جان دارك فلسطين
تاريخ النشر: 11/12/18 | 18:10كان لي شرف التواصل مع سميرة (إيڤا) حمد قبل سنتين، حين رتّبت مشاركتها عبر الهاتف في الأمسية الحيفاويّة للسنويّة الأربعين لمجزرة تلّ الزعتر في نادي حيفا الثقافي، خلال مداخلة أخي د. يوسف عراقي، وإشهار الطبعة الثالثة من وثيقته “يوميات طبيب في تلّ الزعتر” الصادر في حيفا، فصرخت وأبكت كلّ من تواجد في القاعة…
سميرة من مواليد 1948 في مدينة جوتنبورج السويديّة، درست التمريض وبفضل نشاطها التحقت عام 1974 بالعمل التطوّعي مع الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، تزوّجت من يوسف حمد ابن قرية الخالصة شمال فلسطين، المسؤول الصحي للجبهة في تلّ الزعتر، الذي استشهد خلال القصف على مخيّم تل الزعتر جراء قذيفة هاون أدّت بالوقت نفسه إلى إصابتها بجروح بالغة، نتج عنها بتر ذراعها الأيمن وكسور في الفخذ الأيسر. بعدها بأيام فقدت الجنين في شهرها الرابع. رفضت سميرة، رغم إصابتها، مغادرة المخيّم المُحاصَر رغم جهود الحكومة السويديةّ في العمل على إخلائها، أصرّت على أن تُقاسم الأهالي مصيرهم. عند خروجها عادت إلى السويد وأكملت علاجها ونشاطها في المجال الصحي، مساعدة أطفال اللاجئين القادمين من مناطق القتال ومساعدة النساء، ما زالت مرتبطة بمساعدة أطفال اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات لبنان، وما زالت تحمل رسالة المخيّم عبر البحار.
خلال زيارتنا في الصيف المنصرم للنرويج، برفقة زوجتي سميرة وزميلي فؤاد نقارة وزوجته سوزي، علمتُ بقصّة “الثوب الفلسطينيّ”؛ حيث زارت غزّة عام 2000 وخلال تواجدها لبست ثوبًا تراثيًّا ولدهشتها، بعد التصوير مباشرة، نُزع عنها الثوب وأخذه مضيفوها منها!! وفي عيد ميلادها السبعين قام أخي د. يوسف عراقي بزيارتها مع زوجته فاديا وقدّما لها فستانًا فلسطينيًّا عوضًا عن ذاك الفستان ولوحة زعتريّة بريشته، وخلال الاحتفال بعيدها هاتفتُها لأهنّئها وحدّثتني عن فرحتها باللوحة والفستان. طلبتُ أن يبعثوا لي صورًا؛ شاركناها على صفحة نادي حيفا الثقافيّ، وعقّبتُ بقصّة الفستان، وبعد النشر مباشرةً تلقّت دعوة للمشاركة باليوبيل الذهبيّ للهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله.
خلال الترتيب للمشاركة قرّرنا استضافتها في البلاد، وفعلًا استقبلتها يوم الثلاثاء الفائت، برفقة زوجها نستور (سجين سياسيّ من الأرجنتين، قضى في حينه خمس سنوات في سجون الفاشيّة)، في المطار وتوجّهنا إلى حيفا كي تتعرّف على البلاد التي فقدت أعزّ ما تملك من أجلها.
خلال تواجدها معنا قمنا يوم الأربعاء بجولة في الناصرة، استقبلنا الفنّان زياد الظاهر الذي رافقنا بجولة “سياحيّة” في البلدة، قطفنا حمضيّات بلادنا من بستان أصدقائي سلمى وسليمان نصار، وهناك التقينا بأمّ حبيب السبعينيّة، حين سمعت أنّ سميرة من تلّ الزعتر قالت: “البستان والبلد كلّها ع حسابها” فقفزت سميرة لتعانقها بحرارة لندمع جميعنا، لتتأكّد أنّ مشوارها النضاليّ الطويل والمليء بالمعاناة لم يكن عبثًا. من الناصرة توجّهنا إلى مرسم الفنّان أحمد كنعان، ابن أخت الدكتور الزعتريّ عبد العزيز اللبدي، في طمرة لقضاء سويعة مع فنّه الملتزم.
يوم الخميس كان حيفاويًّا بامتياز، حيث تجوّلنا، برفقة زميلي فؤاد والصحافي رشاد عمري، في وادي النسناس وسوقه، “دكّان” الموسيقيّ بشارة ذيب، وادي الصليب، مسجد الجرينة والاستقلال، والكرمل. قمنا بعدها بزيارة لمرسم “شيخ الفنّانين” عبد عابدي. في المساء شاركتنا سميرة وزوجها في أمسية نادي حيفا الثقافي الأسبوعيّة وقدّمنا لها درعًا تكريميًّا وتحدّثت للحضور بكلمة مؤثّرة. تلتها سهرة في مقهى بشارع أبو نواس العريق.
