إستهداف المخيمات الفلسطينية، حاضنة النضال الوطني
تاريخ النشر: 26/11/18 | 7:20ليس صدفة ان تكون المخيمات الفلسطينية واستهدافها قاسما مشتركا بين جميع مشاريع الحلول التي طرحت منذ النكبة وحتى اليوم. وليس صدفة ايضا ان تكون عناوين هذه الاستهدافات من مداخل امنية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، تختلف في بعض التفاصيل الا انها تتفق على خلخلة النسيج الاجتماعي للاجئين الفلسطينيين داخل مخيماتهم والعبث بموروثهم الثقافي، من عادات وتقاليد وثقافة وطنية، تمهيدا للوصول الى الهدف النهائي بتصفية قضية اللاجئين وعنوانها المباشر حق العودة.
لم تكد تلك الأقدام الجماعية المبعثرة بين قياسات متفاوتة في العمر والجنس والحجم، والمترنحة الخطى، والمثقلة بمزيج الوحل والدم، بأن عبرت أول حدود للبلاد التي أحاطت بفلسطين، وما باتت تعرف لاحقا ب “دول الطوق العربي”، مخلفة ورائها جيش من القتلة الارهابيين من عصابات الهاجاناه وشتيرن، وجيوش عربية وعدت باستعادة حق سليب تحت ضياء الانوار الكاشفة، في معركة قيل انها لن تأخذ سوى أسابيع قصيرة، لكن الانتظار طال، ولم يسمع اللاجئون خبر الانتصار بل خبر هزيمة جيوش لم تدخل فلسطين الا لكي تنهزم.
عاش اللاجئون الفلسطينيون على امل بعودة قريبة، لكن ما هي الا لحظات حتى بدأ مشهد جديد من قصة طويلة لا زالت متواصلة، ابطالها عدو جاء من كل بقاع الارض ومدجج بكل انواع الاسلحة الحديثة من بريطانية وفرنسية وغير ذلك من اسلحة قوى الاستعمار الغربي ليجد في ارض وشعب فسطين عنوانا لملحمة من المواجهة والتحديات الجديدة التي فرضت على هذا فلسطيني وجد نفسه في حلبة صغيرة لنزال غير متكافئ بين عصابات مدربة ومجهزة عدة وعتادا وشعب اعزل لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه سوى ارادته على المواجهة، حيث كانت النتيجة انتصار التحالف الاستعماري الصهيوني في معركة، وان شكلت نقطة تحول في تاريخ المنطقة والانسانية، الا انها كانت نهاية حقبة من التاريخ بكل ما فيه من عناوين يجري العبث فيها سواء على مستوى الهوية والحضارة او على مستوى التاريخ والجغرافيا، ليؤسس لمرحلة جديدة بصمت غير مسبوق، مبطن بعار لم تشهد له جولات إثبات الوجود والكرامة الإنسانية مثيلا.
ومع واقع جديد مهشم الفصول، بدأت الرواية تشق طريقها في مسار محدد الاهداف، فوجد الفلسطيني نفسه يسكن خيام بيضاء او زرقاء سارعت الأمم المتحدة في توزيعها على جموع اللاجئين، واختصرت القضية ببطانية أو اثنتين يكون فيها العدد المضاعف عنوانا “للكرم والشهامة” الدولية وبعض الحاجات الرئيسية التموينية “ألاعاشة”، ليفرض على القاموس الفلسطيني مفردات جديدة وكأنها استحدثت لهذا الغرض الشيطاني من انتهاك الإنسانية والآدمية. فبرز بين ابناء فلسطين المصطلح الاكثر مأساوية في تاريخهم، بل وفي التاريخ الانساني، وهو مصطلح “نكبة فلسطين الكبرى” لتمييزها عن عشرات بل مئات المشكلات والكوارث التي تشكل كل واحدة منها نكبة صغيرة بنظر اصحابها من مئات الآلاف من اللاجئين المنتشرين على تخوم القرى والمدن التي تم تدميرها.
بدا ان هناك مشهدا جديدا آخذ بالتبلور لم يعتد عليه اللاجئون الا بعد سنوات حين أصبح مصطلح “لاجئين” يتردد على ألسنة الكثيرين، فيما الخيام تمتد على مساحات واسعة بين القرى والمدن العربية التي سعى ابناءها في بداية الامر الى مد يد العون والمساعدة، بينما على المستوى النفسي كانت تداعيات النكبة ونتائجها تتكرس اكثر واكثر، ومرارة الهزيمة تزداد عمقا. وما زاد الامر صعوبة هو الهزيمة الداخلية، حين وجد الفلسطيني نفسه عاريا من أي غطاء سياسي، بعد ان انهار كل شيء، ليتحول الانسان القادم من ارض كنعان ومن قلاع عكا قاهرة نابليون واسوار القدس المزينة بعراقة التاريخ والحضارة، الى طفل نزعت عنه حروب الكبار وهمجية الاستعمار انسانيته، وليجد نفسه تائها بين مدن غريبة وابنية شاهقة وعامودية يبحث لنفسه بين صخبها عن ركن ياويه..
لم تدم حالة الصدمة والهزيمة التي أرادوها قدرا يحكم ماض وحاضر ومستقبل هذا الشعب الا لسنوات، بعد فشل الرهان على عدالة القيم الإنسانية وما يرتل من سمو في مفاهيم حماية حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية من جهة، وفشل الأنظمة العربية وجيوشها من حسم وعد إعادة اللاجئين من جهة أخرى. وما هي الا سنوات قليلة ليأخذ الفلسطيني استراحة محارب، حتى جاءت نكسة العرب في عام ١٩٦٧ لتشكل نقطة تحول مفصلية أخرى في حياة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. فنفض اللاجئون ذل الهزائم واللجوء ليحولوا مفردات القواميس التي لاحقت الكرامة الفلسطينية في صحوتها ونومها لأكثر من ٢٠ عاما إلى عنوان لثورة الكرامة وانتصار إرادة رفض الذل والاستسلام، فكانت انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي حولت خيام اللجوء الى قواعد ثائرة وبوصلة لجميع الثوار من العرب وأحرار العالم، و أضحى ما كان في الأمس تهمة بالنقص وعقابا نفسيا وجسديا للآلاف من الفلسطينيين إلى عنوان للتحرر ومصدر فخر واعتزاز يمثل أنموذجا صارخا للإرادة الحية لدى جميع الشعوب المظلومة، وأصبحت مخيمات اللاجئين التي كانت امكنة للفقراء المشردين من ارضهم قلاعا للصمود والحرية يتوافد إليها كل من يؤمن بانسانية معلقة بين الأرض والسماء وبثورة ضد قوى الظلم والاستبداد في العالم، فأضحت تلك المخيمات وفي فترة ثورية وجيزة من عمر التمرد الفلسطيني الجديد محج ثوري يقصده البعيد قبل القريب.
كان الواقع الرسمي العربي يتكشف امام الشعب الفلسطيني أولا بأول بأن ليس هناك من تحرير وليس من الزعماء العرب واحد تحركت الدماء في عروقه نصرة لفلسطين وشعبها، فكان هذا الحافز الأول لبداية التفكير الجديد لأن يأخذ الشعب الفلسطيني قضيته بيده ويثور على واقع اريد له ان يكون ابديا، فكان الإعلان على شرارة الكفاح المسلح في ثورة كان أبناء المخيمات من حمل شعلتها الأولى ولتتحول الى حاضنة للنضال الوطني المدافعة عن حق العودة والى مدارس ثورية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد خرج من بين ازقتها قيادات ومناضلين فلسطينيين اصبحوا فيما بعد عناوين للفدائي الثائر من اجل حقوقه الوطنية، إضافة لعدد كبير من المثقفين والأدباء والفنانين الفلسطينيين الذين لعبوا دورا مهما وفعالا في إستعادة الهوية الوطنية واالثقافية الفلسطينية وتركيبتها الحضارية وتصديرها مرة أخرى إلى واجهة المشهد العربي والعالمي حتى غدت الثقافة الفلسطينية مثالا ونموذجا يحتذى به من قبل الكثير من الاحرار على مساحة العالم.
