الحزن العالق والعيش بأثر رجعيّ
تاريخ النشر: 15/12/18 | 9:21قراءة في رواية ذاكرة عالقة- حسان أحمد شكاط
لا يمكن للإنسان أن يعيش دون ذاكرة، عندها تصبح حياته دون معنى ودون جدوى. الذاكرة القويّة نعمة، لكنّها هنا، في هذا العمل، تتحوّل إلى نقمة، تعرقل السير السويّ للزمن، وتعكس مساره المعهود، لتطال الشخصيّات بانفعالاتها والأحداث بتفاعلاتها. هكذا تصبح الذاكرة معنى مرادفًا للحزن، ويُصوّر الماضي خاليًا من أيّ بهجة أو فرح. هذا الخلوّ يجرّ وراءه حاضرًا قاتمًا، رتيبًا، خاليًا من أفعال تدلّ على بهجة الحياة، وبالأدقّ من أفعال تدلّ على الحياة، لتصبح حياة الإنسان كالفأر الذي يدور في دولاب فارغ داخل قفص محكم الإغلاق.
يمكن التعامل مع هذا العمل بعدّة مداخل ومحاور. سأتناول هنا، هذا العمل من محاور ثلاثة، هي:
• الغلاف السايكولوجيّ- النفسيّ الناجم عن الحزن العالق الذي يتحوّل إلى حالات مرضيّة يمكن الإشارة إليها بمفاهيم من معجم العلوم النفسيّة؛ وذلك لرصد ما يفعله الحزن القسريّ بالإنسان، كانعكاس لحالات فرديّة أو جمعيّة تنسحب على شعب أو كيان أو دولة مجسّدًا لنظريّة الانعكاس للوكاتش.
• الانقلاب في العلاقات. وهو فعل يشبه الانزياح في اللغة أو مفهوم الاستبدال، لكنّه هنا انقلاب في العلاقات المتوقّعة واستبدال الأدوار بين طرفي العلاقة.
• الموت الحاضر بقوّة في العمل، إلى درجة الطغيان، والذي يؤثّر على المحورين السابقين، ويتأثّر بهما. الموت في العمل لا يبدو النهاية الحتميّة فقط، بل ويظهر كحلّ وحيد دون وجود بدائل، لتتحوّل الذاكرة بوجوده إلى مساحة مخصّصة لأوراق النعي.
وأبدأ بالغلاف السايكولوجيّ- النفسيّ:
إذا ما دقّقنا في سلوك الشخصيّات، لا سيّما هشام الرايس وفتحي؛ فسنجدها تتفاعل داخل غلاف من الاضطراب النفسيّ، حتّى وإن لم تُذكر اضطراباتهما باسمها، أو لم يتمّ تشخيصا أيضًا. فهشام يعاني من السكيزوفرينيا أو الفصام، وهذا جليّ في ما ينعكس من سلوكه فهذا المرض مزمن يصيب صاحبه بالإعاقة في علاقاته العائلية وصِلاته الاجتماعية ويحرمه من متابعة دراساته وحتى من الاندماج في المجال المهنيّ، كما يجعل المريض منزويا في بيته وعالة على عائلته، وتتخذ حياته وحياة والديه منعطفا كله آلام وعذاب ومعاناة. والمريض المصاب يكون غير واعٍ نهائيا بمرضه ويرفض العلاج ويرى نفسه على حقّ وأن كلّ المحيط الاجتماعي خاطئ، ويعيش في عالمه الخاص وعلى هامش المجتمع”. وهذا فعلا ما ينعكس لدى الرايس في علاقاته مع محيطه: مع مديره بشير عوّاد، ومع الشاعر رياض بلهادي، ومع طيفه الهلاميّ، ومع ذاته أيضًا. وهو الذي يعاني من الأوبسيشين او الوسواس القهريّ في تعاطيه حتّى مع القراءة والأدب، أو في جمع التحف القديمة، وحتّى في علاقته مع محبوبته حياة.
