نساء القصور على مر العصور…. الحلقة السادسة
تاريخ النشر: 15/01/19 | 9:08القراءةُ وامتلاكُ الكتبِ. هلْ هي مرضٌ (الببلومانيا)؟ عندما قرأتُ عن هذا المصطلح الذي يسوّق له بعض الباحثين من الغربِ شعرتُ بخوفٍ ورعبٍ رغم ثقتي بأنّ الدعوةَ إلى القراءةِ هي دعوةٌ إلهية بدلالة إيعازية في كتابهِ المقدس من خلال (اقرأ) . سأروي لكم قصتي مع الكتبِ. منذ صغري في المرحلة المدرسية كنتُ دائما ما أقتطع من مصروفي المتواضع ما يمكنّني من اقتناءِ كتبٍ متنوعة تبحرُ بي في شتي فروع المعرفة،ونمت هوايتي حتي بعد تخرجي والتحاقي بالعمل كانَ معظمُ راتبي موجهاً لهذه الغاية، سعادتي كبيرة وأنا اشتري موسوعاتٍ تاريخيه كبيرة وكتباً شديدة الندرة قد لا أقراءها في حينها لكن يبقي الأمل في مطالعتها يوماً. فأنفق من وقتي الكثير في مطالعتها بل واحيانا أعودُ إلى المعاجم والكتبِ القديمة لفك لغز شخصيّة تاريخية أو فهم نصٍ بلغته الأصليّة ..وكان الأمرُ يتطورُ للبحثِ عن جزءٍمفقود في موسوعة لأسافر لبلدات أخرى والبحث لدى باعة الكتبِ القديمة من أجل اقتناء هذا الجزء وأنا يملأني الشغف و ما تخفيه جنباتُ هذا الجزء المفقود. حتّى تجمعت لدي مكتبة ضخمة. كانت دائما المكان الّذي أتوقُ إليه. مكتبتي وكتبي أصدقائي وكلّ ما أمتلك، لم أرغب بإعارة أيّ كتاب لأنّني أشعر بأنه صديق حميم يجب ألا يفارقني وأن من حولي حمقى لا يقدّرون الكتب ، ومكتبتي محصنة ضد أيّ لص أو حريق فلا يدخلها غيري، ولا حسابَ مصرفي لي في أيّ بنك بخلاف زملائي في العمل، وهذه النظارات زادتني قباحة … كانت ترجمتي الشخصيّة لكلّ هذا انني أحملُ هواية ولكنني لم أكن أتصورُ انني من جملة المثقفين المصابين بمرض الببلومانيا وانا لا أدري وهو مرضُ هوس اقتناء الكتب وأعراض هذا المرض يقعُ تحتهُ كلّ ما ذكرت. تعتبرُ الببلومانيا مرضا لأنّها تعصف بالجانب الأسري والعائلي للشخص وتصبح ملاذه الآمن بعيدا عن محيطه الخارجي ولكنها قد تحمل أثرا ايجابيا حينما يتحول اقتناء الكتب إلى نشر معرفي على الصعيد المجتمعي وليس الإيثار المعرفي الذاتي وفي هذا السبيل لابد وأن نحط رحالنا عند شخصية فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية المرأة العربية المثقفة الفريدة في سماء العلم والمعرفة التي تعلمت من سيرتها الكثير… قدِمت فاطمة ْ حفيدة عقبة بن نافع فاتح القيروان من تونس إلى عاصمة الدولة الإدريسية مع والدها الفقيه القيرواني شديد الثراء محمد بن عبد الله الفهري وأختِها مريم في أيام الأمير يحيي بن محمد بن إدريس. حيث استقر بها الحال وتزوجت ولم يشغلها هذا عن حبّ العلمِ والمطالعة واقتناءِ الكتب والمخطوطات القيّمة التي ربما انتقل إليها بعضها عن طريق والدها الراحل …
وبوفاة أبيها وزوجها قررتْ فاطمة بناءَ مسجدٍ، فبنت مسجدا ومكتبة ضخمة تحولت إلى جامعة بمضي الوقت هي جامعة القرويين وقد ضمتِ المكتبة التي تركتها ما يربو على أربعة آلاف مخطوطٍ في علوم القرآن والسنة والمعارف المتنوعة وقيل أنّها نذرت لله صوما حتى يمنّى اللّه عليها وينتهي تشييد المسجد تكريماً لذكرى والدها. وتمّ الانتهاء من تشييدِ المسجد بعد حوالي ١٨ عاما وكانت الجوامع حلقات لتدريس العلوم فغدا هذا المسجد أوّل جامعة في تاريخِ الشّعوب تمنحُ الدرجاتِ العلميّة في العالم وعنها تعلمتْ أوروبا وأخذتْ بهذا النظام الذي لا يزال حتّى يومنا هذا. وقد خرّجت هذه الجامعة- أعمدة العلوم في العصور الوسطى ومنهم المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون مؤسَّسُ عِلم الاجتماع ، وأبو الوليد بن رشد الطبيب والفيلسوف والقاضي المعروف، والطبيب الأندلسي موسى بن ميمون، والإدريسي أشهر الجغرافيين العرب ، وعالم الرياضيات والفلك الشّهير ابن البنَّاء المراكشي، وابن غازي المكناسي عالِم القراءات والرياضيات، وبابا الفاتيكان سيلفستر الذي تُنسب إليه عمليّة نقلِ الأرقام العربية إلى أوروبا هذه هي المرأة العربية التي تقرأ وتزرعُ بذور الفكر والعلمِ والمحبة في أذهانِ الأجيالِ .
استاذه راغدة شفيق محمود الباحثة في علوم اللغة
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث