“علاقة الشّكل بالمضمون في المسرح الفلسطيني”
تاريخ النشر: 02/12/18 | 6:59“علاقة الشّكل بالمضمون في المسرح الفلسطيني”
في إطار ((مهرجان فلسطين الوطني للمسرح..
(الجزء 1)
طرح: رجاء بكريّة
“… لا نخطىء حين نعتقد أنّ التحدّي الأكبر تمثّلَ في تطوير مخيّلة النّص لا مادّتهُ لأنّ فقر المخيّلة هو السّبب في سقوط الأعمال العظيمة، وهذا ما حاول جاهدا تلافيه في طبيعة النّصوص المرتبِكَة خصوصا، فكانت إضافاتُه تفكيكا مضمونيا لإشكاليّات النّص لِتنوب عنه مشاهدَ تخييلِهِ..”
لا أذكر
تماما منذ متى لم أعرض للعلاقة المتجانسة أو المتضاربة بين هذين المتغيّرين في مقارباتي النّقديّة, وأعني (الشّكل والمضمون)، لكنّ ما أذكُرُه جيّدا أنّي جنحتُ إلى تأثيث رأيي الجمالي في مستوى العرض المسرحي بثقافة مزدوجة تحرص على توثيق أثر المضمون على الشّكل بتوازٍ حريص، وأعني أثر النّص على المظهر الدّارمي من منطلق الحاجة المتبادلة بينهما لاستكمال الحالة المشهديّة في أسمى تجلّياتها لدى جمهور الهدف، وأعني تحديدا ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ “بالفِتنة المشهديّة”
وإذ أؤكّد هذه الحقيقة، لا لأنفي فكرة تفوّق أحدهما على الآخر وتفرّدهِ بالجمهور لحظة يُملي شروطَهُ عليه، بقدر ما أؤكّد أنّ لحظة الانفصال تلك، لا بدّ أن يسبقها اختلالا في الرّؤية الجماليّة لإعدادات العرض وخروجها عن مألوف ما يراه المضمون مناسبا، ولعلّهُ ما يناسبنا تماما حين نعرض لهذا الصّراع الخفيّ-مُعلَن بينهما، أن نعترف، ما لم يتجاوز الشّكل إملاءات المضامين الكثيرة في المسرح عامّة، والفِلسطيني خاصّة فلن نحظى بلحظة الإدهاش القابضة للأنفاس الّتي نتوخّاها من العروض الّتي نرتادها لنختلف أو نتّفق على مذاقِ متعتها.
1)) أهوُ حاجة الشّكل إلى المضمون، أم أنّهُ العكس؟
هو، تساؤلنا الأوّل حول حاجة المادّة المسرحيّة لإطار يترجمها, لأيّ مدى ولماذا؟
بالعادة، خوفنا من تسيّب الحالة المسرحيّة يدفعنا للالتصاق بفكرة هندسة إطار يحتوي الفكرة قبل انطلاقها، لكن بحدود، لئلا نهدم المرجعيّات الّتي تُقَوْنِن انتماءنا لفكرة العرض. وأكاد أجزم أنّ جلّ التّجارب المسرحيّة الضيّقة والمتواضعة وقعت في فخّ التردّد وسوء الخيارات فخرجت إلى النّاس باهتة ومحدودة الألق، ونحن نسعى لتحقيق حالة الانبهار الحقيقي بالعرض عبر الطّواقم المسرحيّة المتلهفّة. والواضح أنّ معظم التّجارب الأخرى الّتي غامرت حين انتقت من المضامين ما يناسب رؤياها الشّخصيّة وأسّست لفكرة تجاوزت الأطر الّتي يذهب بعض المخرجين لحصرها بين السّقف والحائط، وحدها أثبتت جدارة حضورها.
إذا, حين نتحدّث عن حاجة الشّكل المسرحي إلى مضامين تعرض إلى مساحاته فنحن لا نعني بالضّرورة ترجمة السّيناريو المسرحي إلى أبعاد ثابتة بقدر ما ندعو إلى تصفيتها, وتحكيم الذّائقة الشّخصيّة لتحديد الفكرة أو مجموع الأفكار الّتي لا تسير بنفس اتّجاه المخيّلة كي نؤسّس لشكل جديد يخالف السّائد، وينتصر لمذهب جديد في تأدية أشكال صناعتها، شرط ألا تؤدّي بنا إلى تضليل النّص وفرض شكل دخيل لا يتجانس معه أو يتجاوزه، بل يزيد، حين يوقعُهُ في تداعيات خاطئة.
2) حين يُلغي الشّكل طموح المضامين !
