قراءة في رواية عين الغراب
تاريخ النشر: 22/12/18 | 7:29إنّها رواية عن القبح، رواية تحدث في فوّهة الجحيم، في أشرس أعماقه، قاسية بهتكها للإنسانيّة وقيمها، تقمعك بفظاعاتها، تسلب السّكينة منك وتهشّم إنسانيّتك، فتقف مشدوهًا وتتساءل: أهذا ما تبقّى فينا من إنسانيّة؟ أهناك من يعيش بمثل هذه الوحشيّة والعنف؟ أهذا واقع البعض من أبناء الوطن العربيّ؟ للأسف، لا أحد بات يستغرب ما وصلت إليه مجموعات معيّنة وأفراد من فظاعة ووحشيّة، فلا غرابة في شيء في زمن العنف والقهر هذا، لا حدود ولا خطوط حمراء لفظاعات هذا الواقع وحقاراته الوقحة.
حين تتشوّه الإنسانيّة ولا يبقى منها إلّا الجيفة تنقضّ عليها الغربان لتأكل منها. أمّا كيف تتعفّن الإنسانيّة وتتشوّه وهم أحياء؟ بالجهل؛ “الجهل هو الوجه الآخر للعبوديّة” (عبد الرّحمن منيف)، فحين يستبدّ الظّلم والاضطهاد والقمع والجوع وتسلب الحرّيّات والحياة، ولعصور طويلة جدًّا، ويعيشها أجيال ثمّ أجيال، يصبح التّخلّف والجهل واقعًا ونهجًا وأسلوب حياة، ويغدو كلُّ شيء مباحًا، فتضيع مكارم الأخلاق والقيم، وتتشوّه الحياة في فوضى من القسوة والحقد. وعندها يتحوّل كلّ هذا إلى ثقافة، هي ثقافة القمع والتّخلّف والرّجعيّة. وثقافة القمع لا تفرز إلّا المشوّهين المتحالفين مع الشّيطان، المتآمرين مع الشرّ، الحاقدين على الخير، القابعين في قسوتهم وشراسة غرائزهم المتلهّفة للقتل والأذى، إنّهم سيعيشون أمواتًا، أشباه أحياء!
وفي محصّلة كلّ هذا لم يعد غريبًا أن نرى أنّ المجتمعات العربيّة، والّتي هي من أشدّ الشّعوب تديّنًا ومحافظة وادّعاء بالتّمسّك بالدّين، أكثر الشّعوب بعدًا عن الدّين من حيث السّلوك اليوميّ؛ فشتّان ما بين التّديّن والدّين، إنّه هو هذا التّناقض الّذي يتحدّث عنه الكاتب في غلاف كتابه: “التّناقض في نفوس البشر الّذي يدمّر هذا العالم، يقودها إلى الحروب والدّمار؛ التّناقض هو الّذي يجعل المسالم الوديع ويحوّله إلى مجرم وضيع”.
وها هو الكاتب يعرّي هذا الواقع في رواية تسبر أغوار المجتمعات المتخلّفة، ويكشف خبايا الجهل الّذي يقود إلى الانحراف والجريمة والقتل والشّعوذة والسّحر واختطاف الأطفال وقتلهم وسرقة أعضائهم. فيقول الكاتب على لسان الرّاوي عن هذه البقعة من العالم: “شوارع يكسوها الملل، عيون وقحة على وجوه متيّبسة.. إنّها الحياة بثقلها ومللها، هو الجانب الآخر من هذا العالم، حيث يتوجّب عليك أن ترفع تحدّيك، فأنت في حالة نزال ما دمت على قيد الأمل. منذ نعومة أظفارنا كانت بعض العبارات المبتكرة الّتي تنخر أسماعنا من قبل صنّاع السّينما وكتّاب الرّوايات الرّومانسيّة من قبيل: “الحياة تستحقّ أن نحياها” أو “في هذا العالم ما يستحقّ الحياة”، سرعان ما صدّقنا ما أوهمونا به، تمسّكنا بالحلم الّذي ما لبث أن تحوّل إلى كابوس مرير حطّم لذّة الحياة في بقعة شبه منسيّة من هذا العالم”(ص11).
تدور الرّواية حول “فاطمة الوعلاجيّ” الّتي كوّنت من أبنائها الأربعة عصابة إجراميّة، الابن الأكبر “يزيد الرّعد” كان مختصًّا بنشل حافظات النّقود، “موح ياماها” كان مكلّفًا بسرقة السّلاسل والأقراط الذّهبيّة من النّساء. فريال تخصّصت في استدراج الرّجال قبل الانقضاض عليهم من قبل أشقّائها للسّطو على ما بحوزتهم.
أمّا الرّابع الأصغر “عين الغراب”، فقد تخصّص خلال طفولته في سرقة البيض والدّجاج من المزارع.
هكذا قادت فاطمة الوعلاجيّ أبناءها الأربعة إلى فوّهة الجحيم هذه؛ إلى عالم الأجرام والانحراف. فيزيد الرّعد أصبح “سكّيرًا متشرّدًا ينفر منه النّاس، ينام على أرصفة الشّوارع، مستسلمًا لنوم عميق أو لغيبوبة من كثرة الإفراط في الشّرب، وأحيانًا في حالة هيجان يندفع هنا وهناك ليفتك من المارّة ثمن زجاجات جعته”. كان على استعداد بأن ينقضّ على سيّدة مسنّة من أجل سرقة حقيبتها. أمّا “موح ياماها” فقد وجد مشنوقًا معلّقًا إلى شجرة زيتون بعد أن نكلوا بجثّته باستعمال السّكاكين والسّيوف وكتبوا على صدره عبارة “كلب ومات”. أمّا فريال فقد اختفت دون سابق إنذار، وقيل بأنّها قد فرّت مع أحدهم إلى وجهة مجهولة، وفي آخر أسبوع قبل رحيلها ظهرت عليها مظاهر التّرف من ارتدائها لملابس ثمينة ومجوهرات نفيسة”(ص 14-15).
أمّا عين الغراب فليس إلّا لقبًا أطلق على الابن الأصغر واسمه عاشور، أمّا لماذا دعي عين الغراب؟ فلعينه العمياء حكاية قديمة؛ كان في الحادية عشرة من عمره، كان حينها سارق دجاج وبيض، تجرّأ على اقتحام خُمّ دجاجة، وهمّ بالتقاط صغارها، فما كان من الدّجاجة إلّا أن انقضّت عليه ففقأت عينه اليمنى، ومنذ ذلك الحين حضر هذا اللّقب.
