم تُحرّر سياسيّا، المرأة والرّجل معا. وليس غريبا أنّنا للآن نعيش في ذات الدّائرة، ما لم نفهم أنّ حضور المرأة بوعيها الثيّب سببا في تقويمِ المفهوم السّياسي لوجودِنا كشعبٍ ذي بصيرة وخطّة وجود نافذ. وأنّنا لن نكونَ شعبا ما لم تتحرّر رقابَ النّساءِ من بطشِ ذّكوريّتِها، وضبطِها اللّامعقولِ لدوائر حياتِها. بقي الرّجل، كمن يقبضُ على جهازِ تحكّمٍ ينقّلُ بكبساتهِ خطواتها على شاشةٍ مُتنقِّلة، تحتلُ هي فيها الصّورة كلّها. فهل كسِبنا السّياسة حينَ حرّرنا رقابَ النّساءِ من الرّقابة؟ هل انتصرنا حينَ حرّرنا أنفسَنا من الدّوائرِ المُغلقة؟
بطبيعة الحال، إجابتنا جاهزة، فنحنُ لم ننجح على الصّعيد الاجتماعي العام، والآخر الخاص، فمُجتَمعاتُنا ظلّت مُقيّدة بسلال وأغلال تقاليدها دون أن تملكَ منطقا مقبولا لتفسير تراجِعِها. ظلّت النساء بالمُقابل تتحرّك وفقَ كبسات شاشة تأخُذُها لآخر الدّنيا وتعود بها نقيّة محصّنة كما يحبّها الرّجل تماما! وللآن نحن محكومون لشرائع غيرِ مقنعة. غير مقنعة على اعتبار أنّنا قرّرناها استنادا لتقاليدَ لا يدينُ لها إلا العجز، فعدم امتلاكنا الشّجاعة لتجاوز أزماتنا الشّخصيّة يورّطنا مع الحضارة وخارطة الحياة بالمجمل، لأنّنا نعرفُ جيّدا أنّنا حينَ سننتصرُ على نزعاتِنا الفرديّة تجاه كلِّ تغيير ولو بسيط سنفقد بشكل آليّ جهاز التحكّم والبوصلة. مع العلم أنّ البوصلة الّتي تحتاجها المجتمعات الآن هي فنّ الرّؤيا وعمق البصيرة، لا غير
خسر المجتمع الرّجولي الكثير حينَ قرّرت المرأة أن تضيّعَ عيني الكونترول الّذي يحدّد مجال حركتها وكلمتها، وأكاد أجزم أنّها الكتابات الكاسحة للأطر، تسبّبت بحرقِ آخر معاقل تحصّن فيها العيب والممنوع، وشكّلت سببا مفصليّا في انتشار المرايا في كلّ مكان. غير أنّ ما أدّت إليه التّكنولوجيا، اليوم، بعينيّ ظلّ شكليّا فيما يتعلّق بحريّة المرأة وحضورها الفكري.
لا زلت أذكر جيّدا المرّة الّتي أثرتُ فيها حقّ المنحرفات إلى سوق المتاجرة بالجسد في العيش في إحدى قصصي، فأثرتُ حنقَ رجال ونساء، واحتفاءَ أقلام جريئة، أضاءت مساحاتها الجماليّة، لفريق آخر، وقف على رأسهم د.نبيه القاسم، عبر نصوص تجاوزت الطّوق بحدّة، قوّة، كثافة وإصرار. يومها قاومتُ شرائع مجتمع يريدُ كلّ النّساء في هاوية، خصوصا في المجتمعات القرويّة، جميعهنّ دفعة واحدة كي يخنق أصواتهنّ معا، ويؤسّس قوانين جديدة لقبولها زوجة وفاعلة في محيطها.
تبدّل منطق الحياة وشروط الكتابة حين نضجت الأفكار وخرجت تتحدّى سجّانها. نزعَتِ الأقفال والأقنعة، وضعت لها دربا آخر تمرّ منهُ جماليّات اللّغة وصور شخوصها الطّائرة والمفكّكة، فقليل ما تدهشنا الثّوابت. لقد تجاوزت الحالة القصصيّة بَوحَها لدي. لم تعد بالونات غاز معبّأة بالقهر يسجِّلُ ليفضَحَ وحسب، ويشرّع اتّجاهات جديدة، بل مشاريعَ جماليّة لفضاءات صور، ولا تزالُ ممحونة بفكرة الخلاص السّريع والكامل من زحام المخيّلة، ، هكذا هي القصّة! والجديدُ أنّ ساحاتِها اتّسعت ومرايا الحالاتِ أزهرت تقنيّات مُدهشة خرجت وحدها تعلن عن ولادتِها.
كنتُ قد فهمت أنّ الشّعر لن يكون قسرا عليهِ، وعلى قوالبه المعروفة في سكبِ الشّعور، وعليه قرّرت أنّ احتياطيّ من اللّغة الشّعرية ستأخذ حضورها المكثّف في مشاهدي القصصيّة. صحيح أنّي أخذت مساري هذا منذ انتقلتُ إلى القصّة لكنّه أخذ الآن حيّزا بمرسوم رسميّ منّي. كنتُ قد حطّمت القوالب الجاهزة بما يكفي لأرسم مسارا جديدا للمشاهد النّثريّة واستفدتُ من التّشكيل الفنّي أيضا في إضافة مذاقات اللّون والرّائحة والحركة، هكذا تجاوزت السّائد لأخلق حالة نادرة لا تشبهُ غيري.
دخل الشّعر إلى مشاهدي القصصيّة لامعاً مدوّرَ الأكتافِ، كثيفَ الحرارة، سريعَ الحركة سليط العبارة، وأسعفني في ابتكار ما أطلقتُ عليهِ” القصّة اللّمعة، أو الومضة” كما ورد في قصّة ” الصّندوقة” و “امرأة جميلة جدا” مثلا، وقد شرّعتُ لها منطقا شكليّا ومضمونيّا يخُصّني. كان لفتنةِ اللّغة وانسياب الحدث الأثر الأبعد في انتشار قصصي وببصمتي، فهل استطاعت القصّة أن تلبي طموحي لفجّ عوالم كثيرة فيها وتظلّ سيّدةً لديّ؟
حيفا، نوفمبر ،018
تأمّلات: رجاء بكريّة