روح أبي الطيّب المتنبي الشعرية في قصيدة «أغني نشيد الحب»
تاريخ النشر: 17/01/19 | 10:48عند قراءتنا لقصيدة «أغني نشيد الحب» المُطَوّلة للشاعر الأستاذ حاتم جوعية ، نقف مندهشين وكأنّنا أمام قصيدة لأبي الطيّب المتنبي في فخرهِ بذاتهِ واعتزازهِ بنفسهِ حيث تتمحور غالبية أبيات القصيدة في كون شاعرنا لم ينكفئ على ذاتهِ بل كان ينطلق من حدود الفردية الى الذات الاجتماعية ، وأنَّ أحدات بيئته ومجتمعه كانت تملك عليهِ تفكيره ، وأنَّ نزعات في النفس والقلب كانت توجه عقله الى ارتياد شؤون المجتمع الذي يحياه ، وتصوير الناس على ضوء مثله العليا . وفي قصيدتهِ هذه يرسم في شعرهِ نواحي انسانية فيها إحاطة وشمول لكلّ ما يواجهه شخصيًا كإنسان في رحلة حياتية ملأى بالمعاناة الاجتماعية من جهة ، وبحالات الابداع الشعري المتميز التي تجعل نفسه لا تهدأ أو لا تستقر ، فحياته مفعمة بالصدمات والجراح ، ولكن نضاله وسعيه لا يتوقفان بل يزدادان مع ازياد الآمهِ ومعاناتهِ . ومن اللافت أنّ حبه العظيم وتطلّعه للمثل والمبادئ الخاصة به يدفعانه دفعًا للتعبير عن صراعات نفسه واحساساتها ، في مجتمع لا يرحم تكالبت عليهِ فيه قوى الشر والحسد والجهل ، وأدرك أنَّ في هذا المجتمع هناك مَنْ يَسْعَون كي يحدّوا من طموحاتهِ وتطلعاتهِ ، ومن ثم فهو يعمل على أن يرتفع بذاتهِ ويسمو بها متخذًا من فنهِ وأدبهِ الشعري وسيلة للتعبير عن هذا السمو ، وهذا الاعتزاز ، فإذا بشعره الذاتي في هذه القصيدة يفيض اعتزازًا وفخرًا ، فيشدّ القارئ والسامع شدًّا ، ويشعره بمدى قناعة الشاعر بما يعتقده شخصيًا في كلّ ما يقول حيث نلمس ذلك في كثير من أبيات القصيدة بشكل مباشر وابرزها قوله :
وإني أنا الصوتُ الذي بَهرَ الدُّنى- وكلٌّ ومن ابداعِ فني ذاهلُ
وفي هذا البيت ، يتبادر الى أذهاننا ويحضرنا قول المتنبي :
ودَعْ كلَّ صوتٍ ، غير صوتي ، فإنّني- أنا الطائرُ المحكيُّ ، والآخرُ الصدى
وفي لحظة من لحظات تجلياته الابداعية الشعرية ، نرى أنَّ عواطف حاتم جوعية تنطلق كلها ، فلا تلبت أن تستثيره كل قوة فيهِ ، وتجتمع كلّ قواه متحديًا وقائلاً :
إذا جاءَ ذمي مِن قميء منافق – فلا غلوَ في هذا بأني كاملُ
وهنا يتماهى شاعرنا مع قول أبي الطيب المتنبي حين قال :
وإذا أتَتكَ مذمتي مِن ناقصٍ – فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ
ويلاحظ في قصيدة حاتم جوعية هذهِ شيء من الكبرياء والأنفة أو التلميح الى أنّه هو الذي تسعى النساء إليهِ كما نرى في البيت التالي :
وكم من فتاةٍ تبتغيني حليلها – وتشتاقُ وصلي دائمًا وتُغازِلُ
ويضيف شاعرنا قائلاً في هذا السياق :
ولكن هوى الأوطان في القلب والحشا – وغير هوى الأوطان مَنْ سيعادلُ
لأجلِ هوى الأوطان أرخصتُ مهجتي – وفي الذوذِ عنها لا يكونُ تخاذلُ
وفي هذين البيتين يتضح لنا أنَّ شاعرنا ليس متهالكًا على النساء شأن غيره من محبي الترف وأسارى الشهوة الجامحة . وفي ذلك ما فيهِ من الاعتداد بالنفس والحرص على الكرامة حتى في الحب ، وكذلك من منطلق شعور حاتم جوعية بعروبتهِ واعتزازه بثقافته العربية وبعروبته الثائرة ، ووطنيتهِ الأصيلة في هذا المجتمع الذي سادت فيه قيم الفساد والانحرافات الدخيلة بكل ما تحملهِ من تدهورٍ وتردٍ على مختلف الصُعُد والمستويات .
