إبراهيم مالك والخوف من ضياع الذاكرة
تاريخ النشر: 14/01/19 | 11:30د. محمد هيبي – أمسية الكاتب إبراهيم مالك – نادي حيفا الثقافي، الخميس 10/1/2019
الكاتب، إبراهيم مالك، رغم أنّ له بعض المجموعات النثرية، إلّا أنّه عُرف أكثر، كشاعر صدر له حتى الآن أكثر من عشر مجموعات، الأخيرة منها، “أيّتها، أيّها، أيّة ويا”، اختار لها عنوانا يبدو غريبا، إلّا أنّنا نفهم وجه الغرابة حين نتصفّح المجموعة ونرى أنّه اختار قصائدها من مجموعاته العشر، ومعظمها قصائد يبدأ عنوانها بهذه المفردات.
وحين نتتبّع إنتاجه الشعريّ، نُدرك أنّه شاعر رومانسيّ يكتب قصيدة النثر ويعتمد فيها الموسيقى الداخلية النابعة من ذاته ومن إحساسه باللغة وبعناصر الطبيعة التي يتواصل معها. ومن هنا تتداعى مفرداته وعباراته الشعرية.
وهو مغرم بالطبيعة والأساطير، ويرى فيهما أصل الإنسان ومصدر فكره وسعادته. وهو واسع الثقافة، فحين يقول عن الأسطورة، “هي الوليد البكر للعقل الإنساني”، أتخيّله يقرأ ذلك الكتاب الرائع، “مغامرة العقل الأولى”، للكاتب السوري، فراس السوّاح، الرائد والمتميّز في دراساته حول الأسطورة التي يرى فيها التجربة العقلية الأولى للإنسان.
وهو مغرم بالسرد كذلك، ففي معظم قصائده يعتمد الأسلوب القصصي، ويسرد القصيدة كحادثة عاشها، أو يُخاطب فيها شخصية إنسانية كالمرأة عامة أو “فاطمة” التي يَرِدُ اسمها كثيرا في قصائده وبدلالات مختلفة، أو يُخاطب مفهوما مطلقا كالحرية، أو عنصرا من عناصر الطبيعة يُشخّصنه ويُؤنسنه ويجعله قادرا على الفعل.
الكتابة فعل تحرّر وخلاص، ولكن يظهر أنّ الشعر عندنا، أصبح عاجزا عن القيام بهذه المهمّة، وأنّ قَدَرَ شعرائنا في الآونة الأخيرة، أن لا يجدوا كفايتهم وخلاصهم في الشعر، فيتحولوا إلى النثر، وإلى السرد بشكل خاص. وهذا ما حدث أيضا للمحتفى به، خاصة في إصداره الأخير الذي وسمه بأنّه جزء أول من عمل نثري شبه روائي، واختار له عنوانا طويلا جدا هو: “الملقب مطيع وولده، ازدادا قناعة، لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا!”.
لقد أحسن الكاتب صنعا بالوسم المذكور، إذ إنّ ما بين أيدينا ليس عملا روائيا فنّيا، ولا هو عمل متكامل من حيث المضمون، وإنّما هو عمل سرديّ قصير، لسلسلة من الذكريات التي يبدو من طريقة سردها ولغته، أنّ الكاتب “انهرق” على تدوينها وحفظها خوفا من الآتي. فهو يرى الموت يقترب، وكما يظهر، يرى أنّ انتصاره على الموت والزمن، لا يكون إلّا بإنجاز هذا العمل. وذلك رغم أنّه لا يخاف الموت، لا بل يراه ضرورة حياتية. يقول في مقدّمة كتابه، “الشعر والفنّ كما أفهمهما”: “بدأ هاجس الموت، يُصبح جزءا من أحاسيسي الدائمة. والموت كما أفهمه ليس قدرا مفروضا بل حاجة حياة، ورغم ما فيه من مآسي، هو حياة للآخرين. فالموت، أشعر لحظتها أنّه جميل في محصّلته لأنّه يعني الولادة ويعني تجدّد الحياة” (ص 6).
هذه العبارات، تشي بفكر الكاتب ورومانسيته، حتى في حديثه عن الموت. وبالإضافة إلى ما يُحيل إليه العنوان، تشهد أنّ هدف الكتاب، على المستوى الفردي والشخصي، هو حفظ الذاكرة وخلاص الكاتب من حمولة ترهقه، وعلى المستوى الجمعي العام، هو الخلاص من حالة الجمود التي يتحجّر فيها مجتمعنا منذ قرون.
