صبّاريني ..يا ترمس .!
تاريخ النشر: 02/01/19 | 10:26 إلتقينا , أنا وأنت , على مدخل مخيَّم جنين .!
إلتقينا حول عربة الترمس .!
” نِتْفِة من ريحة الحبايب .!”
كانت ستقول أمي الصُّبارينية , لو سمعت عن لقائي بكِ .. هكذا تقول عندما تسمع أو تلتقي بإنسان , يذكرها بأعزاء عليها , بعد غيابهم عنها لزمن طويل ..
وهل يوجد ما هو , أعزّ لديها من صبارين .. وأيام صبارين .!
خرجت من جامعة جنين , يرافقني بعض الطلاب , الذين يشاركوني الدراسة فيها , الى سوق البلد , المتنفس الوحيد , الذي يخرجنا من أجواء الدراسة في الجامعية..
فاسترعى انتباهنا , وقوفك بجانب عربة الترمس ..
وصلنا الى آخر الشارع , وعند رجوعنا , وجدناك ما زلتِ تلتصقين بالعربة , وتشاركين البائع بيع الترمس..
وجهك لم يكن غريباً عنّا .. عرفناك إحدى طالبات الجامعة , ولكن لم يحدث , أن تبادلنا معك كلمة واحدة من قبل .!
وعندما ساقنا استغرابنا , للعودة الى العربة , بدأ صوتك يعلو , ليشعرنا أن النداء موَّجه لنا , كنت تنادي , والبسمة تتفجَّر من ثغرك:
ترمس ..! ترمس ..! زاكي يا ترمس .!
تقدمنا من منك .. فصرختِ بالبائع ,الذي كان يقف بجانبك :
” عبّي للشباب ! عبّي للشباب .!”
صاح أحد الطلاب مازحاً : ” شو في الليل طالبة , وفي النهار بياعة ترمس.!”.
فأجبتِ بطبيعية : ” كلّه مثل بعضه .. تعليم ..! بيع ترمس ..! كله محصِّل بعضه .! “.
فردَّ عليه البائع , وكأنه يبرِّر الموقف : ” منّى جارتنا وابنة مخيَّمي .. وأصلنا من بلد واحدة ..!” .
بعد أيام التقيت بك صدفة ,على مدخل مكتبة الجامعة .. فتذكرت قول بائع الترمس :” أصلنا من بلد واحد .!” .
فسألتك ..
فأجبت وأنت مسرعة , الى داخل المكتبة :
” صبَّارين ..!”
وتركتيني غارقاً في دوامة دهشتي واستغرابي ..
صبارين.! البلد التي تعيش معي .. تلاحقني أينما ذهبت ..!
ورجعتُ الى بائع الترمس , لأستزيد منه عن علاقتكم بصبَّارين .. البلد التي هُجِّر منها جدّي وعائلته ..
عندما وصلته .. تفحصَّته عيناي ..
كان في العقد الثالث من عمره , قصير القامة , بدأ الشيب يتسلّل الى شعره , مدوَّر الوجه , تشّع منه عينان لامعتان , تعلوهما حاجبان كثيفا الشعر ..
” ما قصتك مع صبَّارين .!؟ ”
رميته بالسؤال الذي جئتُ من أجله ..
“أجدادي من هناك .. هُجِّروا منها بعد النكبة .. ”
قال وحسرات دفينه , ترافق نبرات صوته الحزين ..
” وأجداد منى أيضاً من هناك .. ونقيم في مخيّم جنين ..نحن جيران .. !”
أكمل يجيبني عن سؤال , كان واثقاً , أني سأطلب منه الإجابة عنه..
تركته يتوه في دهشته , التي سيتركها انسحابي الغريب من أمامه..
وهربت ..
هربتُ من آلام سهام صبّاَرين .. التي تلاحقني منذ ميلادي ..
كنت أهرب من حضرة جدِّي , عندما يبدأ بالحديث عنها , وعن أيامه معها ..
وأصمُّ أسماعي ,عندما ينطلق صوت جدتي , بأغنيات الحنين إليها .. من ذكريات أمي , عن ألعابها مع بنات حارتها ..