“عين الغراب” هو الشّخصيّة المركزيّة، والبطل بلا بطولة، هو البطل السّلبيّ، كان ضحيّة للفقر والجوع والجهل، لم تمنحه أمّه الأمان لحظة واحدة، كان يتسكّع في الشّوارع وهو في السّادسة من عمره، كان الجوع يدفعه ليأكل من المزابل والنّفايات، وهناك فقط عرف معنى الشّبع، لكنّه عانى عشرات المرّات من التّسمّم، كما تعرّض لعدّة اعتداءات جسديّة وجنسيّة. قست عليه الدّنيا فقرّر أن يردّ إليها قسوتها أضعافًا مضاعفة، فقد امتلأت ذاكرته المتعبة بقذارات الزّمن ومشاهد عنيفة مهينة لا تحصى، فكانت مكوّنًا أساسيًّا لشخصيّته العنيفة والعدوانيّة فيما بعد، وليمسي سكّيرًا مدمنًا منحرفًا ومجرمًا، لا تعرف الإنسانيّة إلى قلبه سبيلًا، ولطالما تلذّذ بإيذاء الآخرين، حتّى ملامحه تخلو من صور الحياة. على خدّه الأيمن ندبة قبيحة أحدثها له “علاوة ولد العرجاء”. كان يعيش في زاوية منسيّة من المدينة تسمّى “حيّ بوعباز الصّفيحيّ”، “تحمل ملامحها الكثير من علامات البؤس” (ص 31). أمّا بيته فهو “كوخ حقير”، “أقذر مكان يمكن أن يقف عليه جنس بشر” (ص31)، يحتفظ فيه ببعض أشيائه الغريبة للذّكرى، كعشرات رؤوس الدّجاج المحنّطة ظنًّا منه أنّه الانتقام الأمثل بالنّسبة لعينه الّتي اقتلعتها الدّجاجة، وأصبع كان قد بتره من يد علاوة انتقامًا منه لما أحدثه علاوة على وجهه من ندبة قبيحة، فقد جاء قرار الانتقام متأخّرًا كثيرًا وبعد سنوات طويلة من حادثة الشّجار معه. إذ باغته في ليلة ممطرة بضربة على رأسه فخرّ ساقطًا على الأرض ثمّ جرحه بسكّين في صدره وبطنه وخدّيه، وغرز السّكّين في فخذه بعنف، ثمّ أقدم على بتر أصبع سبّابته من اليد اليمنى، كلّ هذا وهو ملثّم الوجه(ص 22). كما انتقم من صاحب المزرعة الّتي فُقِئت فيها عينه، إذ تسلّل إليها وقام برشّ المزرعة بالبنزين وأوقد النّار فيها، أمّا صاحب المزرعة فقد أصيب بجلطة وفارق الحياة متأثّرًا بخسارته الماديّة الكبيرة.
هكذا يتحوّل عين الغراب إلى شيطان في فوّهة الجحيم هذه، إلى مخلوق جشع متعطّش للدّماء والقتل، لم يكن يشعر بشيء من وخز الضّمير وهو يقدم على كلّ ذلك، حتّى الكلاب والقطط لم تسلم منه؛ كان يستمتع بتعذيبها حين يقوم بغرز قضبان حديديّة في أحشائها أو إذابة البلاستيك المغليّ على النّار في أجسادها.
ولعلّ أبرز ما قام به من وحشيّة مقابل المال نبش قبري طفلين من أجل بتر يد من كلّ جثّة، ليسلّم الذّراعين لأمّه فاطمة الوعلاجيّ لتسلّمهما بدورها ليامنة بوحديس المشعوذة المحترفة الّتي يقصدها المئات من النّاس. كانت يامنة تحتاج لذراع طفل مبتورة من أجل “فتل الكسكس بها ليصبح للطّعام مفعول سحريّ، يزوّج ويطلّق ويذهب العقول ويصيب بالفقر وأشياء كثيرة لا تحصى”. فيقتل عين الغراب حارس المقبرة من أجل تنفيذ مهمّته.
أمّا الحدث الأخير الّذي أدّى إلى نهاية “عين الغراب” فهو اختطاف رحاب ابنة فريد النّوري ذات السّتّ سنوات بتحريض من ربيحة ابنة المشعوذة يامنة. تعرّفت ربيحة إلى فريد النّوري في الجامعة وجمعتهما قصّة حبّ واتّفقا على الزّواج لكنّ فريد النّوري تركها عندما أدرك أنّ أمها يامنة المشعوذة وتزوّج غيرها، فلم تغفر ربيحة له ذلك، وقرّرت أن تعاقبه. صوّرت نفسها أمام “عين الغراب” كضحيّة لفريد، وأنّه كان قد اغتصبها وأهانها، وأقنعته أن يختطف لها ابنته تأديبًا لبضعة أيام ثمّ تعيدها بعد أن تتأكّد من أنّه قد تأثّر لغياب ابنته. هكذا أوهمت “عين الغراب” الّذي أعجب بجمالها أنّ هذا هو مهرها للزّواج، وهو الّذي لم يذق طعم الحبّ في حياته. ينجح “عين الغراب” باختطاف الطّفلة بمساعدة صديقه سعيد ناموس ويسلّمانها لربيحة معتقدين أنّ الأمر لن يتعدّى بضعة أيّام. إلّا أنّ ربيحة تقتل الطّفلة ويدرك “عين الغراب” أنّها خدعته، حيث دفعت أخاها ليقتل الطّفلة ويبتر يدها لتبيعها بدورها لأمّها يامنة مقابل مبلغ من المال، وعندما يحاول “عين الغراب” أن ينتقم منها يصطدم بأخيها بوزيد فيقتله، ثمّ تباغته ربيحة ببندقيّة صيد فيهرب، وتفرّ ربيحة إلى وجهة مجهولة. يبلغ سعيد ناموس الشّرطة فيعتقل “عين الغراب” ويعترف بكلّ التّهم ويتمّ القبض على فاطمة الوعلاجيّ ويامنة بوحديس، لتنتهي الرّواية بقول الرّاوي: “تنتهي قصّة “عين الغراب” لكنّ قصّة أمثاله لا زالت متواصلة إلى أجل بعيد” (ص179).