فتحي يعاني من الملانخوليا وهو التعب والوهن الجسدي والنفسي، الوساوس والهواجس التي تنتابه، والخوف والهلع، والشعور بتأنيب الضمير، والتفكير بالانتحار، والإقدام عليه. كما ويزداد استعداد المريض إلى الانفعال لأتفه الأسباب، ويتحول تدريجيًّا إلى شخص آخر مهمل في ملبسه ومظهره ونظافته، وربما يحاول أن يستعرض جسده وعضلاته. كما يلازمه شعور بالاضطهاد أو البرانويا، ويتخيل أنّ الشرطة تطارده، وأنّ مَن هم حوله يكرهونه ويدبرون له أمراً في الخفاء. إن المصاب بمرض الملانخوليا أو “ذهان الشيخوخة” نهايته الجنون إن لم يقتل نفسه. وفي رصدنا لسلوك فتحي نجده مطابقًا تمامًا لهذا الوصف، وبالتالي فنحن أمام شخصيّة تعيش الاضطراب النفسيّ، وتعاني منه هي ومن حولها.
وإضافة إلى ما تقدّم، نجدهما يعانيان من الاكتئاب النفسيّ هو اعتلال عقليّ يعاني فيه الشخص من الحزن والمشاعر السلبية لفترات طويلة، وفقدان الحماس وعدم الاكتراث. وتصادفه مشاعر القلق والحزن والتشاؤم والذنب وضيق في الصدر مع انعدام وجود هدف للحياة، مما يجعل الفرد يفتقد الواقع والهدف في الحياة. ولها تأثير سلبيّ على أفكار الشخص، وسلوكه، ومشاعره، ونظرته إلى العالم فيشعر بالحزن، والرغبة في البكاء، والقلق، والفراغ، وانعدام الأمل والقيمة، وقلّة الحيلة، والشعور بالذنب، وتعكر المزاج، والألم المعنويّ، والاضطراب، وفقدان الحماسة والاهتمام بالعمل والحياة الاجتماعية، ومحاولة الانتحار أو التفكير فيه. هذا إضافة إلى الساديّة التي تنعكس في سلوك الشاعر بلهادي، ومدير التحرير عوّاد، والأب حين كان مدمنًا..
ومن ملامح من علم النفس، يقول هشام: “وأنا مستلق على أريكتي”. تذكّرنا بالجلسات العلاجيّة التي كان فرويد يجريها لمرضاه. “حاولت في العديد من المرّات أن أستشير عن حالتي طبيبًا نفسيًّا”. “ازدادت وساوسي”. زيارة الولي الصالح سيدي حمايدة الذي شفاه دلالة إلى الحاجة الماسّة في شفائه، والتي رصدها الأهل أيضًا بالفطرة والخبرة. “لم يجئني كلام آخر، عدى الهمس والهتاف باسمي، أحسست وكأنّ اللهب يحرق جسدي، تأوّهت توجّعًا، وتخبّطت كالذبيحة. “عندما تفطّنت من الكابوس الفظيع، وجدت نفسي أضرب رأسي بالجدار، أضربه بعنف كأنّني أتقاتل مع الجنّ فعلا، أتخبّط كالمجنون، يا له من موقف سخيف للغاية.”
الانقلابات في العلاقات:
الانقلاب في الزمن: في الرواية زمنان، كان من المفروض أن يسيرا بشكل مكمل. ينتهي الأوّل بينما يستمر الثاني. بفعل نقمة الذاكرة، نلمح عدّة انقلابات تقع، تخالف التوقّع، وتعاكس المنطق، وتشاكس الحياة.
نجد الزمن الماضي يتطوّر، وكلّ مرّة يستدعي هشام الرايس قصّة أو مقطعًا من قصّة وقعت أحداثها في الماضي، ليرصد انعكاساتها وتداعياتها، مقابل الأحداث التي تقع في الحاضر، وهي قليلة ولا تسير بتطوّر دراميّ حادّ يمكننا الإشارة إليه؛ وكأن الوقت في الحاضر يسير متثاقلا، لكنّه مرتهن بالماضي وإفرازاته النفسيّة. الزمن في الرواية وكأنّه يتحرّك باتّجاه معاكس. فمساحة الزمن الماضي تفوق مساحة الحاضر، وفعل الماضي يفوق أفعال الحاضر تنوّعًا وحضورًا. ففي حين يتمحور فعل الحاضر حول العمل في الصحيفة، وإصدار الزميل لروايته بصيغة جديدة، وحضور ندوات عقيمة، ولقاء المحبوبة مرّتين فقط، يطالعنا الزمن الماضي بعدّة صور، فيها محاور مشتركة، وحركيّة لافتة، وأثر عالق يمانع أن يزول.
