الشاعر الراحل مفيد قويقس.. سيرة حياة مضيئة ومشرقة
تاريخ النشر: 10/01/19 | 9:10يعد المرحوم مفيد قويقس أحد العلامات الشعرية المضيئة في المشهد الشعري والأدبي الفلسطيني الراهن، ومن أعمدة القصيدة العمودية التي تلتزم بحور الشعر الخليلية. فهو شاعر مقتدر ومتمكن، عفوي صادق، يعانق الحرف الشامخ، أشعاره يموسقها الجمال، وقصائده ذات جماليات على مستوى اللغة والتشكيل والمضامين ، ويشهد له القاصي والداني بشاعريته الفذة، ولكن مع ذلك لم يحظ بالاهتمام النقدي المطلوب والتقدير الذي لا يستحق في حياته.
ولد مفيد قويقس في قرية يركا الواقعة قضاء عكا، في ٢١/ ١١/ ١٩٥٨، أنهى دراسته الابتدائية والثانوية فيها، لكنه لم يواصل دراسته نتيجة الأوضاع والأحوال الصعبة، واختار مجال الأعمال الحرة.
ومنذ شبابه المبكر انضم للحزب الشيوعي وشارك في نضالاته ومعاركه الكفاحية، وبسبب مواقفه الوطنية والسياسية- الفكرية، تعرض للاعتقال والاقامة الاجبارية، ولكن ذلك زاده قناعة بطريقة السياسي وانتمائه الحزبي، والتمسك بالفكر التقدمي المستنير.
قرض مفيد الشعر وهو على مقاعد الدراسة، ونشر قصائده في صحافة الحزب الشيوعي، وفي العام ١٩٨٢ صدر ديوانه الأول الموسوم ” على ضفاف جرحي نما الزيتون والغار “. وبعد اكثر من ٣٠ سنة صدر ديوانه الثاني ” الغضب “، فديوانه “ذاكرة انتظار “، و” عشريات ومقطوعات”و ” بكلتا يدي ” (٢٠١٨).
يغلب على قصائد مفيد قويقس روح الوطنية والعروبية والقومية والطبقية، وروح الغضب والتمرد والثورة على الواقع القهري الاضطهادي، والانحياز لفقراء الوطن وكادحيه ومسحوقيه. وتناول فيها الكثير من الموضوعات والمضامين، فكتب عن الارض والوطن والجليل والعمال وأول أيار والمرأة ويوم الارض والانتفاضة وشهداء الحرية، وحاكى الحب والطبيعة في قصائد رومانسية لا احلى ولا اجمل.
قال عنه الناقد الأديب د. منير توما: ” شعره كاًوراق السنديان في نعومتها وملمسها وشكلها الموحي بصلابة شجرها العريق الذي يتماهى مع أصالة مفيد قويقس في الانسانية والوطنية، كما تشهد له قصائده في ديوانه ” الغضب “.
ويضيف قائلًا: ” الاحساس عنده انصهار كيان، فهو يكتب بخغق قلبه، وصفاء روحه، بنبضات عروقه، وآلامه، بصدقه واخلاصه، وايمانه ليجسد احساسه الملتهب هذا بتصوير حالة من الوجد والشجن يتخللها أصداء واقع مرير صادرة بصور عاطفية شجية مؤثرة “.
مفيد قويقس جواد شعري مجنح، نذر نفسه لهذا الوطن الذي كان مسكونًا به، ونسج من خيوط عواطفه وشعاع خواطره ملاحم العشق والنضال والخلود، وكرس يراعه في الدفاع والذود عن شعبه وقضايا الوطن والحرية، واسهمت الأحداث المأساوية التي مر بها شعبه، وعاشها وعاصرها، في ايقاد جذوة الشعر المضطرم في أعماقه، فصاغت منه شاعر الكفاح والمقاومة والرفض، وشاعر الوطن والأرض، وشاعر الحب في آن.