ذكريات إبراهيم مالك، ترتبط فيما بينها بواسطة شخصية الشيخ مطيع وولده سعيد الذي أراه يُمثّل الكاتبَ نفسه، فكلاهما، الكاتب وسعيد، وُلِدا في “سمخ” في العام نفسه. ومطيع وابنه سعيد كسارديْن، يُمثّل كل منهما جيلا عاش نكبته ومنافيه. فالأول يسرد ذكرياته لأولاده كما سمعها منذ طفولته من والده، وكما عاشها فيما بعد. ويُشاركه ويدعمه ابنه سعيد، في سرد ما سمعه من الآخرين، وما عاشه بعد ولادته وتشرّده من “سمخ”. وهذا يُؤكّد أنّ الشيخ مطيع يخشى على ذاكرته أن يأكلها الضبع، ويريد أن يطمئنّ قبل موته، على حفظها في ذاكرة أولاده الذين يُصغون إليه ويسمعونه وينقلون عنه ويُكملون مشواره. لتصبح الذاكرة الفردية قبل موته، ذاكرة جمعية تتناقلها الأجيال. يقول: “كانت ذاكِرَتُهُ تنتعش وتعود، فيَجِدُ نفسه أشبه بذاك الطفل الذي كان يوما، وقد راح يُصغي لما حَدَّثَهُ أبوه، ذات زمن” (ص 4).
ووالد الشيخ مطيع كذلك، يستعين بغيره لنقل ذكريات شخصيات لا نعرف عنها إلّا القليل، وبأسلوب لا يكفي لبناء شخصية روائية، حيث يبدو حفظ الذاكرة هو الأهمّ، فهو هاجس الكاتب إذ يقول: “صَمَتَ الأب قليلًا، تأمَّلَ أولادهُ، رآهُم صامِتين مُصغِين، فتابع حديثه مؤكِّدًا ما يرويه آخرون” (ص 6).
الاعتراف أنّ العمل “شبه روائي”، رغم كون المصطلح فضفاضا أو مطّاطيا، يُخفّف عن الكاتب محاسبة النقد له كروائي، ولكنّه لا يُجرّده من مسؤوليته الكاملة عن عمله مهما كان شكله. فهناك الكثير مما يُمكن أن يُقال حول ضعف السرد والحبكة التي تكاد تكون غير موجودة، والشخصيات التي تفتقر لأيّ ملمح روائي فنّي. كما أن سرد الذكريات ينقطع، لا لسبب موضوعي إلّا لكونها جزءا أول سيتبعه جزء آخر. ولذلك يبدو بشكل واضح أنّ الكاتب تقوقع في الحكاية وأهمل الشكل الفنّي الذي كان من الأولى به أن يبحث عنه ليُقدّمها به. هذا بالإضافة إلى أنّ العمل قصير جدا، كان باستطاعة الكاتب أن يتروّى قليلا ويُصدر ذكرياته كلّها في عمل واحد متكامل. كما أنّ في اللغة وتركيب العبارات، أخطاء لا تليق به وكنّا نتوقّع منه لغة شاعرية تليق به كشاعر معروف. ولا مبرّر كذلك لترتيب الجمل وتقطيع الأسطر بشكل يمغط النص. ولذلك أنصح بمراجعة هذا الجزء جيدا وبنشره مرة أخرى مع الجزء التالي في عمل واحد متكامل ومنسّق جيدا.
الشيخ مطيع، هو شخصية رسمها الكاتب لنقل ذكريات أجيال تواصلت أو تماهت مع ذكرياته شكلا ومضمونا وزمنا، وهي تغطّي فترة زمنية لا تكفيها شخصية واحدة. وقد رسم شخصيات أولاده، وبشكل خاص، ابنه سعيد، ليساعده على السرد، وليضمن امتداده فيمن سوف يحمل الذاكرة لاحقا.
وعودة لا بدّ منها إلى العنوان. العنوان عادة له وظائف ودلالات كثيرة منها أنّه نصّ موازٍ يُشكّل نواة النصّ ومرآته، أو خلاصته. وهذا ما يُحيل إليه عنوان الكتاب الذي بين أيدينا. فهو يختصر الرسالة التي يحملها النصّ. “الملقب مطيع وولده، ازدادا قناعة، لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا!”.
في هذا العنوان، تناصّ واضح مع القرآن الكريم، أذ يُحيل إلى الآية الكريمة: “إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم” (الرعد 11). وهذا يؤكّد علاقة حاضرنا بماضينا، وأهمية ما يدعو إليه الكاتب من تغيير.
ويُطرح السؤال: لماذا أعادنا إبراهيم مالك، وبشكل لافت، إلى هذا النوع من العناوين الطويلة التي تميّزت بها الأعمال الأدبية القديمة؟ هل هو استلهام القديم لإسقاطه على الحديث، أو استلهام الماضي لإسقاطه على الحاضر، أو استحضار الماضي للبكاء عليه، أو لمساءلته: لماذا تحجّر فينا وتحجّرنا فيه، وقد تُرِك المستقبل جامدا خائفا يحتمي بالماضي الذي لم نتابع مسيرتنا فيه إلى الحاضر والمستقبل كما يقتضي التطوّر الطبيعي للإنسان؟ أم أنّ الدافع هو كلّ ما تقدّم، وذلك للتعبير عن ضياعنا في الحاضر المتقوقع في الماضي الذي لم نستفد منه شيئا، والذي لا تُشكّل العودة إليه إلّا تعبيرا عن عجزنا وضياعنا وإظهار مدى الخراب الذي يُميّز حاضرنا ويُهدّد مستقبلنا؟ ولهذا خلُص الكاتب بتجربته إلى أنّنا “لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا!”. وأرجو أن يكون توظيف الكاتب لهذه العبارة بدل الآية الكريمة، وعدم تعامله معها بدقّة حين ذكرها في النصّ (ص 68)، ليس انتقاصا منها أو جهلا بها، وإنّما ليبيّن لنا أنّ ماضينا غنيّ بتراث أهملناه ولم نتعلم منه، وكان الأجدر بنا أن نأخذ منه لحاضرنا ومستقبلنا. فها نحن بعد خمسة عشر قرنا نصل للنتيجة نفسها التي كان يجب أن ننطلق منها منذ أدركتْنا وأدركناها أول مرة، لنتطوّر بشكل طبيعي. ولو فعلنا ذلك لما تأخّرنا عن ركب الحضارة الذي نحتاج اليوم إلى قرون حتى نلحق به. ولن يحدث ذلك ما لم نغيّر ما بأنفسنا.
وأعتقد أنّ الدافع نفسه، يكمن وراء اختيار الاسم، “الشيخ مطيع”. فمبنى العبارة هنا، يقوم إما على التماهي أو على التناقض، فإما أنّه بهذا التركيب، يُماهي بين المشيخة والطاعة، بمعنى أنّهما في المفهوم الديني شيء واحد، إذ لن يكون شيخا إن لم يكن مطيعا. وإما أن تتعارض مشيخته مع الطاعة، بالمفهوم السياسي والاجتماعي للسلطة، من حيث يجب أن يكون هو الآمر الناهي الذي يجب أن يُطاع. وهنا يلفت الكاتب انتباهنا من خلال المفارقة، إلى حقيقة خضوعنا للقديم وتقوقعنا فيه بشكل ينفي التقدّم ويتركنا نراوح في المكان الذي لا نرسمه، بل يُرسمُ لنا.
* * * * *
يحملنا الكاتب في مضمون كتابه، من خلال الشيخ مطيع وذكرياته، إلى وطن عربي أصبح منذ أن غزاه أول استعمار وإلى يومنا هذا، مسرحا لعمليات كثيرة من التشريد والتهجيج والنزوح واللجوء والمنفى، هربا من ظلم سلطة الاستعمار. وكثيرا ما كانت عمليات النزوح، كالهارب من الرمضاء إلى النار. فالاستعمار الفرنسي الذي يحكم الجزائر، والذي هرب منه جدّ الكاتب، هو نفسه الذي يحكم سوريا التي لجأ إليها.
تُطلعنا الذكريات على أنّ الكاتب ينحدر من جدّ عربي عاش في الأندلس ورُحِّل عنها قبل 600 عام، وفي طريقه تزوّج من امرأة شاويّة أمازيغية، ثم استوطن شرق الجزائر. وعليه فالكاتب ليس فلسطينيَّ الجذور، وإنّما هو من أصول مغاربية تجري في عروقه دماء عربية وأمازيغية. ولكن، وحّده مع الفلسطينيين إلى جانب الانتماء القومي واللغة والتراث، قدرهم الذي تماهى مع قدره من حيث القهر والتشريد.
زمن “الكولون”، أو الاستعمار الفرنسي وموبقاته ومجازره التي ارتكبها بحقّ الشعوب العربية المقهورة في المغرب العربي، وخاصة في الجزائر، بلد المليون شهيد، نزحت عائلة الكاتب من الجزائر، ليصبح التشرّد والنزوح والمنفى قدرَا لها، ولتصبح حياتها سلسلة طويلة من المنافي. فمن الأندلس إلى الجزائر إلى تونس، ثم إلى الإسكندرية وحيفا، لتضع رحالها في سوريا قرب دمشق. وما هي إلّا سنوات حتى نزحت العائلة من سوريا إلى قرية “سمخ” في فلسطين، وهناك في عام 1942 وُلِد “سعيد” ابن الشيخ مطيع، وكذلك وُلد الكاتب الذي ورث التشرّد والنزوح عن أبيه وأجداده، وجاء دوره ليتشرّد من “سمخ” عام 1948، إلى أن لجأ عام 1949 إلى كفر ياسيف التي يعيش فيها حتى الآن لتصبح وطنه ومنفاه الأخير.
