ممكنات التأويل تَوَقل إلى عوالم الشاعر إبراهيم مالك
تاريخ النشر: 27/12/18 | 11:02صدر عن مطبعة سما معليا، كتاب (ممكنات التأويل… قراءة وحوار في تجربة الشاعر إبراهيم مالك) للكاتب الناقد سعيد العفاسي، لوحة الغلاف للفنانة التشكيلية رانية عقل، وقد تكلف بتصميم الغلاف الفنان أحمد فارس، تضمن الكتاب أربعة محاور:
(سيرة ذهنية تعنى بالقلق الوجودي.)، (الشاعر إبراهيم مالك، ممكنات التأويل. (التَّوَقُّل إلى محراب الشعر)، (أثر البحث والسؤال عن الدهشة. قراءة في ديوان: (فاطمة! من تكونين؟). (الشعر نبضي (قصائد الشاعر إبراهيم مالك).
يعتبر ابراهيم مالك، من أبرز الكتاب الذين جايلوا محمود درويش وسميح القاسم، وهو كاتب وشاعر فلسطيني من مواليد 1942، وُلِدَ في قرية ” سمخ “الفلسطينية المُهَجَّرَة والمُدَمَّرة، أبوه من الجزائر وأمُّهُ من تونس. كثيرًا ما أكَّدَ أنه وليد ثقافتين عربيَّتين ـ إسلامِيَّتيْن، مَغْرِبيَّتيْن ـ شرقيَّتيْن وتأثر كثيرًا بفكر وشعر رموزهما كأبي بكر بن الطفيل وابي العلاء المعرّي ومحمد ابن العرب وعمر الخيام وابن الحلاّج، ووليد الثقافة الإنسانية مُتَعَدِّدَةِ البيئات، في سنوات الطُّفولة المُبَكِّرَة عاش في مدينة حيفا، حيث عمل والده، وفي عام الترحيل ـ 1948ـ وصل مع عائلته إلى كفريا سيف ولا يزال يعيش هناك، وفيها أنهى الدراسة الابتدائية والثانوية، وفي عام 1964 وصل إلى برلين الألمانية للدراسة الجامعية وبدأت تتَّسِعُ ثقافته الإنسانية.
أصدر 11 مجموعة شعرية منذ 2002 وحتّى 2015، وأصدر ثلاث مجموعات شعرية، هي قصائد مختارة، كما وأصدر خمسة أعمال نثرية، عضو هيئة التحرير بمجلة (ميس للثقافة العقلانية) من تشرين 2009 حتى حزيران 2015ن رئيس تحرير مجلة (كِتابنا كُتابنا) من سنة 2015 الى اليوم.
يقول الكاتب الناقد سعيد العفاسي: كثيرا ما استوقفتني الانتاجات الأدبية للشاعر الأديب إبراهيم مالك كثيرا، وفي كل مرة أمعن القراءة والتأويل، محاولا فهم سياق ما يكتبه، وفي أحايين عدة كنت أخرج بخفي حنين، وأقول في نفسي الأمارة بالبحث والتقصي، كيف السبيل الى سبر أغوار هذا الرجل الذي اشتعل رأسه شيبا؟ حتى أينعت حدائقه شعرا وأدبا، حري بنا قراءته وفهم سياقاته المتنوعة، لأنني بكل بساطة لم أكن أعرف جيدا من يكون – إبراهيم مالك-، لذلك جعلت من كل لقاءاتنا – رغم قلتها – مشتلا لنثر بعض الأسئلة والنقاشات التي يمكن أن تساعدني، أسئلة قلقة، إشكالات مستفزة، مسالك وعرة محفوفة بمطبات السياسة والدين والأدب والفن والأخلاق والمعارف الأخرى. ورغم ذلك بقي في نفسي شيء من حتى، لم أبلغ فيه المراد – ولن أبلغه-، ولم أشف فضولي المعرفي الذي كان يقودني إلى المزيد من الإدراك والقول المنفتح على تجربته الحياتية والشعرية، فقررت بمساعدته أن نبني جسرا بطوب الأسئلة وأن نرصفه بالتشوف إلى مسيرته، والبحث عن الهوامل التي عصفت بها العوارض الجانبية، من خلال ابراز شوامل معرفية قمينة بفهم ما يدور في فلك كتاباته، وعالمه المتخيل، وبغيته، واكراهاته، بل رؤيته لما يجري ويدور.