يوم الجمعة كان مميّزًا؛ استقبلتها صحيفة المدينة الحيفاويّة بتحيّة على الصفحة الأولى باللغة السويديّة وكلمة ترحيبيّة بقلم الدكتور يوسف عراقي تُرافقها صورة لهما وصورة أخرى من تجوالها في أزقّة وادي النسناس. تجوّلنا في شمال البلاد برفقة زميلي فؤاد، بدايةً في منطقة الكنائس وبحيرة طبريا، ومنها إلى هضبة الجولان وزيارة الصديق الإعلاميّ عطا فرحات، وختامها مسك، زيارة مؤثّرة ومشحونة بالألم… والأمل، لبلدة الخالصة المهجّرة، بلدة زوجها المرحوم يوسف حمد، الذي ما زالت تحمل اسم عائلته رغم أنّها تزوّجت إثنين بعده. ما زالت تحمل تلّ الزعتر وقضيّة شعبه معها. في المساء كان حفل استقبال عائليّ على شرف الزيارة بحضور أصدقاء في بيتنا.
صبيحة السبت زرنا مدينة عكا، برفقة زميلي فؤاد، وتجوّلنا في البلدة القديمة ومسجد الجزّار ورافقنا للإرشاد الصديق الأديب نظير شمالي، زرنا مرسم الفنّان العكيّ وليد قشاش، وخلال تجوالنا في السوق التقينا بالزعتريّة أم أحمد –بنت الشاطرة- التي تعرّفت على سميرة وتذكّرتها من أيّام الحصار، لقاء انتهى بالعناق والدموع. في ساعات المساء أوصلناها إلى القدس.
في الطريق إلى القدس تذكّرت أبيات شعر قيلت في سميرة (إيڤا) للشاعرة الفلسطينيّة زينب حبش:
لم تكن إيفا فتاة عربيّة
لم تكن إيفا سوى إنسانة مفتوحة العينين
عرفت معنى القضيّة
فاذا إيفا شظيّة
شرف الثورة يا ايفا.. لعينيك هديّة
إيفا
يا موّالًا يحضن موّال
ألمح في كفيك الحانيتين
رفوف طيور برّية
ألمح في قدميك
بيادر قمح لم تحصد
ألمح في عينيك الخضراوين
باقات ورود حمراء
ألمح في عينيك الخضراوين
غابات نخيل باسقة
وتلال صخور ورديّة
في عينيك أرى وطني
في عينيك أرى مليون سماء
في عينيك أرى علمي
في عينيك براكين تنزف نارًا.. ودماء
تحدّثت سميرة عن المخيّم وأهله، عن رفضها مغادرة المخيم رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة السويديّة والصليب الاحمر السويدي، اللذان أمّنا لها خروجًا آمنًا من المخيم، ربطت مصيرها بمصير أهاليه، وهذا يفسّر الكثير مما تحمله من قيم إنسانيّة، وحين سألتها عن عدم المغادرة أجابتني: “سألتني هذا السؤال في حينه ختيارة زعتريّة وأجبتها بأنّني إن غادرت – لا أحد سيصدّق حكاية المخيّم وأهله، وهذا واجبي تجاه الجنين والزوج اللذين فقدتهما!!”.
في حفل ميلادها خاطبها أخي د. يوسف عراقي قائلًا:” عزيزتي إيڤا، سيكون لك دائمًا في قلوبنا مكان دافئ. قصّتك فريدة، قطعتِ كل تلك المسافة الطويلة جدًا من جوتنبورغ إلى تلّ الزعتر لأنك تؤمنين بالمبادئ التي تحملينها، لأنّك أردتِ أن تساعدي، لأنك تتمتّعين بإيمان قويّ لتحقيق العدالة ولأنّك كنت دائمًا تحاولين مساعدة الآخرين، كما قال الكونت السويديّ الراحل فولك برنادوت (رئيس الصليب الأحمر): “لم نأت لهذا العالم لنصبح سعداء، بل أتينا لنسعد الآخرين”. وهكذا أنت عزيزتي إيڤا!! كذلك السويديّ داغ همرشولد (أمين عام الأمم المتّحدة في ستينيّات القرن الماضي) قال يومًا: “على الصعيد الشخصيّ نحن نعيش من أجل الآخرين لخلاص أرواحنا، وعلى الصعيد العامّ نعيش من أجل الآخرين للحفاظ على احترامنا الشخصي”. كلاهما – برنادوت وهمرشولد- قاتلا من أجل مبادئهما ومن أجل ما اعتقدا أنّه صحيح. وأنت يا إيڤا…كنت بالنسبة لنا سميرة…كنت قريبة من الموت جدًا لأنّك كنت تحملين نفس المبادئ التي حملاها…كنت تناضلين من أجل حقوق الآخرين”.
هي المناضلة الأمميّة التي بلسمت جراح تلّ الزعتر وقدّمت لفقرائه كل ما تملك،
وصرخت: ” كان الجنين كلّ ما أملك لأعيش من أجله وأنجو من مجزرة رهيبة”. ها هي تغلق الدائرة بزيارة بلدة يوسفها! تأثرّت جدًا من الزيارة وبدا عليها الانفعال طيلة الوقت، كم هي سعيدة لهذه الزيارة، وهمس لي زوجها نستور عدّة مرّات: أعرف إيڤا إثنين وعشرين عامًا وهذه أسعد ساعات عمرها منذ عرفتها!!!
لك منّي ألف تحيّة يا جان دارك فلسطين!!
المحامي حسن عبادي