نماذج من شعره:
درزوا قوميتي بالكذب
فكأن يبغون فصلي عن أبي
درزوها ويحهم هل حسبوا
بكتاب الزيف أنسى حسبي
ويحهم كيف استحلوا ذلهم
باقتلاع الثوب ثوب النسب
كيف يرضون على أنفسهم
انعرالا عن سليل طيب
جلس الملك على عرش وهم
بين نعلي ملكهم يلغون بي
خسئوا لا العز من شيمتهم
لا ولا هم فن سليل العرب
ويقول في قصيدة اخرى:
إني عشقتك عزة عربية
متوغل في عشقها الوجدانُ
فمن المحيط الى الخليج همومنا
جرج يوثّق بينها ولسان
عريية أفراحنا عربية
أوجاعنا وجميعنا عربانُ
لم نفتقد رغم الظلامِ هوية
بالعمق تسري واسمها الإنسان
وفي قصيدة اخرى يبوح عن انتمائه قائلًا:
سجّل على جبهة الدنيا أنا أُممي
سجّل وهناك دمي فاكتب بسيل دمي
سجّل أنا من تقلاه الخنى زمنًا
وحاصر الليل شمسي في ذرى القمم
أنا الفصيلُ الذي أمسى على مضضٍ
ولست أحمل غير الجرح والألم
ولست أملك بالدنيا سوى غضبي
والحب والجوع والأشعارِ والقيمِ
سجّل احبُّ شعوب الأرض قاطبةّ
لا فرق عندي بين العرب والعَجَمِ
القصيدة الاخيرة:
كان المرحوم مفيد قويقس قد كتب قصيدته “غسان كنفاني عائد ويبقى ” ليقراها في أمسية اشهار كتاب” معارج االابداع ” لعدنان كنفاني في مقر مؤسسة ” الأسوار ” بعكا، ولكن قبل أن يلقيها أصيب بنوبة قلبية حادة، فمكث في المستشفى لعدة أيام، ولكن كان الموت بالمرصاد له ، فتوفي فجر يوم الجمعة الرايع من كانون الثاني العام ٢٠١٩ وشيع جثمانه في اليوم نفسه:
ومما جاء في قصيدته :
لستَ يا غسّان ذكرى
إنّما دربٌ وأفقُ
كلّ ما فيك امتدادٌ للتفاصيل
وشرقُ
عائدٌ أنت إلى عكًا وحيفا
عائدٌ بين يديك الفجر يسري
وانتظار العائدينْ
عائدٌ يا ايّها الباقي الذي لا ينتهي
بحرًا ورياحًا
وترابًا وحنينْ
لستَ ذكرى إنّما بدء الحياةْ
وانْطلاقٌ وارتقاءٌ
وسفينٌ للنجاةْ
لستَ ذكرى ونراها وترانا من بعيدٍ
أنت مَن يحيا لدينا
نحن مَن نحيا لديكْ
عائدٌ أنت ولكن
من حقوق الأرض أن تبقى
وأن نأتي إليكْ
لستَ ياغسّان ذكرى
إنّما العودة للحب الذي تحضنه
بين يديكْ
………
عائدٌ أنت الى حيفا وعكّا
عائدٌ أنت الى كلّ مكانِ
لم تغبْ حتّى تعودَ اليومَ ذكرى
أنت ملءُ الأرض في هذا الزمانِ
فيكَ شعبٌ يتحدّى، فيكَ شعبٌ
يتعالى عن صغيرات الأماني
أينما كنت حياةً أو رفاةً
فيك شعبٌ ترتقي فيه المعاني
أينما كنتَ فأنت الحيّ دومًا
تسحق النسيان في كلّ رهانِ
ربّما الأسماء تُنسى في بلادٍ
وبلادي ليس تنسى كنفاني
جئتَ يا غسّان من أسوار عكّا
قد أتت أولى ومنها أنت ثاني
فيك شعبٌ لا يموت الحلم فيه
كاظمًا طولَ انتظارٍ واحْتقانِ
فيك مدّ البحر نحو الشطّ يهفو
ونشيدُ الأرض في كلّ الأغاني
…………
ليس للشوق قياسٌ أو كثافهْ
رغم حجم الليل يجتاز المسافهْ
يصل النهرُ الى البحر مُحبًّا
رغم سدٍّ
رغم حدٍّ
رغم أشكال الليالي
رغم دعوى فَرَضَتْ يومًا
على النهر انْعطافَهْ
ليس للشوق وللحبّ حدود أو مسافهْ
فحكايا الأرض تروي قصة الحبّ الذي يحيا،
ولا يَنسى من النهر ضفافَهْ
زمنٌ يمضي
زمنٌ يقتات من أيامنا
يخشى المحبّين وأسماءَ المحبّين
وفي رؤياهُ طبع الحبّ آفهْ
لِيَرَ الكارِهُ ما شاء ومن شاء
فنحن العاشق الممتدّ في كلّ الزوايا
ومَدانا واقعٌ لا ينتهي
ليس خيالًا أو خرافهْ
…………..
لكِ عكّا كلّ أسبابِ البقا
هذه الأسوار نبضٌ من ثبوتْ
كتب الدهرُ حروفًا فاقْرأي:
صامدٌ يعشقُ عكّا لا يموتْ
…………..
لستَ يا غسّان ذكرى
إنّما الزيتون والفكر وهامات الرجالْ
ووضوح الماء للظامئ
في صحراء، فيها لم يكنْ إلّا الرمالْ
لم يمت سقراطُ يومًا
رغم كأس السمّ، حيًّا
بين أحياء اليتامى
لا يزالْ
لستَ يا غسّان ذكرى
ايها المكتوب في كلّ الحنايا
ليس يمحوكَ احتلالٌ
واغتيالٌ
وانتقالْ
عائدٌ أنت الى حيفا وعكّا
وجهك القائم كالماء انتعاشٌ واكتمال
بقلم: شاكر فريد حسن