نشر إحدى عشر ديوانا، ولا يزال يبحث عن الشمس والقمر، مستعينا بذلك على القراءات المنفتحة ” في انتظار أن تأتي “، ولا يكل في اعادة صياغة بحثه عن إشكالية (صمويل بيكيت) في انتظار (غودو) حيث بدأ يعزف ” نشيد حُب لفاطمة ” لكي يؤنس غربته المقنعة، ويبدد وهم القلق الذي يحاصره، ويدفعه لنثر” عطر فاطمة ” ليضوع في كل أرجاء وجدانه الشعري، لكي يثبت بأنه ” لا أزال أعيش حُلُمي ” ولن تفل عزائمه غير ” رؤيا ” تقوده إلى يقين الحب والشك، حب فاطمة، والشك في كل محطات الوصول إلى مبتغاه، وفي كل مرة يرفع صوته عاليا : ” يا فاطمة سأقصُّ عليْكِ ” بعضا من ملامح ” الحصيرة و يا طير ” وسلاحه في ذلك ” صبرًا جميلاً الصبر طيب ” ليصوغ قانون الحركة والجذب التي سيطرت على رؤية (إسحاق نيوتن) ويبيد بعض الشكوك صارخا وجدتها وجدتها يا ” بُشراي “، بيد أن اكتشافه يقوده إلى ” الفراشة السوداء ” التي بقيت تنصت إلى ضوء هروبها الباهت وهي تفضي إلى مسلك ” خلاصة تجربة ـ عَيِّنات “، وكأنه يريد أن يترجل عن صهوة الشعر لكي يقود قافلة النثر” متتبعا خطى ” في محاولة للتقصي عن حقائق ” من حكايا أمّي “، وهو يناشد الفهم والادراك عن اشكالية ” أنا وعبد الله ” التي دوخت قافلته في فيافي القلق، لولا أن “زهرة الجرندس ” قد بانت من بعيد وهي تحمل نسائم ” الشعر والفن كما أفهمها ” وتمنحه نفسا جديدا فيه مجموعة مقالات، حيث يعرب عن قلقه الوجداني / الوجودي، ليتساءل مرة أخرى عبر قصائد مختارة بعناية متعب:
” يا فاطمة من تكونين؟ ” غير أنه لا يسمع جوابا شافيا، ولا يرى يقينا واضحا ولا حتى نهجا بينا، ليخبط خبط عشواء ” أيتها، أيُّها، أيَّة ويا ” ويتيه في أفق تجربة جديدة، تقوده ذبالتها إلى حيث ” حفيدتي والديناصور ” وهناك يكتشف أن ” حسن الممروش لم يتناول طعامه ” وأن عطشه المعرفي قد توهج، وأيقن أن لا مندوحة له من مواصلة الدرب وبين جوانحه (فاطمة) وفي رأسه الكثير الكثير من خطط المشي، التي دُونت بعض آثارها في مجلتي (ميس للثقافة العقلانية) و (كِتابنا كُتابنا).
يؤكد سعيد العفاسي بأن ابراهمي مالك (شاعر مثقَل بالحياة، وقادم إلى القصيدة من غياهب العمل السياسي، ومن زمن ولى، وغابت معه الطمأنينة إلى الطريق قبل الصديق، وكل ينادي بأناه عساه ينفلت من شراك تتصيد خطواته، نظراته، حسه، بل وأنفاسه قبل أن ترتد إلى رئته، رجل قادم من الضنى والتعب كل ما يبحث عنه في واحة الشعر، ماء ونخل ورمان وزيتون، يضعها متاريس للحد من زحف رمال التي تشوه الطبيعة قبل الانسان، باحثا عن النشوة المأمولة بعد طول عناء، متوسما الخير في الشعر ورفقة الفنانين، ينشد المودة عنوانا، لذلك يكتب من معين التجربة الحياتية لا من حياض المعرفة، لأنها بالنسبة إليه جرة الكنز التي تلمع تحت قوس قزح، إنها سدرة المنتهى وغاية الطريق لدى العشاق الكبار. إن الرجل، بصيغة أكثر كثافة، لا يريد من الشعر سوى الشعر نفسه.
يصل البعض إلى أرض الشعر عبر غابة الكتب، حيث المرجعية القرائية هي السند. ويصل البعض الآخر عبر التّماس الحاد مع أحجار الطريق وصخورها، طريق الحياة، حيث التجربة هي الدعامة والمتن. (ابراهيم مالك) يصل من المسلكين معا، في الآن ذاته، متعبا وضائعا، هاربا من مكان ما، وزاهدا فيما سيأتي. إنه كما يصف نفسه في أحد نصوصه صنيعُ خطواته، صنيع خطاياه أيضا.
حين يختار الآخرون، الذهاب باتجاه طرق التعبير-الطرقَ السيارة الواسعة-، يختار (إبراهيم مالك) الطريق الزراعي الذي تحفّه أشجار الزعرور والطرفاء والسرو والأرز، والحقول البرية غير المشذبة، فالأعشاب الضارة جزء من الطبيعة. هذه الأعشاب البرية هي تقريبا ما يشغل الشاعر ويفتنه، فهو يعمل على جمعها وترتيبها في أصيص الشعر، نكاية بكل الأزهار اللماعة التي تُوهِمنا بأن الجَمال قريب ومتاح، كل فداحات الحياة وأهوال العالم وأشجانه وأوجاعه هي الأعشاب البرية التي تزين قصيدة شاعرنا، يهرسها هرسا ثم يضيف عليها شيء من خبرته، ثم يقدمها إسعافا أوليا حتى لا يتعفن الجرح، ويترك أمر شفائها لنفسها، تبني وتهدم، ثم تعيد البناء.