ترصد الرّواية قضايا اجتماعيّة وسياسيّة غير أنّ هذا الرّصد ليس محايدًا كما يتكشّف لنا، فليس من الصّعب تحديد موقع الكاتب الضّمنيّ the implied author” ” من دلالة النّصّ وموقفه الدّاعم لهذه الدّلالة؛ فكثيرًا ما عبّر الكاتب بوضوح عن الأسباب الّتي أدّت إلى هذا الجحيم، أو علّق على أفعال شخصيّات روايته، كأن يعلّق على سلوك ربيحة بصوت الرّاوي: “مثير للاستغراب والدّهشة أن يجعل المرء نفسه عبدًا للجهل والانحطاط مهما بلغ مستواه الاجتماعيّ والثّقافيّ، أن يرضى لنفسه كلّ هذا الخضوع لبعض الجهلة” ( ص 167). أو أن يقول مثلًا: “للبشر نفسيّات هي مزيج من الشّرّ والخير، صراع دائم في دواخلنا، وقد يتفوّق جانب منه على الآخر.. على حسب الظّروف الّتي يتعايش معها الإنسان: إن كانت بيئة مهيّأة للرّاحة النّفسيّة والرّفاهية الاجتماعيّة فسيرتفع مستوى الخير في نفسيّته، وان كانت بيئة قاسية يغلب عليها الحرمان والظّلم والفقر، فإنّ كروموزوم الإجرام سوف يرتفع في نفسيّة الشّخص ويتحوّل إلى مخلوق عدوانيّ مستعدّ دومًا لإيذاء الآخرين، عندما تتعذّر سبل التّعبير السّلميّة فإنّ هذه الفئة من البشر سوف تخرج شحنة الكبت الهائلة على شكل أعمال إجراميّة، الإنسان بالفعل خليط متناقض ومتعسّر الفهم، حتّى المرء يصعب عليه فهم نفسه، فما بالك ألّا يفهمك المجتمع ككلّ، حتّى أقرب النّاس إليك، مثل الأسرة. هو التّناقض في نفوس البشر الّذي يدمّر هذا العالم، يقودها إلى الحروب والدّمار، التّناقض هو الّذي يجعل المسالم الوديع ويحوّله إلى مجرم وضيع”ص 123. هكذا يشير الكاتب وبوضوح إلى الأسباب والدّوافع الّتي تدفع الإنسان إلى الإجرام والانحراف، ولأنّ هذه الفقرة تشكّل ركيزة هامّة في رسالة الرّواية يجعلها الكاتب عتبة أخيرة على غلاف الرّواية الأخير. يؤكّد الكاتب أنّ الإنسان لا يولد مجرمًا منحرفًا، بل هو المجتمع الّذي يدفعه بظلمه نحو الجريمة . وهذا ما تكشفه شخصيّة سعيد ناموس الّذي كان إنسانًا طيّبًا مكافحًا لكنّه يتحوّل إلى شبه إنسان حين يدهس ابنه شمس، ابن الرّابعة، بالخطأ بشاحنته في ساحة البيت، لتتحوّل حياة سعيد إلى تعاسة تقتل صاحبها بعد أن قتل شمسه، أي أمله في الحياة، فيدخل إلى فوّهة الجحيم هو الآخر.
** من النّصّ إلى القارئ: من المعاني إلى الدّلالات في دلالة الأسماء والشّخصيّات:
تهدف هذه المقالة إلى طرح دلالة للنّصّ من خلال المنظور السّيميائيّ الّذي يرى في النّصّ علامة كبرى تتشكّل من محصّلة علاماته الصّغرى، وبهذا التّوجّه يصير كلّ معطًى من معطيات النّصّ علامة تحمل معنًى بالضّرورة، وهكذا تنتفي العفويّة أو السّذاجة على النّصّ الأدبيّ ليصير كلّ ما فيه حاملًا لمعنًى. ومن هنا فإنّ الشّخصيّات في السّرد هي أدوات تمثّل شرائح من المجتمع أو مجتمعات بكاملها أو أفكارًا وعقائد، ما يعني أنّ الشّخصيّات لا يمكن أن تتوقّف عند تمثيل ذاتها لذاتها وبذاتها لأنّها كائنات سيميائيّة في وظائفها وليست حقيقيّة في أصلها. ولهذا سنتساءل عن دلالة أبرز ثلاث شخصيّات هي: من هو “عين الغراب”؟ ومن هي “فاطمة الوعلاجيّ”؟ من هو “عيسى الميري”؟
“عين الغراب” الّذي حمل عنوان الرّواية اسمه، ليتبع بعنوان فرعيّ: “الرّجل الّذي حالف الشّيطان” هو شخصيّة فاوستيّة، حيث تنضح الرّواية منذ العنوان، أي العتبة الأولى، بأسطورة فاوست الألمانيّة. فيبدو أنّ الكاتب قد تأثّر بهذه الأسطورة ووظّفها في روايته. كان دكتور “فاوست” شخصيّة حقيقيّة، عاش في بداية القرن السّادس عشر، وانشغل بالشّعوذة، وعندما مات ميتة عنيفة نسبوا ذلك للشّيطان، وبهذا وُلِدت أسطورة فاوست وانتشرت، فتشبَّع بها الكاتب الألمانيّ الشّهير يوهان جوته واستلهمها وكتب مسرحيّته الشّهيرة “فاوست”، والّتي تدور حول رجل علمٍ باع نفسه للشّيطان سعيًا وراء المعرفة الخارقة وملذّات الحياة. ولعلّ الكاتب استلهم هذه الأسطورة في تناصّ واضح ليعبّر عمّا يحدث في الجزائر بشكل خاصّ، والعالم العربيّ بشكل عامّ، من انتشار الشّعوذة والسّحر الأسود واختطاف الأطفال والقتل والعنف في ظلّ الجهل والتّخلّف، وليس هذا إلّا صورة من صور التّحالف مع الشّيطان.