الحياة هي امتداد باهت للزمن الماضي، لما علق منه من أحداث جرجرت نفسها وأصحابها بقوّة إلى الزمن الحاضر، لكنّها حياة جافّة، تتصارع فيها النفوس إلى درجة تحاذي الاضطراب النفسيّ العصابيّ، والهلوسة، والسكيزوفرينيا كإفراز لمشاهد من الماضي ما زالت تعتمل في النفس، لا تبارح الذاكرة. هكذا، يبدو الزمن وكأنّه يسير باتّجاه الخلف أكثر من سيره قدمًا، لتصبح الرواية معرضًا للوحات وصور من الماضي تترتّب إزاء بعضها تجمع بينها سمات مشتركة تعكس حالات الفصام، والحرمان، والذعر النفسيّ الدائم.
الانقلاب في الشخصيّات:
يقول في الصفحة الأولى واصفًا المدينة: “هدوء مخادع”. هذا الخداع نجده على طول العمل، فكلّ شيء مخادع، لا يبدو كما هو. الذاكرة مخادعة، الزمن مخادع بشقّيه: فالماضي مخادع، والحاضر مخادع لا يبشّر مستقبله بخير ولا بوضوح.. المشاعر مخادعة وكاذبة. أمّا الشخصيّات ففي معظمها إمّا مخادعة أو مخدوعة تخادع نفسها ولا تقوم بوظيفتها كما يُتوقّع منها. إنّها حالة من الإداء غير الوظيفيّ في لغة العلوم الاجتماعيّة: فالأب، إمّا سكّير عربيد، أو قاتل لذرّيته، أو محجم عن دور الأبوّة. رئيس التحرير المثقّف مثال للوضاعة والخبث والغرور بدلا من النزاهة والاستقامة والضعة. الكاتب الجريء افتراضًا مسالم إلى حدّ التسليم والاستسلام. الشاعر محتقر ومنافق ومشبوه بتواطئه مع الخاطفين. هذا القلب بالمفاهيم يولّد عالمًا مريضًا نفسيًّا غير سويّ تتصارع فيه النفسيّات، وتُفرز فيه الاضطرابات النفسيّة، ليعيش الإنسان في عالم من الحزن العالق والشعور بعدميّة الوجود، وبلا جدوى الحياة. لهذا حاول البطل- شبه البطل أن يتمسّك بالدنيا من خلال محبوبته حياة. وهي أيضًا لم تظهر في العمل حضورًا وذكرًا إلّا قليلا، دلالة على أنّ طاقة الأمل هذه لا تفي بكل الغرض؛ فالوضع المعيش أسوأ حتّى من أن يتمّ إصلاحه أو رأب التصدّعات فيه.
الانقلاب في المفهوم الإنسانيّ: سيطرة الشرّ على السلوك البشريّ، وكما عرّفها سيجموند فرويد، سيطرة غرائز المبهم- الإيد على الأنا، ودفعه إلى تحقيق رغبات المبهم. هذه الغرائز البدائيّة الآنيّة تسيطر على الزمنين: الماضي والحاضر، قديمًا وحديثًا، وكأنّ الإنسان لم يرعوِ ممّا حدث معه، فغلبه الشرّ في الزمنين. ماذا سيعلق من ذاكرته إذًا غير الحزن المتأتّي عن هيمنة الشرّ على جميع مناحي الحياة؟ ما كلّ هذا الشرّ المتراكم في تصرّفات الناس؟ أين اختفت الطيبة الافتراضيّة فيه، وتعاليم الدين، والقيم الاجتماعيّة والأعراف؟
الانقلاب في العنوان: الحديث لا يدور فقط عن إنسان يتذكّر كثيرًا لدرجة أن تكون ذاكرته عالقة، بل إنّه يتخطّى ذلك إلى حالة مرضيّة يعيشها، بل يتقوقع فيها؛ ليصبح هو نفسه عالقًا داخل ذاكرته وما يتفاعل فيها من عوالم سابقة حقيقيّة أو وهميّة. العنوان قد يكون أكثر دقّة إن صغناه ومساره، وفقًا لما جاء في المضمون، على النحو التالي: “عالق في الذاكرة” قد يكون العنوان. يقول: “بنظري الآن أنا أعيش في زمن كثر شؤمه واشتدّت قسوته، لذا فأنا أعشق كلّ شيء من زمن ولّى؛ زمن تمنّيت لو عايشت أوقاته بتفاصيلها المرحة والمثيرة” (ص 6).
