رسالة الى حبيبتي التي اغتيلت
تاريخ النشر: 04/04/14 | 23:19هل أخطأنا يا نجوى؟ لا أعرف. لكنّ قدرة من يسرقون أحلامنا على حرف كل خطوة وفكرة عن مسارها لتحقيق رغباتهم، بدأت تجعلني أشك بكل ما فعلناه طوال هذه السنوات. وفي هذا السنّ، صار للحاضر معنى أكبر، بتضاريسه المركّبة وتعقيداته. لا قصص الماضي ولا صور المستقبل، كلاهما لا يحملان تضاريس الحاضر. والحاضر يا نجوى، هو أن نعمل بحسب الظروف الموضوعيّة. لم ننتبه إلى أن العمل السياسي اليومي ضمن المؤسسات التي تملي واقع الناس، هو الحاسّة الوحيدة لاكتشاف تضاريس الحاضر. لقد كنّا نتخيّل المستقبل، يا حبيبتي، صورة مسطحة على الحائط لها بعد واحد. وها هو المستقبل: ليس إلا حاضرا آخر يرزح أمامنا بكل تشعّباته. لقد تخيّلنا السياسة فعلاً يسوعياً، واعتقدنا سقوط الصهيونيّة خاتمة الكوارث، حتى نزل المستقبل من صورة الحائط إلى الأرض، ورأيناه. كان ذلك يوم الأحد، قبل سبع سنوات، أتت سهير ويارا ومعهما سعيد وقالوا إن عصابات السلام الدائم نجحوا باغتيالك بتفجير الـsprit. عندها فقط فهمت.
إن بعض رفاقنا في الحركة اللاسلطويّة أخفقوا في فهم ما تركته من أثر فكريّ. فهم يرون العداء لنظام شركات السلام الدائم جوهر المعركة اليوم، ولا يرون أن الحالة السياسية والاجتماعية التي باتت تتركب عليها البلاد، لا يمكنها أن تنتج أي حال آخر. لا أحد مثلك يعرف عمق الفجوة بيني وبين حماس. لا أحد مثلك يعرف كم أبغض الجابريين وثقل دمّهم الارستقراطي، والجميع يعرف أني لا أتفق مع التروتسكيين. لست في مكان الدفاع عن أيٍ منهم، لكني أرى قرارهم بالحفاظ على التهدئة بعد اغتيالك قراراً صائباً. لأن نظام الشركات الجديد هو الوحيد المستفيد من الوضع القائم ليؤكّد شرعيّته في مواجهة سعينا السياسي لمنظومة قانونيّة واحدة تحكم البلد. إنهم يريدون للمعارك بين العائدين من اللجوء وبين فلسطينيي الـ48 أن تستمر، ليتمكّنوا من بسط النظام التجاري على كلّ شيء. هل تسألين عن المستقبل؟ إننا إذا بقينا على نهج العنف الداخليّ هذا، سنفقد في غضون أعوام قليلة الدولة التي ناضلنا لأجلها لأكثر من أربعين عاماً، وقبلنا ناضلوا لعقود. وسيصير لنا بدل نظام الدولة، انظمة: يشترك كل واحد منّا بنظام دولة مثلما يشترك كل واحد منّا بمزوّد sprit.