أمّا لماذا “عين الغراب”؟ وما علاقته بالرّجل الّذي حالف الشّيطان؟ فلقد ربطت الشّعوب القديمة الغراب بالسّحر والشّعوذة والموت، فأمسى رمزًا للسّحرة والدّجّالين. ولا تختلف هذه النّظرة عنها في الثّقافة العربيّة، فلقد وصفه العرب بأنّه الطّائر الأكثر انتهازيّة في مجتمع الطّيور، وهو عندهم من أشرارها، قبيح الشّمائل، طائر لؤم وآكل جياف، كما نسبوا إليه دلالات الخراب والموت والشّؤم، فيقولون: “غراب البَيْن”. ويضرب به المثل كذلك في السّواد، ليرمز لونه الأسود القاتم إلى أحوال البشر القاتمة. و”عين الغراب”: يُضرب بها المثل في الصّفاء وحدّة البصر. ولعلّ هذه الأوصاف لا تختلف حقيقة عمّا اتّصف به عاشور/عين الغراب في هذه الرّواية، وما قام به من أفعال دنيئة وتحالف مع المشعوذة يامنة، ويفسّر لنا اختيار الكاتب لهذا اللّقب كصورة لقباحة الشّكل وقباحة الأفعال، مؤكّدًا أنّه نتاج وطن قامع جعله غرابًا فاقدًا البصيرة مشوّه البصر، قابعًا بعماه المتحالف مع الشّيطان، يعيش ضريرًا فلا يرى حاضرًا ولا مستقبلًا بعد أن فقئت عينه/ رؤياه/ بصيرته في ظلّ واقعه السّوداويّ والاستبداد الظّالم، مدفوعًا ليكون مجرمًا سكّيرًا منحرفًا، وليتّصف بصفات والده “عيسى الميري”، إذ كان مثله متقلّب المزاج، سكّيرًا ويستخدم المخدّرات وحبوب الهلوسة (ص 31)، وغيرها من الصّفات الّتي تؤكّد قبح أفعاله وقسوته، ولينتهي في السّجن خلف الجدران المعتمة.
أمّا “فاطمة الوعلاجيّ” فإنّها هنا ترمز في البعد السّياسيّ إلى الوطن الجزائر، وهذا يفسّر اختيار الاسم “فاطمة”، الاسم العربيّ الّذي يحمل دلالة دينيّة إسلاميّة. كانت فاطمة امرأة ضخمة الجسد يصل وزنها أو يزيد عن المائة والأربعين كيلوغرامًا وعمرها خمسة وستّون عامًا؛ قد تكون ضخامة الجسد إشارة إلى مساحتها، فالجزائر هي أكبر بلد أفريقيّ وعربيّ من حيث المساحة، أو لعلّ هذا الوزن الّذي يصل إلى المائة والأربعين إشارة إلى الجزائر الّتي عانت من الاستعمار الفرنسيّ الّذي حطّ بثقله على أرض الجزائر لمدّة تصل إلى مائة واثنين وثلاثين عامًا، لتدلّ بذلك على سنوات استعمار الجزائر. أمّا كونها في الخامسة والسّتين من عمرها، فهو الإشارة إلى حصولها على الاستقلال عام 1962 وتحرّرها من براثن الاستعمار في الثّورة التّحريريّة. وكأنّ الكاتب يشير بعمرها إلى تاريخ ولادة الجزائر من جديد ونيل استقلالها. وقد يكون عدم اختيار الأعداد الدّقيقة من باب التّمويه والالتفاف حول المعنى والاحتماء بالغموض غير الصّريح.
ولما أكّد الكاتب أنّه إذا كانت البيئة قاسية ويغلب عليها الحرمان والظّلم والفقر فلا بدّ أن تلد هذه البيئة المجرمين والقتلة والمنحرفين، هكذا تتأثّر فاطمة/ الجزائر بما عانته وحملته من خراب وويلات من الاستعمار على جسدها، لتكون نتاجًا لويلات الاستعمار. وقد تكون ولدت بفرح الثّورة، لكن كيف لها أن تولد نقيّة من كلّ عنف وجرم، وتتطهّر مباشرة من كلّ ما تركه الاستعمار على جسدها وفي وعيها من آثار وويلات وهي الّتي عاشت عقودًا وسنوات طويلة جدًّا تحت براثنه؟! ولعلّ هذا ما يفسّر وصف الكاتب لها بأنّها قضت عددًا من سنوات عمرها في الإجرام والسّجون. أو لعلّه يقصد أنّها الجزائر الّتي تآلفت مع الاستعمار، وحول هذا سنسهب لاحقًا، أو أنّه يتّهمها بأنّها الجزائر الّتي تحوّلت هي الأخرى بسلطتها الوطنيّة إلى صانعة للإجرام محوّلة أبناءها إلى قتلة وعصابة إجراميّة، يعيشون في ظلّ الحرمان والفقر والجوع والانحراف، فتظهر آثار الاستعمار السّلبيّة على الأجيال اللّاحقة (عين الغراب)، ثمّ ما تنتجه من مجتمع متخلّف جاهل ينهشه الدّجل ويسرق الفقر أبناءه، ليعيشوا في ظلّ ثقافة القمع والتّخلّف والعنف، فليس من السّهل التّطهّر منها بهذه السّرعة بعد الاستقلال. هذا إضافة إلى إمكانيّة تحوّل الأنظمة الوطنيّة بعد الاستقلال إلى أنظمة مستبدّة قامعة تنتهج أساليب الاستعمار والمستعمِر نفسها في قمعها، فتحوّل سجون الاستعمار إلى سجون لها.
فإذا كان “عين الغراب” وأخوته محصّلة هذا الوطن، فإنّ الأمّ “فاطمة الوعلاجيّ” هي هذا الوطن المتّهم بدفع أبنائه إلى الجريمة، وهذا ما نبع من وصف الرّواية لها بأنّها قادت أبناءها الأربعة إلى عالم الإجرام والانحراف وعلّمتهم وخطّطت لهم مهامهم الإجراميّة ليأتوا إليها بالمال. ووفقًا لمعطًى آخر يؤكّد الإشارة إلى الجزائر هو َأنّ فاطمة أنجبت أربعة أبناء، والجزائر في اللّغة العربيّة جمع لجزيرة، حيث تشير إحدى روايات سبب تسميتها بأنّ ذلك يرجع الى القرن السّادس عشر حيث كانت مكوّنة من أربع جزر مشرفة على ميناء الجزائر القديم في العاصمة، ثمّ أصبحت أرضًا واحدة تعرف بالجزائر اليوم. ولعلّ ضخامة جسدها تشير إلى هذه الجزائر الّتي تعتبر اليوم أكبر الدّول العربيّة من حيث المساحة، والدّولة العاشرة في العالم، كما ذكرنا سابقًا. ولعلّ هذا يفسّر لماذا سمّى الكاتب “عين الغراب”، الابن الوحيد الّذي تبقّى لها من أبنائها الأربعة (الجزر الأربع) باسم “عاشور”، ومعنى عاشور العاشر من محرّم، فلعلّ الكاتب أراد العدد عشرة هنا. وهذا ما يؤكّده قول الكاتب: “عاشور”، “عين الغراب”، هو الابن الشّرعيّ الوحيد والّذي أنجبته “فاطمة” في إطار زواج بعقد مدنيّ؛ أمّا أبناؤها الثّلاثة الّذين سبقوه فقد أنجبوا قبل الزّواج، أي الجزائر الّتي كانت تتكوّن من أربع جزر ثمّ أصبحت الجزائر واحدة الّتي نعرفها اليوم، وكأنّ عاشورًا/ عين الغراب هو محصّلة هذا الوطن وهو خلاصة أجياله وما يعانونه فيه.