إذا بفضل وعي الشعب الفلسطيني ووعي قياداته الوطنية، لم تنجح مساعي زرع الهزيمة في نفوس الفلسطينيين في وقت مبكر، والمخيمات التي أرادوا لها مصيرا انهزاميا باتت هي من تقف في وجه مؤامرة شطب الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية التي غابت عن جدول اعمال المجتمع الدولي لسنوات، بعد أن قدمت هذه المخيمات ثلة من أبنائها مقاتلين ثائرين أعادوا قرع أجراس الوجود الفلسطيني لتعود القضية الى الواجهة من جديد.. هذا الواقع دفع بالعدو الإسرائيلي وداعميه من قوى الاستعمار العالمي للسعي الى لجم ثورية تلك المخيمات سواء من خلال عمليات عسكرية مباشرة طالت أكثر من مخيم فلسطيني كمخيمات لبنان (مخيم النبطية في جنوب لبنان الذي دمر تدميرا كاملا) او من خلال الاستهدافات الداخلية كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية وما نتج عنها من أضرار كان لها نتائج كارثية على المخيمات الفلسطينية، وهذا ما حدث في مخيم تل الزعتر (شرق بيروت) بتدمير المخيم وتشريد سكانه، وأيضا المجزرة الكبرى التي ارتكبها العدو وميلشياته المحلية في مخيمي صبرا وشاتيلا والتي هزت الإنسانية، ناهيك عن تدمير مخيم نهر البارد (شمال لبنان).
كان واضحا ان الهدف من جميع المعارك التي شنت على المخيمات هو اشغال الشعب الفلسطيني بقضايا جانبية لجعله عاجز عن تأدية واجبه الثوري ضد الاحتلال الإسرائيلي عبر دفع المخيمات للانزلاق في دوامة حروب داخلية لا زال الشعب الفلسطيني يدفع فاتورتها حتى اليوم، رغم الإعلان عن انتهاءها منذ ما يزيد عن ربع قرن. فاصبح استهداف المخيمات اليوم جزءا لا يتجزأ من المشاريع الامريكية الإسرائيلية للحل، ويمكن لأي كان ان يعرف سبب إصرار الإسرائيليين على الغاء المخيمات وفكفكة بنيتها الأساسية كاساس لأي حل مستقبلي، كالعبث بوكالة الغوث، وطرح تفسيرات جديدة لحق العودة، وكل هذا في اطار الغاء قضية اللاجئين الفلسطينيين وتصفية حق العودة حيث تعتبر المخيمات من ركائزها الرئيسية وكانت سببا مباشرا في اخراج القرار (194) من ادراج الإهمال والنسيان واصبح عنوانا يقود مسيرة هذه المخيمات التي، رغم عديد المشكلات التي تعيشها، الا انها ما زالت تعلن وبشكل يومي تمسكها بحق العودة إلى الأراضي والممتلكات التي هجرت عنها قسرا نتيجة إرهاب العصابات الصهيونية..
بدء العمل على ضرب قدسية القواعد الثورية للاجئين، وأصبحت المخيمات الفلسطينية، خاصة في الفترة التي اعقبت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، عرضة للعديد من الاستهدافات التي نجح بعضها في تهجير العديد من الفلسطينيين خارج لبنان، في ظل غياب تام لأي تعاون او تنسيق لبناني فلسطيني رسمي يعيد رسم وتحديد أوضاع المخيمات الفلسطينية وتحصينها أمام محاولات الانتقام الكثيرة. ونتيجة لمطالب فلسطينية ملحة بضرورة اطلاق حوار رسمي لبناني فلسطيني يعالج ويغير الصورة النمطية التي زرعت في اذهان أجيال من اللبنانيين عن المخيمات الفلسطينية في لبنان وبعد تفشي بعض الظواهر الغريبة عن المخيمات وتسللها إلى تلك الأزقة الضيقة حيث وجدت لنفسها مستقرا راح يتسع شيئا فشيئا بفعل تقصير رسمي فلسطيني لناحية تجاهل بعض الظواهر من جهة وعدم التعاطي مع الفلسطينيين من منطلق إنساني من جهة أخرى، بعد رفض جميع الحكومات اللبنانية التي جاءت بعد توقيع اتفاق الطائف، منح اللاجئين الفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم الإنسانية والاجتماعية خاصة فيما يتعلق بحق العمل وحق التملك بذرائع نعلم جميعا كذبها، ولسان حال الفلسطيني اليوم يقول ويتكرر في كل مناسبة وطنية بأن التحصين الأمني للمخيمات مدخله التحصين الاجتماعي والاقتصادي، الا ان جميع الدعوات الصادقة من الفلسطينيين لنسج علاقات جديدة مستفيدة من تجارب الماضي لم تلق آذان صاغية حتى هذه اللحظة.