كنت أهرب من رواياتهم , عن بيادرها نبعاتها ,حقولها ..
والتقيتُ بها مرة أخرى , في قاعة المحاضرات ..
وعندما اقتربتْ منّي , همست في أذني : ” أريد ان أراك عند الترمس.!” .
ما الذي أخذني الى هناك .!؟
صبَّارين .!؟
وجهها الذي لم يعد يفارقني .!؟
شعرت أن موجات من الأحاسيس , تحمل صور وجهها, الذي يطلُّ عليَّ من كلِّ زاوية .. ويلاحقني الى كلِّ مكان أذهب إليه .. يستقبلني في الصباح , وينام بين جفوني في منامي .!
وفي الليل داهمتني أفكار , حملت معها , كلَّ هموم وظلمات الدنيا..
كيف سأرتبط بمنى , ويفصلني عنها حواجز , تنتصب أمامنا حواجز لا يمكننا النفاذ منها ..
هي من سكان الضفة , وأنا أحمل الهوية الإسرائيلية , وهي لا تحملها ..
ويفصلها عني جدار بناه المحتلون , ولا يمكنها قطعه ..!
وفي اليوم التالي .. وجدت نفسي معك عند العربة ..
وإذا بمجموعة من زملائي الطلاب , يلمحونني بجانب العربة , اقتربوا منّا , وبدأوا يمطرونني بوابل من التعليقات , التي يختلط فيها المزاح والحسد والعبث :
” شو يا سامي عشقت العربة .. !؟ صرت تسلّ حالك وتيجي هون لوحدك .!؟.
يا عمّي .. كِرمال الورد يشرب العليق .!
أنا بحبك يا ترمس .!” .
نظرتُ الى وجه منى , فوجدته مرجلاً يغلّي , بموجات من الثورة والغضب .. ولكنها استطاعت , ان تكبت ثورتها ..
أمّا أنا فقد ضعتُ بين أحاسيس ,الحرج والغضب والخجل ..
ولكني استطعتُ بجهد جهيد , أن أكظم غيظي ,منتظراً زوال هذه العاصفة التي اجتاحتنا ..
طلبوا شراء أكواز الترمس , وعندما استلموها , ناولوا سعيد البائع , ورقة مالية قيمتها الشرائية , أضعاف قيمة الترمس الذي اشتروه..
وضعوها على سدر الترمس ومشوا , دون أن يأخذوا باقي الحساب.!
” والباقي يا شباب .!؟” صاح بهم سعيد ..
” خليّها على شانك ..!” ردَّ أحدهم , وهم يبتعدون عن العربة ..
مزاحهم الثقيل , أشعل الغليان في دم منى ..
فلما سمعتهم , يرفضون قبول استرجاع باقي نقودهم, صرخت بهم بصوت مجنون :
“وقْفوا !.. وقْفوا ..! وارجعوا خذوا الباقي ..!
إحنا هون مش شحّادين .. ! إحنا ما بنقبل الصدقة ..!
إحنا فقرا صحيح , بس بنوكل لقمتنا بشرف .. بعرقنا..!”
وقفوا مذهولين وعيونهم تلتصق بالأرض , رجع أحدهم , وتناول الباقي , متحاشياً النظر باتجاه عيوننا ..
ومشوا ..
حدث كلُّ هذا .. وأنا متجمِّد ملتصق بالعربة ..
الطلاب كانوا من عرب الداخل .. فعرفت أنها بكلمة ( إحنا ) .. كانت تقصد فلسطيني الضفة والقطاع ..
من منّا ( أنا ومنى ) إحنا .. !؟ ومن منّا هم ..!؟
رجعت الأفكار السوداء , التي اجتاحتني في الليل .. الحواجز الثقيلة التي تقف بيني وبين منى .
بماذا تفكِّر ..ما الذي يشغلك .. إنك لم تنطق ولو بكلمة واحدة .!
قالت منى بعد ان ابتعدنا عن العربة ,في طريقنا , راجعين الى الجامعة .