إنّ هذه الدّلالة لا تنفي إمكانيّة اقتراح دلالة أخرى أبعد هي أنّ فاطمة بجسدها الهائل رمز للعالم العربيّ كلّه، خاصّة أنّ ما أشرنا إليه من استعمار وظلم وحرمان، ومن دلالة الاسم العربيّ فاطمة، وتحوّل الأنظمة الوطنيّة إلى أنظمة شبيهة بأنظمة استعماريّة لشدّة قمعها واستبدادها، كلّ هذا قد ينسحب على هذه الدّلالة أيضًا ولا ينفيها.
إذًا فاطمة هي رمز للوطن المشوّه بالسّلطة وقمعها وظلمها، ليمسي الوطن “الأرض اليباب”؛ ففي هذا الزّمن لم يعد الوطن العربيّ ذاك الرّحم الدّافئ، الملجأ، المكان الحميم، بل أصبح مكانًا معاديًا ينخره الخراب والتّخلّف، حتّى بات المواطن يسأل عن مفهوم الوطن، وعن مدى علاقته به. إنّ هذه الأوطان لم تعد تشكّل حماية لأبنائها أو تهتمّ بهم، لذا لم تذرف فاطمة دمعة واحدة على موت ابنها أو اختفاء ابنتها، لم تبحث عن ابنها البكر، كما لم تقم العزاء بعد وفاة زوجها عيسى الميري. قدّم لها أبناؤها الكثير من المال، تمامًا مثلما يقدّم المواطنون لوطنهم الكثير، لكنّها لم تقدّم لهم الرّعاية أو الحنان أو الاهتمام بتقديم أبسط الحقوق، فعين الغراب لا يذكر أنّها اهتمّت لأمره كثيرًا، ولذا لم ينادها بأمّي ولو لمرّة واحدة، بل كان يتوجّه إليها باسمها فاطمة. حتّى العقوبات الّتي كانت تنفّذها بحقّ أبنائها تؤكّد أنّ فاطمة لا تمثّل نفسها، ولا تمثّل الأمّ في علاقتها مع أبنائها، بل تمثّل علاقة دولة بمواطنيها، فقد كانت تعاقبهم بأساليب التّعذيب الّتي يمارسها السّجّانون في السّجون لمعاقبة المخالفين المجرمين أو المعارضين للأنظمة، كالكيّ بالنّار في كامل أنحاء الجسد أو الحرمان من الأكل يومًا كاملًا أو التّجريد من الملابس في برد الشّتاء، فلا يمكنه أن ينسى يومًا كيف كانت تخضعه لجلسات تعذيب بالكيّ في أماكن مختلفة من جسده عقابًا له لما أنفقه من مال. أمّا هي فاطمة، فقد كانت تنفق كلّ الأموال على الحلي الذّهبيّة الّتي تزيّن كامل جسدها المترهّل. وهذا كلّه يؤكّد أنّها الوطن بسلطته الوطنيّة وظلمها الّتي تسلب المال والخيرات وتحتكرها لنفسها وبالمقابل تجوّع أبناءها فيسرقون ويقتلون ويخطفون الأطفال ليأكلوا ويبحثوا عن خبزهم، ويسلكون طريق الانحراف ليهربوا من واقعهم هذا، ويلجؤون إلى عالم الغيب والسّحر والشّعوذة علّها ترزقهم مالًا وسعادة وبعض حياة.
إنّ حضور الحكّام الطغاة- كفاطمة- هو الّذي يسلب الحياة ويخزق العيون فيعميها حتّى لا ترى ما حولها فتصبح أعينًا ضريرة غارقة في ظلمة اللّيل الأبديّ (عين الغراب)، ولأنّها تعيش في سواد- ولنتذكّر لون الغراب الأسود- لن تستطيع رؤية النّور. إنّ الطغاة هم الّذين يحوّلون بني البشر إلى غربان تنهش بعضها، إلى عميان لا يبصرون المحبّة في نفوسهم لأنهم جياع إلى الخبز والحياة، فيكفرون بالأخلاق والقيم والإنسان، يكفرون بكلّ شيء.
أمّا عيسى الميري، فيصفه الرّاوي: “لا عائلة له”، “متشرّد”، “سكّير”، منحرف”(ص 15)، “ربته الشّوارع والحانات”، “اكتسب لقب الميري من عالم الإجرام والسّجون”، “يتّصف بالنّذالة وانعدام المسؤوليّة”، “عنيفًا للغاية ومتقلّب المزاج”، “غاب طويلًا عن عائلته”، “يوصف بقلّة الحضور والغياب الطّويل جدًّا جدًّا” (ص 131-132). تعرّف إلى فاطمة حين أنقذها من يديّ رجل حاول مغازلتها، فجمعتهما منذ تلك اللّحظة علاقة حبّ دامت سنوات طويلة، أنجبا خلالها ثلاثة أبناء خارج إطار الزّواج، وقرّرا أخيرًا الارتباط، ساءت العلاقة بينهما، حتّى قتل على يد شخص مجهول بعد أيّام قليلة من إنجابها آخر أبنائها عين الغراب (ص 15)، (علمًا أنّ الكاتب كان قد ذكر في موضع آخر من الرّواية أنّ “عين الغراب” حين كان طفلًا يخطو خطواته الأولى كان قد شاهد حادثة ظلّت راسخة في الخيال، هي حادثة تعذيب والده عيسى الميرى لرجل جرّه إلى بيتهم، وأخذ يعذّبه ساكبًا على ركبتيه الماء المغليّ لأنّه وجد بحوزته صورة لفاطمة معه” (ص 132-133)؛ فنتساءل: كيف يذكر الكاتب أنّ عيسى الميري يموت بعد أيّام قليلة من إنجاب فاطمة لعين الغراب في موضع، وفي موضع آخر يسرد لنا الرّاوي ما ظلّ راسخًا في ذاكرة عين الغراب من هذا المشهد؟! هل يعقل أنّ طفلًا في أيّامه الأولى من حياته يبصر ويعي ما يبصره ثمّ يتذكّره؟ لا شكّ أنّ هذا يدلّ على ضعف في الحبكة، وعلى إحدى تناقضاتها الّتي سنذكرها لاحقًا).