كنموذج أوّليّ لاستعراض تجنّى فيه المضمون على الشّكل المسرحي، وأبدأه مقلوبا، أسوقُ عرضا لمسرحيّة “رحلة صعبة رحلة جبليّة”، (مسرح الميدان، 07 ) باعتماد المضمون كصياغة مجدّدة لنص فدوى طوقان حول سيرتها الذّاتيّة. في هذا العرض يطمح الشّكل المسرحي للتفوّق على مضمونهِ عبر فانتازيا غير مألوفة. (أورنا عقّاد،07)أدّى بهِ لشكل يفتقر للمصداقيّة المعلوماتيّة والشّكليّة. حيث حرصت أورنا عقّاد على استحضار روح فدوى طوقان ضمن بُعدَين مسرحيّين يتصارعان عبر الحُلُم في مسيرة البحث، فيهِ يتداخَلَ صوت فدوى الثّائرة الّذي أدّتهُ سلوى نقّارة مع فدوى المُطالِبة بالإنصياع للتّقاليد بأداء سناء لهب.
شكل الصّراع المشهدي عبر الشّخصيّة المركزيّة طوقان، المُنقسِمة على ذاتين بدا هزيلا وموضعَ تساؤل لدى جمهور الهدف حينَ اختصَرت الهالة الّتي أحاطت بالنّموذج الأصل، طوقان، عبر حِوارٍ مُقحَمٍ، برأيي، لا يغذّي أبعاد المضمون الغنيّ بذاته أَصلا، والمُختَزَل من صورة فدوى الإنسانة الثّائرة. زِد على ذلك إقحام قصاصات من لقاءات سياسيّة لذاكرة الحلم الّتي لفدوى خلال شكل المواجهة، من وجهة نظر شخصيّة بحتة للمخرجة. الأمر الّذي أساء لصورة فدوى كتاريخ انتماء وطني وتحديدا لقاء جمعها بموشيه ديّان. هذا التشوّش في رؤية إخراجيّة تريد أن تثبت معرفة لا يحتاج السَيناريو المسرحي لها أسقطهُ وسط دويّ هائل من عين المُشاهِد. واعتقادنا المتواضع أنّ المشرف على تأثيث الشّكل المسرحي أخطأ في فهم مضامين الثّورة الّتي خرجت بها فدوى في تلك البيئة المحافظة إلى العالم، حتّى باتت فكرة خلق مواجهة ضمن صوتين مجسّدتين في دائرتين ونقلهما إلى مسرح أكبر هو صالة الجمهور بهدف تحريضِهِ ضمن فكرة المسرح المتداخل، استثنائيّا ونافلا لحدّ بعيد. لقد انزلق المشهدين لصراع شخصيّ نشأ عن تداعي الحدث. حيث حاولت كلٌّ منهما تجاوز موهبة الأخرى، على اعتبار أنّهما متساويتان أداء وتجربة، ما لا نجزم بصحّتهِ بأيّ حال.
يرتبط هذا النّموذج المسرحي، آنف الذّكر، عن الآخر الّذي سنعرض لفنيّته الاستثنائيّة في تحديد شكله أمام الجمهور في التّسعينيّات بتجربة أخرى غنيّة لنثبت أنّ تقادم العمل ليس سببا في تجاوز الجيل المسرحي الجديد لقيمتهِ الفكريّة والفنيّة هو “رأس المملوك جابر”، مسرحيّة سياسيّة بامتياز للسّوري سعدالله ونّوس الّتي تتحدّث عن الصّراع على السلطة، بثمن انسحاق الشّعب. وقد تمّ إعدادها من قبل طاقم مسرح (بيت الكرمة) للمخرج فؤاد عوض.
في هذا العمل حصل التباس نوعيّ بين مساحتي العرض، وصالة الجمهور، التباس اتّسعت فيهِ دائرة المشاكسة بين المسرحين المتداخلين ضمن شكل مسرحي لافت، لشكل الظّهور الفنّي للأدوار، فالأقنعة والألبسة الخاصّة بالفترة الزمنيّة، والأضواء المتداخلة اختيرت بعناية، فأحدثت تشويقاً مُكثّفاً للسيناريو المسرحي، وجذبا نوعيّا لجمهور الهدف، تحقّقَ متعةَ مشاهدة نادرة.