” أريد أن أقول كلاماً , تمنعني حواجز عن قوله .!”
قلت والتردد يكاد يعقد لساني ..
“أولآً ..ماذا كنت ستقول ..!؟
وثانياً .. ما هي الحواجز , التي تمنعك من قوله !؟ ”
ردت منى , وهي تتصنَّع الدهشة والاستغراب ..
فقلت وكلماتي تتعثَّر ببعضها :
“كنت سأقول .. أني أشعر أن روحي , ارتبطت بك ..
والحواجز تعرفينها .. ” .
سكتت للحظة .. سرنا فيها عدة خطوات .. فالتفتت إلي وقالت :
“الأولى .. أنا دعوتك لأقول لك أني أحببتك , من اللحظة الأولى التي رأيتك فيها .. فسبقتني .!
أما الثانية .. فاترك للزمان , ان يفعل ما يشاء .. ودعنا نتمتع بلحظات هذا الحب الوليد ,ولا نوئده في أوائل ميلاده .! ” .
في اليوم التالي ,عدتُ الى العربة , وما ان اقتربتُ من مكانها , حتى انبسط أمامي منظراً مريعاً ..
كان جمع كبير متجمهر حول العربة ..
كانت مقلوبة على جانبها , والترمس مبعثر حولها ..
وسعيد لم يكن هناك ..!
كانت منى قد سبقتني .. نظرت باتجاهها ..
كانت عيناها كالبركان الثائر , الذي يقذف حمماً , وتبحث عن فريسة لتحرقها ..
هاجم جنود الاحتلال العربة , كسَّروا جوانبها , وكبّوا ما فيها ..
وضربوا سعيد بوحشية .. واعتقلوه .. أخذوه الى المعتقل ..
كانت آثار دمه , ما زالت منثورة على الأرض .!
هكذا روى المتجمهرون حول العربة ..
تهمته أنه كان فعّالاً في المقاومة , التي قام بها أهالي مخيَّم جنين..
هذا ما أتى به محاميه , عندما توجَّه الى الحكم العسكري , ليستطلع أسباب اعتقاله ..
كان أول قرار , لي ولمنى , إصلاح العربة , وإعادتها الى مكانها , في مدخل المخيَّم , ومواصلة بيع الترمس ..
“لن يستطيعوا وقف الحياة ..! ”
قالت منى , ونحن نرفع العربة , ونعيدها الى وضعها الصحيح .
استعنّا بالباعة أصحاب العربات , الذين يعملون في السوق , فأحضروا ما يلزم من الأدوات , وأصلحنا العربة , واستعنّا بأحدهم , من أجل إحضار الترمس , التي كانت تعدُّه زوجة سعيد في بيته..
وقفنا في السوق , بجانب العربة وبدأنا ننادي :” ترمس .! زاكي يا ترمس .!” .
ساعدنا على القيام بهذا العمل , خروجنا الى عطلة نصف السنة الجامعية ..
بوقوفي بجانب العربة .. توصَّلتُ الى معرفة , ما يكنَّه أهل المخيَّم لسعيد , بائع الترمس , من تقدير وعرفان .. كلهم كانوا يتحدثون عن بطولاته , في مقاومة سكان المخيَّم لجنود الاحتلال ..
كانوا يطلقون عليه – سعيد الصباريني ..حتى غلب عليه هذا الاسم.!
بعد أيام ,ونحن منهمكين في تعبئة أكواز الترمس , وإذا بمنى تنادي بأعلى صوتها :
صبّاريني يا ترمس ..! صبّاريني يا ترمس .!
فالتقت عيوننا باعثة موجات من الحب , الذي وُلد هنا على العربة..
فصحتُ من أعماق قلبي : صبّاريني يا حب ّ.! صبّاريني يا حبّ .!
فتسللت الى وجهها المربوع ,موجات من الحياء الجميل ..
وفي طريق العودة همستْ : والحواجز .!؟
فرددتُ : الحبُّ يخترق كلّ الحواجز .!
يوسف جمّال – عرعرة
.