وبعد كلّ هذا الوصف، نتساءل عن قصد الكاتب بعيسى الميري؟ وما هو معنى “الميري”؟ تعني “الميري” باللّغة التّركيّة “الضّريبة”، حيث كانت ضريبة “الميري” في لبنان والشّام تعني الضّريبة الّتي فرضت على الأراضيّ الأميريّة في العهد العثمانيّ، و”مير” في اللّهجة اللّبنانيّة هو التّعبير العاميّ لكلمة “أمير” بالعربيّة الفصحى. أمّا في اللّهجة المصريّة فتعني البدلة الرّسميّة: “فلان يلبس ميري أي يلبس بدلة عسكريّة رسميّة” أو اللّباس الرّسميّ، أو الشّخص الّذي يلتحق بالخدمة العسكريّة. ولقد شرحها الكاتب يوسف زيدان في كتابه “كلمات.. التقاط الألماس من كلام النّاس” (2011)، فيقول: “كانت عمليّة نزع القمح من مصر وإرساله إلى روما أو القسطنطينيّة تعرف قديمًا باسم عمليّة نقل الميرة، وهي على الأرجح كلمة فارسيّة قديمة تعني القمح. ولأنّ نقل القمح (الميرة) كان يتمّ تحت إشراف جنود الحامية الرّومانيّة، اقترن الجيش في أذهان المصريّين بالميرة، وصار الّذي يلبس الزّيّ الرّسميّ للجيش يقال إنّه يرتدي “الميري” (ص 75- 77(. ولعلّ ربط الميرة/ القمح بالجنود الرّومان في تلك الفترة هو ما انتشر في اللّهجة الجزائريّة أيضًا ليدلّ على من يلبس الزّيّ العسكريّ.
فإذا افترضنا أنّ الاسم “الميري” له دلالة عثمانيّة فما علاقة عيسى بالعثمانيّين؟ كيف يمكن أن نربط “الميري” مع “عيسى”؟ إنّ عيسى ليس اسمًا خاصًّا بالعثمانيّين ولا يحمل أيّة دلالة خاصّة توحي بهذا المعنى. ومن جهة أخرى، إذا افترضنا أنّه يرمز لمن يلبس بدلة عسكريّة، فمن هو المقصود بذلك؟ هل يقصد جيشًا معيّنًا؟ ثمّ ما معنى هذا الرّبط بين “عيسى” و”الميري”؟ أيّة علاقة قد تربط بين الاسمين؟ إنّ الرّبط الوحيد المعقول بين الاسمين والّذي له ما يؤكّده في الواقع، وهو التّفسير المنطقيّ الأقرب لدينا هنا، أنّه “عيسى بن مريم “، فميري مشتقّ من اسم “مريم” وهو صيغة من صيغه. و”عيسى بن مريم” هو المسيح؛ هو اسم المسيح الوارد في القرآن، والاسم الشّائع عند المسلمين. إذًا، لا بدّ للقارئ أن يتساءل: لماذا “عيسى بن مريم” بالذّات؟!
لقد ذكرت سابقًا أنّ التّوجّه السّيميائيّ ينفي العفويّة على النّصّ الأدبيّ. وهنا، وللأسف، يفرض عليّ هذا النّصّ، ولا يترك لي المجال إلّا أن أفكّر بأنّ الكاتب قد قصد بإحدى دلالات هذا الاسم المنحى الدّينيّ، ويعني به “عيسى الميري المسيحيّ”. وهذا يرشد القارئ إلى أبرز المفاتيح الضّروريّة في تأويل هذه الدّلالة، والّذي أصرّ الكاتب على تكرارها، بأنّ “عيسى الميري” تزوّج “فاطمة الوعلاجيّ” بعقد مدنيّ، وأنّهما قد أنجبا خارج الزّواج ثلاثة أبناء ثمّ تزوّجا بعقد مدنيّ. فنتساءل: لو أراد به شخصًا مسلمًا اسمه “عيسى” مثلما يسمّي المسلمون أبناءهم، لِمَ تزوّجا بعقد مدنيّ ولم يتزوّجا بعقد قران شرعيّ كما ينصّ الدّين الإسلاميّ؟ ولِمَ ينجبان ثلاثة خارج الزّواج؟ لِمَ يصرّ الكاتب على هذه المعلومة؟ ليس من باب الصّدفة كان هناك هذا التّركيز على الزّواج بعقد مدنيّ وبإنجاب ثلاثة خارج الزّواج، لنتساءل: هل هذا ما يريده الكاتب؛ أن يمنح بعدًا دينيًّا لدلالته؟ لا يمكن للكاتب أن يدّعي بأنّه منح اسم “عيسى الميري” لهذه الشّخصيّة صدفة وبشكل عفويّ ودون أن يرمي من ورائها رسالة أو مقولة يريدها تتعلّق بهذا المنحى الدينيّ. ثمّ، إذا حاولنا الرّبط بين ما ذكرناه سابقًا من معنى الميري: البدلة العسكريّة مع معنى عيسى بن مريم المسيحيّ، فإنّنا قد نصل إلى الدّلالة الأقرب منطقيًّا لربطها مع فاطمة الوعلاجيّ، ونقصد هنا أنّ عيسى الميري هو الاستعمار الفرنسيّ على الجزائر حيث حاولت فرنسا، والّتي كانت تطمح إلى استعمار الجزائر ، التّرويج بأنّها حامية للدّين المسيحيّ مقابل الدّولة العثمانيّة الإسلاميّة الّتي كانت الجزائر تتبع لها كباقي الدّول العربيّة، وأنّ انتصارها على الجزائر هو بمثابة انتصار للمسيحيّين على المسلمين، إلّا أنّ الأطماع الفرنسيّة تمحورت بالدّرجة الأولى حول غنائم مادّيّة اقتصاديّة سعيًا للسّيطرة على خيرات الجزائر وسلبها. ثمّ ما معنى أنّه أنقذها وأنّهما تزوّجا بعد علاقة حبّ؟ إنّ هذا يؤكّد ما توصّلنا إليه حول العلاقة بين فاطمة/ الجزائر وبين عيسى الميري/ الاستعمار الفرنسيّ، أي نقصد أنّ الجزائر بسلطتها كانت قد تحالفت مع فرنسا قبل الاستعمار(الزّواج)، حيث تمكّنت فرنسا من توطيد علاقاتها الدّبلوماسيّة مع الدّولة الجزائريّة، الأمر الّذي وسّع دائرة مطامعها في البلاد، لتركّز أنظارها على الخيرات الاقتصاديّة مبرمة اتّفاقيّات كثيرة معها. وهذا ما يؤكّده معطًى آخر في النّصّ ويفسّره، وهو إعجاب عيسى الميري بفاطمة المرأة (الإعجاب بخيراتها في البعد السّياسيّ)، لتجمعهما علاقة حبّ دامت سنوات طويلة أنجبا خلالها ثلاثة أبناء قبل الزّواج، وعين الغراب بعد الزّواج بعقد مدنيّ، حتّى ساءت العلاقة بينهما (هذه إشارة إلى احتلال فرنسا للجزائر بعد حدوث أزمة كبيرة بين الدّولتين انتهت بحادثة المروحة ثمّ الحصار البحريّ، وأخيرًا الاحتلال الفعليّ)، حيث بدأ يغيب عن البيت ويحضر في فترات متباعدة لينال منها مبلغًا من المال (الاحتلال) (ص 99- 100)، حتّى قتل وتخلّصت منه (إنهاء الاحتلال).