في المشهد الفلسطيني الحالي لا يخلو فصل من فصول النضال الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزه ومخيمات الشتات، أن كان على مستوى العمل الجماهيري او على مستوى العدوان العسكري، إلا والمخيمات الفلسطينية متفاعلة وحاضرة لا بل هي دائما حاضرة في قلب الحدث، لدرجة ان بعض الفعاليات الوطنية التي تنظم داخل المخيمات في سوريا ولبنان او في الأردن وكأنها داخل مخيمات الضفة او غزة، لما تحمله من عمق وطني في الهوية والانتماء والالتصاق بالقضية الوطنية، حتى أن تلك الأحياء الصغيرة التي ترسم شكل المخيم الجغرافي بطوله وعرضه باتت تحمل أسماء قرى ومدن فلسطينية، كما تتزين جدران المنازل المتراصفة بعشوائية ضيق المساحات وما توفر من مواد بناء يسمح بدخولها صور الشهداء والشعارات الوطنية التي تؤكد على الحقوق الوطنية والتي دائما ما تخط وترسم بمبادرات فردية.. هي حقا مخيمات عودة، وحاضنة للنضال الوطني بل هي بيئة نضالية ووطنية وهذا هو سبب استهدافها..
في المشروع الأمريكي “صفقة القرن” كان للمخيمات الفلسطينية نصيبها سواء عبر استهداف وكالة الغوث بشكل مباشر او عبر استهدافها امنيا وعبر الحرب النفسية والإعلامية والاقتصادية المباشرة او عبر طرح تعريفات جديدة للاجىء الفلسطيني تقود لاحقا الى انقاص العدد الى المستوى الذي يعتقد الأمريكي والإسرائيلي انه لا يشكل تهديدا على المشروع الاسرائيلي، وكل هذا لضرب احدى ركائز حق العودة المتمثلة بالمخيمات كونها الشاهد المادي على التهجير الجماعي للشعب الفلسطيني عام 1948.
المخيمات الفلسطينية تقف الآن في وسط عاصفة شديدة تتطلب جهدا استثنائيا ومضاعفا من قبل القيادة الفلسطينية بشكل خاص والشعب الفلسطيني بجميع مكوناته بشكل عام للوصول الى وضع استراتيجية مواجهة موحدة تضع كل التباينات والخلافات الداخلية جانبا، وتحكم لغة الحوار والمنطق والمسؤولية الوطنية على ما عداها وتنبذ اي عمل عنفي من شأنه أن يعرض الحالة الفلسطينية الى اضرار والمخيم إلى هزات أمنية تشكل مدخلا وسببا لطرح معالجات تخدم بالنهاية الأعداء. لذلك بات مطلوبا عملا مشتركا فلسطينيا وعربياز وفي لبنان فان المطلوب هو حوار جدي يضع كل الملفات على طاولة البحث المشترك للخروج بخارطة طريق تتعامل مع الملف الفلسطيني بجميع عناوينه مدخله التحصين الاجتماعي والاقتصادي للحد من ظاهرة التهجير الجماعي للمخيمات ومعالجة بعض الآفات الاجتماعية التي تهدد المجتمع الفلسطيني وتدمر عصب الشعب الفلسطيني المتمثل بشبابه وطرح معالجات تستجيب لمشاكل الشباب على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
جهاد سليمان / إعلامي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين – لبنان