الموت الطاغي:
الموت هو المشهد الطاغي في هذا العمل وعليه. ومن مشاهد حضوره: الأبّ السكّير العربيد والموت، الشيخ الذكروريّ والموت، فتحي والموت، ابن فتحي والموت، المعلّم صلجة لم يتزوّج، لم يقم أسرة، ولم ينجب ذرّيّة، الحوّاج تركته حبيبته ولم يقم أسرة، العائلة التي أبيدت، وغطّى خبر المذبحة التي ارتكبت بحقّها، يوسف شارفي الذي انتحر من أجل امرأة لم تعر موته اهتمامًا، رواية الحواج وعنوانها الخروج إلى جهنّم، قتل الصحفيّيْن فيها.
تعيدنا هذه الأجواء، خاصّة قتل فتحي لابنه، إلى مسرحيّة سوفكلس “الملك أوديب” حين أراد الملك لايوس التخلّص من ابنه، لكنّه لم يقدر أن يتجنّب قدر الآلهة، فكانت نهايته المأساويّة.
كما وتعيدنا بالزمن إلى الخلف كثيرًا، إلى ظاهرة وأد البنات، لتتحوّل إلى ظاهرة أكثر اتّساعًا، هي قتل الأبناء. يعيدنا الكاتب إلى زمن الجاهليّة والوحشيّة التي نعاني منها في عصرنا هذا، وعانت منها الجزائر إبّان المحنة.
هذا الموت الحاضر بهذه القوّة يشعل في نفوس الشخصيّات، خاصّة هشام، شعورًا بالعدميّة، ويوجّه تفكيره إلى أن لا مخرج من هذه الحياة بالسير قُدمًا.
إجمال:
محاور العمل الثلاثة تلتئم، فنجد الموت والقتل والاختطاف، ومعها الاضطرابات النفسيّة من الهلوسات التي تصاحبها الوساوس، والتخيّلات، والسير على الخطّ الهشّ بين الواقع والخيال، بين الوعي واللاوعي، والملانخوليا، والانقلابات في المفاهيم والمراكز والأدوار، على اختلافها من زمن وشخصيّات ومفاهيم أساسيّة للحياة لا تترك فسحة من أمل للشخصيّات في تخطّي العقبات التي تعترض حياتها، وفي التحرّر من الذاكرة التي تجسّد الحزن أمامها في مظاهر عيشها المختلفة، وتترك القارئ في تساؤلات حول المعاني التي يقصدها الشكّاط في هذا العمل، ومن ورائه. لكن، وكما يبدو، فالإنسان العصريّ، في عيشته الراهنة، يعاني من اقتحام الزمن لهدوئه النفسيّ، ويخنقه المكان بما يسوده من شرور طاغية، وبدلا من الرنو إلى المستقبل المنير يلتفّ حول نفسه، كدودة كافكا، ولا يجد إلّا الماضي ليهرب إليه، فيعلق هناك في الذاكرة الحزينة، تلك التي استحالت نقمة عليه، حيث يسود الحزن، ويتكسّر الزمن، ليحيى حياته بأثر رجعيّ.
ولي أربع همسات عتاب، أوجّهها إلى الكاتب. الأولى والثانية من باب “يجب”، والثالثة والرابعة من باب “يجوز”.
أ. سلامة اللغة. على العمل الأدبيّ الحفاظ على سلامة اللغة. رصدت في هذا العمل ما يزيد عن مئة خطأ؛ فهي همسة للشكاط وللمدقّق الأستاذ أحمد صلاح المهدي بمراجعة العمل.
ب. الإهداء. المعنونون الذكور مذكورون بالاسم تحديدًا، أمّ الإناث: الزوجة والأمّ فلا؛ وفي هذا إجحاف كبير وظلم ونزعة مرفوضة.
ت. مساحة العمل. يقع العمل في مساحة وسطى بين الرواية والقصّة والنوفيلا حتى. كان من الجدير بالكاتب إمّا توسيع النصّ أو تقليصه ليتسنّى له بناؤه بشكل وافٍ يوصل به كلمته.
ث. النوع الأدبيّ: العمل عبارة عن لوحات تمّ تجميعها، تضيع منها الحبكة أحيانًا. حبّذا لو أخرجها كنوع أدبيّ جديد، أو كنوع عابر للنوعيّة، لكان ذلك أجدى وأجدر.
(ألقيت هذه المداخلة في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 13.12.18)
بقلم : د. أليف فرانش