إن ما لا يفهمه الرفاق اليوم أنّ نظريّتك في أعقاب الثورة السوريّة، عن التسليح البيتي واستخدام الاسلحة التي يمكن تصنيعها من المعدّات الموجودة في أي بيت، أتت لوقت غير وقتنا وعدو غير عدوّنا اليوم. وأنها أتت لرسم الحدّ الذي يقف عنده المناضل بين وهم الثورة اللاعنفيّة من جهة، والرضوخ للتسليح المشروط من القوى العظمى، من جهة أخرى. وهم يتجاهلون كليا أن في هذا الحدّ الميداني الذي وضعتِه، حداً أخلاقياً لحجم الدم وحجم الآلية العسكريّة التي يُمكن للمناضل أن يسمح لنفسه بهما، ويتجاهلون أننا اليوم، وكل واحد منا يمتلك مطبعة 3D ومطبعة كيماويّة موصولتين بالحاسوب، تمكّناه من تصنيع أي آليةٍ عسكريّة يرتكب بها مجزرة. هل تشاهدين من فوق، يا نجوى، بشاعة ما يحدث في وادي النسناس والحلّيصة؟
حماس ليسوا أبرياء. وعلى كل الأحوال فلسنا لعبة عندهم كما يريد بعض الرفاق وصفنا. لكنّ موقفهم في هذه الأزمة، ورغم أنه ليس محايداً، ينبع من مبدأ أساسيّ، وهو ضبط نظام واحد للجميع، بموجب قوانينه تُحسم قضايا أملاك اللاجئين وبموجبه يُعاد تقسيم الأراضي. أما فتح، ورغم أن الكثير من قياداتها تتحرك بدافع نصرة اللاجئين بعد سنوات الغبن هذه، فإنها تلعب دوراً متعنتاً لا يريد الوصول إلى صيغة موحّدة. لا يمكن أن نقول إن كل شيء يجب أن يعود إلى ما كان عليه. الحياة لم تتوقف قبل مئة وستة أعوام. وإن كانوا فعلاً يريدون ذلك، فلماذا يدفعون بأنصارهم إلى التوجّه للشركات لتعقد صفقات مع مثيلاتها التي تخص السكّان الحاليين، وضمن منظومة داخليّة حسمتها رؤوس أموال الفلسطينيين واليهود فيما بينهم، من دون أدنى قواعد للشفافيّة، ومن دون شعاع معلومات عن الطرف الذي تذهب إليه حصص العمولة من أراض ومبان. ومن الأساس، لمصلحة من لعب طرد الطبقة اليهوديّة الوسطى من دون غيرها من الطبقات؟ حماس لها منفعة في دعم السكّان الحاليين؟ ربما. لكن هذا الشباب الطائش اليوم في حركتنا، والذين يريدون أن يطلقوا النار ويعادوا الجميع من دون أدنى شعور بالمسؤولية، نحن نعرف جيدا من كانوا ذويهم، وفي أي ترف فكريّ وماديّ كانوا يعيشون. وأننا حين كنا نتوسلهم لننزل إلى أحياء الفقر في الحليصة والسوق قبل أربعين عاماً، ونفشل، كانت الحركة الإسلاميّة تجمع لهذه الأحياء أموال الزكاة.
التقيت يوم أمس بابنتك روزا، وحدّثتني عن عملها البحثيّ. فرحت جداً عندما عرفت أنها قُبلت في جامعة دمشق، فهذا شرف لا يناله الكثيرون. هل تذكرين كل ما كنا نقوله عن بؤس الأكاديميا وتهافتها؟ إنه يتبدد فجأة حين أرى روزا تتحدّث عن عملها. إنها تبحث الأمراض النفسيّة عند قيادات المجتمع المدني في الـ48 في أول عقدين بعد أوسلو. لم أنتبه يوماً لهذه الظاهرة. بالفعل، عدد كبير من الشخصيات الفاعلة في الجمعيات الأهليّة انتهى بها الأمر إلى المشافي النفسيّة. وأنا أيضاً سأُجنّ. لأني لا أستطيع أن أفجر رؤوسهم. لأني لا أستطيع أن أنتقم لدمك. ولأني بدل ذلك مضطر للجلوس في برلمان نعرف كلنا أنه لا يقدّم ولا يؤخّر في هذه الظروف. إنما، لا بدّ من ذلك.
لقد بدأ زوجك يزعجني. إن الحبّ، مهما عظم، لا يمكن أن يحوّل العمل السياسيّ إلى رهينة العاطفة. وليت دعوته لعسكرة النضال ضد شركات السلام الدائم تكون فقط من باب رغبة الانتقام لدمك. فقد بدأت أشعر أنها تتحرك بالأساس بدافع إظهاري عميلاً ومتواطئاً وخائناً لدمك، وأبحث عن منصب. لكني على ثقة بما أفعل، وعلينا ألاّ نترك مجازر الصهيونيّة عشية سقوطها تحوّلنا وحوشاً. علينا أن نعيد الحدّ الأدنى من العقلانيّة والتفاهم الاجتماعي إلى الحيّز العام الذي بدأ يتآكل. فكّرت أن موتك سيمسح كلّ شيء بيني وبينه. فكرت أنه سيكون فرصة لنعود إلى العمل الحقيقي، ونبش الحاضر لتحقيق المستقبل الذي نحلم به. لكنه لا ينسى. العمى. صرنا 2054، والماضي لا يريد أن يموت…
بقلم : مجد كيال – حيفا