ومن هنا، لكلّ واحد منّا أن يتخيل هذه السلسلة الطويلة من المنافي، وهذا الكم الهائل من ذكريات مؤلمة شحنت الكاتب وأرّقته. وأكثر من ذلك، فهي تنطوي أحيانا، على مفارقات أشدّ ألماً وأقسى حزنا. مثلا، أثناء عمل الشيخ مطيع في حيفا، بلغته رسالة أنّ ابنيْ عمّه وصلا أم الرشراش، التي صارت إيلات فيما بعد، والمفارقة، أنّهما كانا في طريقهما إلى الهند الصينية، جنودا في خدمة الاستعمار الفرنسي الذي شرّد أقرباءهم، “مطيع” وأهله.
في الصفحة الأولى من النصّ، يلخّص لنا الكاتب مساره المحزن من بداياته. وكأنّه يُلخّص به المأساة الإنسانية من بدء الخليقة، “كأنّ شيئا في هذه الحياة لا يتغيّر ولا يتبدّل، وإن تغيّر فليس لصالح الجميع، وإنّما لصالح البعض المصابين بانفلاتٍ جشع بطن وجيب، شهوات جسد وعقليات عنف، قهر وسيادة” (ص 3). وهذا يُحيلنا مرة أخرى إلى العنوان الذي يختزل المسار في خلاصةٍ هي عصارة فكر يؤمن به الكاتب.
وعن هذه الفترة، ما قبل النكبة وما تلاها، يسوق لنا “سعيد” الكثير من الذكريات المؤلمة لما حدث في القرى العربية التي هُدمت وشُرّد أهلها، أو تلك التي لم تُهدم واستقبلت الكثيرين ممن شُرِّدوا رغم ما وقع عليها من ظلم. وحملت لنا كذلك، كيف تعامل الغاصبُ مع المغتصَب، وكيف وقف المغتصَبُ أحيانا، في صفّ الغاصب، أي ما حدث في الجزائر يتكرّر في فلسطين، وكأنّ التاريخ يُعيد نفسه.
في هذا العمل القصير، تنعكس ثقافة الكاتب الواسعة. استقى الكاتب ثقافته من الأسطورة، ومن المسيحية والإسلام، ومن الوجودية والشيوعية، ومن الثقافات الإنسانية كلّها. ففيه نقرأ أسطورة جلجامش وأنكيدو وبحثهما عن الحرية، ونلتقي بأفلاطون وأبناء الإله اليوناني “بوسيدون” في أسطورة “القرية الضائعة”. ونقرأ الإنجيل في: “من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”. ونقرأ القرآن في الآية التي يتناصّ معها العنوان وغيرها، ونلتقي كذلك بالباحثين عن الحرية وتجاربهم، مثل عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وغاندي وفلسفته في الحياة والمقاومة، ودستويفسكي والإخوة الأعداء. وغيرهم الكثير.
وخلاصة القول، حرية الإنسان هي هاجس الكاتب وكتابه، والفوز بها لن يحدث ما لم يكنِ الإنسان قادرا على الحبّ والإبداع، عاشقا للخير والجمال، ولن يتأتّى له ذلك ما لم يكن قادرا على تغيير نفسه وتطهيرها من أدران الشرّ والخطيئة، خاصة من العنف والجشع. وهذا ما تُعانيه اليوم الإنسانية عامة، وما نعانيه نحن في مجتمعنا العربي بشكل خاص.
وبالرغم من كل المظاهر التي تدعو لليأس، فالكاتب لا ييأس، ويبدو ذلك جليّا من إصغاء أولاد الشيخ مطيع واهتمامهم بذاكرته وحفاظهم عليها، ومن إصراره هو، الكاتب، على أن يكون معنا هذا المساء ويحدّثنا عن ذكرياته. إبراهيم مالك، كاتب وشاعر متفائل، يؤمن بضرورة التغيير، ويرفض أن يفقد الأمل بأنّ التغيير لا بدّ سيأتي.
ألقيت المداخلة في أمسية إشهار الكتاب مع الكاتب إبراهيم مالك، في نادي حيفا الثقافي، الخميس 10/1/2019