أمّا علاقة ذلك بعين الغراب، فعين الغراب هو الابن الشّرعيّ، النّتيجة الحتميّة لهذا الاستعمار، ولهذا نعود لنذكّر بما ذكرناه سابقًا بأنّ عين الغراب كان يشبه والده في كثير من الصّفات. إنّ عين الغراب هو قبح الشّكل والفعل والسّلوك الّذي من الممكن أن يتكوّن في داخل النّفس البشريّة بعد طول الاحتلال والاستعمار والنّهب والقتل والعنف. فماذا سيلد الاستعمار غير هذا المشوّه مثل عين الغراب (الاستعمار الفرنسيّ= عيسى الميري) والقمع (قمع فاطمة واستبدادها= الحكومة الجزائريّة الّتي تآلفت مع المستعمر ظنًّا منها أنّه “سوبرمان الأسطوريّ” ص 132، “المنقذ الّذي أنقذها من رجل آخر”(دولة طامعة أخرى)، فغاب عنها ما يخفيه من مطامع استعماريّة اتّجاهها، أو لعلّه يقصد: إنّ الحكومة الوطنيّة القامعة هي حكومة مستعمرة لبلدها وشعبها.
أمّا المعطى الآخر هو الحدث الّذي سرد في الرّواية حول معرفة عيسى الميري بأمر صورة قديمة لزوجته فاطمة مع صديق لها من أصدقائها المنحرفين منذ أن كانت تعمل في الحانة، حيث التهبت نيران الغيرة في قلب الميري- وهو الّذي لم يكن يهتمّ بفاطمة بعد الزّواج منها- فأتى بالرّجل إلى البيت وأخذ يعذّبه عذابًا شديدًا مهدّدًا حياته بالموت، فحاول الرّجل أن ينفي أيّة علاقة تربطه بفاطمة بعد أن ارتبطت بعيسى الميري(ص 132-134). ولعلّ هذا الرّجل الّذي غضب منه عيسى الميري ليس إلّا إحدى الدّول المتعدّدة الطّامعة في احتلال الجزائر، ولعلّها الأطماع البريطانيّة على وجه الخصوص. فغيرة عيسى الميري (الاستعمار الفرنسيّ) كانت بسبب الخوف على مصالحه الاستعماريّة من منافسة أيّة دولة أخرى قد تنازعه على استعمار الجزائر. أمّا المعطى الآخر والّذي يؤكّد أنّ عيسى هو الاستعمار ولا يمثّل نفسه هو أنّها لم تقم أيّامًا للعزاء حين مات مقتولًا، خلافًا للعادة المعروفة حين يتوفّى أحد ما. والقتل هنا يشير إلى التّخلّص من الاستعمار الفرنسيّ، والّذي قد تمّ بعد ثورة التّحرير، “قُتل” ولم يمت ميتة عاديّة. وهكذا فإنّ متابعة الشّخصيّة في النّصّ السّرديّ في محصّلة علاقاتها العامّة والمتداخلة والمتقاطعة مع بقيّة معطيات النّصّ واعتبارها سيميائيّة تمثيليّة هو ما يؤكّد هذه الدّلالة. وبناء على هذا لا يمثّل عيسى الميري نفسه.
لم أكن لأخالف الكاتب فيما قدّمه من دلالة حول فظاعة الاستعمار الفرنسيّ وشراسة سلبه لبلد خلال سنوات طويلة جدًّا، محتلًّا ليس الأرض فقط، بل الإنسان وكلّ ما فيه من مقوّمات الحياة الكريمة. لكنّي أختلف مع الكاتب فيما أخذ إليه نصّه من منحى دينيّ باستخدامه لاسم “عيسى الميري” تحديدًا دون غيره من الأسماء، وبمثل هذه المعطيات الّتي قدمها، والّتي أرفضها لتداعياتها ولما تحمله من أفكار، وأقصد هنا استخدام عيسى الميري، عيسى بن مريم، للدّلالة على الاستعمار الفرنسيّ الغربيّ للجزائر، وهذا الرّبط بين هذا الاستعمار والدّين المسيحيّ. فإن كان هذا الاستعمار قد حاول أن يروّج لوجود دوافع دينيّة مسيحيّة، إلّا أنّنا نعلم حقّ المعرفة أنّ الدّوافع هي بالدّرجة الأولى والأخيرة دوافع اقتصاديّة مادّيّة ولا علاقة للدّين بذلك، فلماذا هذا التّوجّه؟ هل يحاول أن يتّهم بأنّ هناك هجمة صليبيّة جديدة ذات أهداف دينيّة على الوطن العربيّ؟! لماذا هذا الإصرار على مزج الدّين بمطامع سياسيّة اقتصاديّة مادّيّة؟! لِمَ كرّر الكاتب هذه المعطيات النّصيّة وجعلها موتيفًا، موضوعًا دالًّا، يجد القارئ نفسه مدفوعًا للتّفكير به. إن كنت أيّها الكاتب تقصد بأنّ ويلات الشّعوب العربيّة في قسم منها يعود إلى الاستعمار السّياسيّ الغربيّ ذي المطامع الاقتصاديّة، فسمّ اسما آخر غير “عيسى الميري”، استبدله باسم أجنبيّ آخر دون إيحاءات دينيّة، حتّى لا تفسّر بأنّك توجّه إصبع اتّهام يشبه اتّهام من يروّج أنّ هناك حملة صليبيّة جديدة، وأنّ ما يحدث من علاقات بين الدّول العربيّة والغرب ما هو إلّا هجمة مسيحيّة جديدة على المسلمين، (وهذا يتوافق مع التّفسير الّذي اقتبسناه من كتاب الكاتب يوسف زيدان والرّبط بين الميرة/ القمح وجنود الرّومان)، متغافلًا عن المطامع السّياسيّة الحقيقيّة، مركّزًا على الجانب العاطفيّ عند الشّعوب المحافظة وذلك حين يحصر المسألة بدوافع دينيّة؛ وحتّى لا تتّهم بأنّك