يخلط الشاعر الحب بالألم، ليصل إلى هذا العجين الدافئ والشجي الذي تتخلق منه قصائده العميقة، القصائد التي تقلب أرائكنا الداخلية وتهشم فناجين القهوة المعتقة في أفق التلقي، يقف (إبراهيم مالك) على منصات الشعر فاردا صدره للريح، غير عابئ بكل ما سيأتيه من الاتجاهات الأربع، ثم ينحني على مفاتيح الرقن، يكتب بتؤدة، كما لو أن القصيدة توجع أصابعه قبل عقله، أما قلبه فيكون غارقا في تأملات عميقة الغور، لا يهتك صفاء هدوئها غير نداء الكتابة، يجمع كلماته من الغابات الجاثمة على اقدام سلسلة جبال الأطلس والأوراس و الكرمل والجرمق والألب و تيورنغ* وهارتز* وأرتس غيبرغي*، ومنعرجات الطرق التي توصل إليها، وتفضي إلى نقاء صوتها، رغم جلبة الحوافر وصليل السيوف وصوت مدافع الشؤم، يغسلها بالماء والثلج والبرد، ثم يضعها في مزاهرَ من زجاج على حوافّ حديقته في كفر ياسيف، ويجلس مفتونا بها وملتاعا بما تقود إليه، يتأمل الطرقات المبثوثة في مخيلة ( نيتشه)* ومنها يستمد عرافة الأسئلة الشائكة التي لا جواب لها سوى توليد المزيد من أحفاء الأسئلة وأسباطها، من الغياب تأتي الكلمات وتحضر، من الحسرة والندم، من سوء الحظ ووفرة الغمّ، من الخذلان والهجران، من الإحساس الذي كأنه التيه، من الأسف على الأجل القصير للفراشات السوداء، الفراشات التي يحلم الشاعر بأن يغدو أخفَّ وأشفّ، كي تكون أجنحتها وسادةً له. لا يملك الشاعر سوى كلماته، حيث مصدر النار صدرُ العارف، وحيث الكلمة خنجر لا يرى، يقول الشاعر في ديوان (الفراشة السوداء):
“كم تشعلني انبهارا تلك الفراشة السوداء
فكلما تأملتها بجنون عاشق
أخالني شبهها
فكم بقيت عمري ولا زلت
أبحث عن ذوب رحيق حياة
وفواح عبق” ص 110 (الفراشة السوداء) .
في هذا الكتاب حري بنا قراءته قراءة ماتعة، فيها الكثير من البوح المكلوم، وفيض من الشعر، وألق من بهجة الكتابة، لأن من يمعن التأمل لقصيده، يحس به بعيدا عن قلاقل المجتمع وأوجاعه، يكتب بمرجعية المحب القالي، وبصفاء عز نظيره، وبارتياب تفرضه القراءات السطحية، والمجاملات التي تقتل الابداع، حتى يخال المرء أن الرجل يعيش في عزلة عن محيطه العام، لكن المتمعن فيما وراء المعنى يجده في صُلبها وصَهْدها، غير أنه لا يتوجع بصوتها المُباشر، ولا يجيد التأوه من فرط ما رأى،-وما ينبغي له-، وهو الذي خَبَر السياسة حتى عافها واستأنس بصحبة الكلم، فوعيُه الجمالي يُحرّضُه على أن يتحول نحاتًا يكفي أن يمسَّ اللغةَ ليتحول مُعْجمُها إلى غابة من الرموز، ويكفي أن يفكر بالدال لكي يرتبك المدلول، فاسحاً للعباراتِ كي تخرج من بين أصابعه لاهبةً كشمس ظهيرة أغسطس، ومُزدحمةً كعنَب دالية الكرمل.
لقد كان الشاعر النمساوي (راينر ماريا ريكله) يقول:
“إذا بدتْ لك حياتُك اليوميّة فقيرةً ومُقْفرة، فلا تتَّهمْها، بل قُلْ:
إنّني لمْ أعُدْ شاعراً بالقدْر الذي يُمَكِّنُني من اسْتدعاء الثَّروات والأشْياء النَّفيسة المَخْبوءة في أغْوار الذَّات!! “.
هذه هي الهبَة التي يَمْنحُها لنا (إبراهيم مالك)، الإحساس بالامتلاء الرُّوحي الذي يجْعلُ الحياة جديرة بأن تُعَاش، والرغبة في اجتراح المعنى من قعر بداوتها إلى حيث ناصية التأويل.
أعتقد أننا في حاجة إلى قراءة من نكتب، وقراءة بعضنا البعض، بعيدا عن الصُحبة، قراءة تدبرية، حصيفة، فيها الكثير من النقد، والقليل من المجاملة.
الكاتب الناقد سعيد العفاسي