واعتقادنا أنّ تجربةَ المسرح المتداخل، (مسرح داخل مسرح)، الّذي غذّتهُ معظم أعمال سعدالله ونّوس أحدثت متعة فائقة وراكمت التّجربة، فالتّجانس بعيد النّظر بين الشّكل الّذي اختير لمساحة العرض ومرجعيّاته المضمونيّة امتلك فنيّة ورؤية شخصيّة بعيدة، ما لم تنجح أورنا عقّاد في تحقيقهِ، ومهما جنّدت من تقنيّات الظّلال والإثارة والإضاءة. فالواضح، بالرّجوع إلى النّموذجين أيّ شكل حرصنا على تقديمهِ لجمهورنا في مسرحنا الفلسطيني. لقد ظلّت مدرسة المسرح المتداخل الّذي ثوّر بركانه بيرتولد بريخت إحدى الأصول الشّكليّة الّتي جُنّدت بذكاء ولضرورة، هذا إذا أضيفت الثّقافة الفنيّة الّتي لمخرجي هذا النّوع من الأعمال فسوف تُضفي لغتُها الفنيّة تميّزا استثنائيّا في أسلوب تعديل الحوار المضموني عند تصفيتهِ النّهائيّة.
واعتقادنا الشّخصي أنّها، هي الأسباب الّتي حقّقت لمسرحيّة، “رأس المملوك جابر” انتشارها غير المسبوق، ذكاء المهنيّة في انتقاء الشّكل المسرحي ضمن رؤية فنيّة ناضجة في حواره مع المادّة وجمهور الهدف.
3) ثمّ ماذا؟
لم يقتصر استعارة الشّكل المسرحي آنف الّذكر، “المسرح داخل مسرح” على عملين، بل نكاد نجزم بفكرة رواج هذا اللّون المسرحي كمذهب وشكل فنّي ناجح في تلك الفترة وما بعدها إلى يومنا هذا، مع تفاوت الأثر في تكنيكها الفنّي لدى كلّ مخرج وآخر، لكن ما نعرفه جيّدا أنّ المهنيّة ظلّت بين قوسي مساءلة.
في إشارة لافتة للأعمال الماثلة في ذاكرة المسرح نستذكر أعمال منير بكري في أسلوب تذويته لشكل مسرحي مثير للإهتمام، ضمن عمله على مسرحيّة “بياض العينين”، 05 مع تأكيدِنا على رؤية فنيّة متفرّدة في معظم أعماله المسرحيّة. لقد أسّسس بكري لمسرح الدّاخل مسرحا يخصّ بصمتَهُ ورؤيته النّافذة، واللّافت بحدّة أنّه لم ينشىء هدنة بين الشّكل والمضمون الّذين يعالجهما، بل، بحثَ دائما عن شكل نوعيّ يخصُهُ هوَ يستجيبُ لشغفِهِ الشّخصيّ بالمميّز المهمّش أحيانا في المضامين الّتي يعثر عليها. وغالبا أضاء عتمة مدهشة لا يراها إلّاهُ في متن العمل المسرحي لحظة تجلّيه. لن نفاضلَ بينَ درجات التفوّق في أعماله، لكن من المهمّ أن نؤكّد أنّه أنشأ في “بياض العينين” مجابهات دراميّة تخصّ رؤيته، تتواجه، في ذات اللّحظة، فتنشىء تصعيدا دراميّا خلّابا. تتداخل بقدر ما تنفصل, تتلاحم بقدر ما تبتعد، تتعالى تتصارع ولا تسقط . فعلَ وفي ذهنهِ هاجس واحد أن يخلقَ مساحة لرؤية فنيّة أرحب من المضامين البسيطة تستوعب مخيّلته. لا نخطىء حين نعتقد أنّ التحدّي الأكبر تمثّلَ في تطوير مخيّلة النّص لا مادّتهُ، لأنّ فقر المخيّلة هو السّبب في سقوط الأعمال العظيمة، وهذا ما حاول جاهدا تلافيه في طبيعة النّصوص المرتبِكَة خصوصا، فكانت إضافاتُه تفكيكا مضمونيا لإشكاليّات النّص لِتنوب عنه مشاهدَ تخييلِهِ، أضف إليها الأضواء والدّيكور الّذي لا تتصوّر كيف سيقتطعهُ قبل أن تفاجئكَ فكرته مجسّدة.
ملاحظاتي حول الأشكال المسرحيّة لدى بكري تحديدا تتعلّق بأشكال الحداثة المسرحيّة الّتي تكسر المضامين حين تُخلّ بشروط نجاحها، وإسعاف المضامين بمتصرّفات المخيّلة الّتي تمتلك أبجديّة أشدّ اتّساعا من الكلمة، وعمليّا هو ما نرتأيه من المسرح الفلسطيني الحالي، أن ينشىء أبجديّة شكليّة جديدة تتفوّق على السّيناريو حين يُخفق في تجلّي مضامينه، علينا أن نعثر على خطّة إخراجيّة بديلة من بنات الرّؤية الفنيّة للمخرج ذاته، غير مستوردة ولا تعتمد على الطّروحات الجاهزة للمدارس المسرحيّة، بل تتجاوزها إلى ذواتنا لأنّها بيتُ المخيّلة الحقيقيّة الّتي تغيب كثيرا عن أعمالِنا.