هل عليَّ أن أربّي أبنائي على حبّ الوطن…!؟
تاريخ النشر: 14/12/18 | 0:05وتسأل ما معنى كلمة وطن..!؟ هل هو البيت..؟ أم الأهل..؟ أم المدرسة..؟ هل هو الأصدقاء، الشارع، رائحة ما..؟ أم أنه ذاك العلم الملوَّن الذي يرفرف فوق المباني الحكومية وفي المناسبات الرسمية..؟! لعلّه يتَّسع قليلا ليكون تلك الرقعة الجغرافية التي ولدنا عليها صدفة ودون سابق تصميم منا أو تخطيط، والتي بقدر ما تتسع لنا تضيق بنا. نحن حين نسأل ونستفهم ننتشل عقولنا من حالة الركود التي تجثِم عليها في كثير من الأوقات، وحين نبحث ونحلل ونناقش لا نسعى أبدا أن نبحث عن أفكارنا في عقول غيرنا، كما أنّنا لا نُحبِّذ أن يبحث غيرنا عن أفكاره في عقولنا، نحن ببساطة فقط نفكر ونسعى بقدر الإمكان أن نتقدّم بهذا التفكير نحو الطريق الأصلح والأصح ولو بقدر عُقلة إصبع.
رجوعا للوطن، فأنا أؤمن أنه دوما في كتاب الله وسنة نبيه ما يُبدد كل غيوم التساؤلات والاستفسارات التي تلُفُنا أحيانا كثيرة، حتى لو كانت هذه التساؤلات هي ما يُدرجها البعض تحت مُسمى الأسئلة الفلسفية اللَّغَوية أو تلك التي يراها الآخرون دون أي فائدة تُرجى. وعليه فبالرجوع للقرآن الكريم لم تَرِد كلمة “وَطَن” صريحا، لكن مدلولها ورد بيقين مع تنوع في الصيغ اللفظية كقوله تعالى: “قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا”، وفي قوله تعالى أيضا: “وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا”، فكلمتا الدِيار والأرض كانتا لفظا دلاليا لمفهوم الوطن العام والحالي.
وكذا الحال في السيرة النبوية العطرة التي لم يرد فيها صريحا لفظ “وطن”، فمما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو يودع مكة أنه قال: “ما أطيبَك من بَلَد وما أحبَّك إلي، ولولا قومي أخرجوني منك، ما سَكَنتُ غيرك” (رواه الترمذي) وكلمة بلد في الحديث الشريف كانت دلالة على الوطن كذلك. وهنا أجد نفسي استفهمُ، إذا افترضنا جدلاً أن مكة المكرمة كانت الوطن بكل معانيه ومفاهيمه المُسوَّقُ لها حاليا، لماذا لم يتبادر لذهن النبي عليه الصلاة والسلام أن يرجع ويعيش بمكة بعد الفتح، لماذا لم يوصي بدفنه في وطنه..!؟، وزد على ذلك لماذا كانت المدينة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى ولماذا عُقدت منها ألوية الجهاد في سبيل الله..؟! لماذا كانت المدينة دار هجرة ونصرة وعيش وممات لخير خلق الله أجمعين..؟! والسؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت مكة وطن، ماذا يُمكن للمدينة المنورة أن تكون..؟!
بعيدا عن التعلق الفطري للإنسان بمكان ولادته ونشأته إلا أنه يبقى كائن إجتماعي لا مكاني أو جغرافي، لطالما فضل أحاسيسه على مكان تواجده ولذلك كان من السطحية أن يُربط الوطن بمفهوم جغرافي بَحت. لا يمكن للوطن أن يكون تلك المساحة المحدودة التي تجعلُنا دُمى مُبرمجة لا ضمائر تحكمها ولا عقول تقودها، مجرد أرقام مهما زادت قيمتها أو نقُصت تبقى سالبة، سالبة اتجاه كل ما هو خارج حدودها الوهمية. لماذا لم نفكر يوما أنهم شتتونا فأوهمونا بالوطن، أوهمونا أننا ننتمي لقطعة أرض نعيش لأجلها ونموت لأجلها، يسوؤنا سوءها ويُسعدنا رخاؤها، ما دُمنا لا نشتكي ضُرّا بداخلها فلا يُضيرنا خراب خارجها، وإن كنا نختنق بباطنها فعبثا نأمل مددا ممن حولها.
كذبوا فقالوا حب الوطن من الإيمان، عبوديتنا لهكذا مفاهيم خاطئة ومغلوطة لا يجب أن تُورث لأولادنا، أجل، لن أعلم أولادي حب الوطن، ذاك الوطن الذي يجعلنا مسحوقين من كل الجهات، فنتغرب فيه ونُهجّر فيه ونُسرق فيه، ذاك الوطن الذي تُستباح فيه إنسانيتنا وتُغتصب فيه كرامتنا باسمه. لن أجعل قلوب أولادي النقية تتشرب حبا وهميا مزيفا يجعلهم عنصريين اتجاه كل ما يختلف عنهم ولا ينتمي لرقعتهم الجغرافية المقدسة، يجعلهم حياديين مُتخاذلين أمام كل فساد أو ظلم مادام لا يخترق حدودهم البلهاء. لن أعلم أولادي حب وطن يجعل أقصى أمانيهم يوما ما وقفة في طابور طويل أمام احدى السفارات يَستجدون بها ختما على جواز السفر للعبور لما يرونه حينها “الحياة الأفضل والأشرف”.
إذا سألني أولادي يوما ما “أبي ما الوطن..!؟”، سأخبرهم أن الوطن هو كلمة الله على الأرض، كلمة ذات معنى واحد وغاية واحدة ورسالة واحدة، وعقيدة تُعاش ولا تُقال. سأخبرهم أن الوطن مثلث اطمئنان أضلاعه راحة القلب وسكينة الروح وصفاء العقل، فيه تُصان كرامتهم وتُحفظ عقيدتهم وتَرقى قِيَمُهم. سأعلمهم أن الوطن هو قلب واحد ينتقض للظلم أينما حل ووقع، يتجرد من كل أشكال العنصرية الجهوية والفكرية والعقائدية. سأعلمهم أن الوطن قد يكون أحيانا شخصا بحضوره يختفي الجميع وبغيابه يغيب كل الحضور فأينما حل كان لنا وطنا.
سأعلمهم أن انتماءهم الأول والأخير هو “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” بها يتحقق كل انتماء سامي يُهَيَّؤهم لتطبيق المنهج الذي سطره لنا الخالق سبحانه وتعالى والذي يهدي الى السلام النفسي أولا فلا كآبة ولا انقباض ولا سقوط ولا تشتت. ويهدي لسلام مجتمعي فلا عدواة ولا بغضاء ولا ظلم ولا عدوان ولا مكر ولا كيد. لكل منكم وطن فاختاروا وطنا يليق بكم، بقلوبكم، وبعقولكم، وحين تجدوه فالزموه وموتوا لأجله فالموت في سبيله حياة.
بقلم سارة مدني