تتّهم المسيحيّين بالانحراف والرّذيلة والخراب بإصرارك على تكرار أوصاف مثل: “سكّير منحرف يرتاد الحانات” وربطها بشخصيّة تحمل هذا الاسم الدّينيّ. فإن سُمح للمسيحيّين بالقليل من الخمر فإنّ هذا لا يعني أنّه دين يدعو إلى السّكر والانحراف. حتّى تكرارك للفكرة إنجاب ثلاثة دون زواج كانت فيه مقولة ما؛ كأنّ هذا ما تدعو إليه المسيحيّة؟! إنّ المسيحيّة ترفض الزّنا، كما ورد في الوصايا العشر: “لا تزنِ”، ولعلّ هذا يدلّ على الخلط بين مفاهيم ثقافيّة اجتماعيّة يعيشها الغربيّون في الغرب، فيعيشون معها متصالحين، فاصلين الدّين عن الحياة الدّنيويّة والدّولة، محترمين حرّيّات الآخرين وحقوقهم، وبين ما ينصّ عليه الدّين كدين. إنّ الخطأ هنا، برأيي، استخدام هذا الاسم تحديدًا، خاصّة في ظلّ ازدياد التّطرّف والتّعصّب الدّينيّ، وفي ظلّ التّيّارات الإسلاميّة المتشدّدة المتطرّفة، والّتي تجد ما يغذّيها من جهل وحرمان وفقر في الوطن العربيّ، ويفتح لها آفاقًا رحبة ليعيثوا فسادًا في الأرض وما تبقّى من أشلاء أوطان من جهة، ولتحتفي بها الأنظمة لأنّ المواطن العربيّ الجائع إلى الحياة والخبز والكرامة سيلتهي بها ويبتعد عن طلب حقوقه من جهة أخرى.
إنّ مشكلة العربيّ ليست مع المسيحيّة والمسيحيّين، مشكلة العربيّ مع الاستعمار الغربيّ بأهدافه السّياسيّة لا الدّينيّة، فكيف يكون المسيحيّ مشكلة وهو حزء لا يتجزّأ من الوطن العربيّ، العربيّ في قسم منه هو المسيحيّ، وهو جزء لا يتجزّأ منه. إنّ القوميّة العربيّة لا تشمل المسلمين فقط، بل هي تشمل المسيحيّين والدّروز. وشتّان ما بين القوميّة والدّين، وبين التّديّن والدّين. فلنترك الدّين وليبق في إطار الاعتقاد الشّخصيّ وحرّيّة العقيدة! فلنتركه حتّى لا نفترق ولا نفرّق! فلنتركه بعيدًا عن أيّ عمل سياسيّ! لنفصل الدّين عن الدّولة والسّياسة، وليمارس كلّ شخص حرّيّة عقيدته وإيمانه كما يشاء، ودون أن يؤذي الآخر المغاير له. فطالما أنّه لا أحد منّا يختار حين يولد: لا والديه، ولا دينه، ولا مكانه، ولا زمانه، ولا اسمه الشّخصيّ حتّى، فلماذا يشعر البعض بأفضليّة على غيرهم المختلفين دينًا؟ ليس لإنسان أفضليّة على غيره إلّا بأخلاقه وأفعاله، وما كسبت يده، وما قال لسانه، وما فكّر وعيه. إنّ الشّرّ في نفوس البشر، أمّا الدّيانات فجاءت بهدف تقويم بني البشر ونزع الشّرّ من نفوسهم والدّعوة إلى المحبّة والرّحمة والتّسامح، فلا يكون المسيحيّ شرّيًرا لأنّه مسيحيّ، ولا يكون المسلم شرّيرًا لأنّه مسلم، بل لأنّه إنسان، لأنّ نفسه الإنسانيّة نزعت منها الخير واستبدلته بالشّرّ. ولذا، أتمنّى حقيقة أن يكون النّصّ بهذا المعطى قد أفلت من قبضتك فحمل معاني لم تردها ولم تقصدها.
أمّا على صعيد الأسلوب والشّكل فإنّ عين الغراب هي رواية تستفزّ القارئ مثلما تستفزّه على صعيد المضمون. لقد تحدّث الشّكليّون الرّوس عن الفرق بين الحكاية، وهي مادّة النّصّ ومضمونه، وبين الحبكة وهي أدوات الحبك والرّبط، وهي الأدوات الفنّيّة والأسلوبيّة والبنيويّة والبلاغيّة الّتي يوظّفها الكاتب ليجمع بها الحدث إلى الحدث، أو الجملة إلى الجملة، أو الشّخصيّة إلى الشّخصيّة. وللأسف عين الغراب كانت ركيكة الحبكة إلى حدٍّ ما، ضعيفة، وكنّا قد أشرنا إلى معطى نصّيّ أورده الكاتب بشأن موت عيسى الميري كان قد أظهر هذا الضّعف في الحبك والرّبط. كما أنّها كثيرة الأخطاء بشكل مستفزّ، فما لا يقلّ عن مئة وستّة أخطاء لغويّة وإملائيّة ونحويّة، كأخطاء في كتابة الهمزة، تعريف كلمة غير، عدم حذف حرف العلّة عند الجزم، تنوين الممنوع من الصّرف، هذا عدا العبارات الرّكيكة غير التّامّة وبصياغة ضعيفة، ثمّ ضعف التّسلسل والتّرابط المنطقيّ بين فكرة وأخرى، ثمّ تكرار عدد من العبارات والأفكار على طول الرّواية، إضافة إلى تكرار استخدام كلمة “جدّ” بتأثير اللّغة الفرنسيّة في موضعها غير المناسب، فبدلًا من أن يكتب: “مناسب جدًّا”، “وفيرة جدًّا”، كتب: “جدّ مناسب”، “جدّ وفيرة”، وهذه الصّياغة تكرّرت مرّات كثيرة، وغيرها من الملاحظات والأخطاء. ولذا تحتاج الرّواية إلى تنقيح ومراجعة ضروريّة أخرى.
*** نصّ المداخلة الّتي ألقيت في حيفا بتاريخ 13.12.2018 في نادي حيفا الثّقافيّ.
بقلم د. لينا الشيخ حشمة