وهكذا فإنه يبدو أنَّ شاعرنا حاتم جوعيه قد نظم هذه القصيدة في ظل العظمة يطلبها لنفسهِ ، ويسبغها على ذاتهِ ، فهو لم يستطع في كلامهِ هنا الخروج عن روح الذاتية أيًّا كان مظهرها ، فحديثه عن نفسهِ لم يعرف الفتور على مدار أبيات هذه القصيدة الطويلة التي كانت في خدمة العظمة الذاتية التي يراها من حق نفسه في مجتمع فسدت فيهِ الأخلاق
والسياسات ونحن نستشعر هذهِ المعاني في قولهِ :
وشعري للابرارِ وردٌ وعنبرٌ – ولكن على أهلِ الفجورِ زلازلُ
دخلتُ أنا التاريخَ من كلّ منفذٍ – وعنديَ أعمالٌ سَمَتْ ورسائلُ
ومما تجدر الإشارة إليه في قصيدة حاتم جوعية هذهِ أنَّ شاعرنا مُتقِنٌ لفنون اللغة والبيان ، يسيطر على اللغة والعبارة سيطرة تامّه ملحوظة ، فتنقاد له اللفظة ، وتصبح أداة أداء بحروفها وموسيقاها اللفظية وموقعها من غيرها حيث يدل ذلك الى فرادة تفكيره وعمق نظره ، وجلاء بيانهِ ، لا سيما في الألفاظ والعبارات والقوافي التي تزدحم مادة استصغار وتقبيح . إنّه السخط والاشمئزاز والاستنكار في تعابير معينة ، وأنه الاستصغار في الألفاظ والتعبيرات والصور كما يتبين في المختارات التالية من أبيات القصيدة :
وفي مَجْمَعِ الأوغاد ما نِلْتُ مركزًا – «ولا ذنبَ لي إلاّ الندى والفضائلُ»
وفي مَجْمَعِ الأوباشِ فالنذلُ سيِّدُ – وأما كريمُ النفسِ دومًا يماطِلُ
أرى كُلَّ مَنْ نالَ الوظائفَ خِسَّةً – لمزبلةِ التاريخِ ، والمالُ زائلُ
وأخيرًا وليس آخرًا ، فإنَّ شاعرنا في قصيدتهِ هذهِ قد كانت كلماته صادرة من الأعماق ، حافلة بالتأثر ، شديدة الاندفاع في اندفاقها ، وسلاستها ، ونبض عاطفتها ، مما يؤكد أنَّ الشاعر حاتم جوعية يمتاز بشاعرية فريدة متألقة رفيعة المستوى لفظًا ومعنى وايقاعًا وموسيقى حيث بلغ في نظم آرائهِ في هذه القصيدة الأوج في التعبير فكرًا وأسلوبًا ، فكان الشاعر المبدع في الجمع بين قوة الانفعال والإحكام ، فجاءت أبياته حافلة بعصف الثورة والعنفوان، والزخم النفسي الإيماني المبدئي ، والمستقاه جميعها من تجربتهِ الحياتية وتأملاتهِ في ما انتابه من معاكسات الأيام ، ومناوآت الحسّاد وتقلبات هذا الزمان . فلهُ منّا أصدق التحيات وأطيب التمنيات بموفور الصحة ودوام التوفيق وبالمزيد من الإبداع والعطاء .
مختارات من هذه القصيدة الطويلة :
أغنِّي نشيدَ الحُبِّ تزهُو المَنازلُ . وَتخضَرُّ صحراءٌ وتجري جداولُ
سَمَوتُ بفنِّي رغمَ كيدِ حَوَاسِدٍ . وَغيري بأجواءِ البلاغةِ قاحلُ
وَإنِّي نبيُّ الشِّعرِ رائدُ أمَّتي . تسيرُ على دربِي القويمِ جَحَافلُ
وَقدَمتُ أعمالا يشعُّ سناؤُهَا . وَجئتُ بما لم تَستطِعْهُ الأوائِلُ
بعزمٍ وَجُهدٍ إنطلقتُ إلى السُّهَى . وللدَّركِ غيري ، في العمالةِ ، نازلُ
سيشهدُ لي التاريخُ في العلمِ رائدًا . وفوقَ جفونِ الشَّمسِ إنِّي لوَاصِلُ
وفي ذمَّةِ الأجيالِ نهضة أمَّةٍ . لقد أثقلتهَا في الخطوبِ نوازِلُ
ستنهضُ مثلَ الطودِ رغمَ جراحِهَا . وإبداعُهَا للعالمينَ مَناهِلُ
قهَرْتُ أنا الموتَ الزُّؤامَ بهمَّةٍ . وَأبعَثُ كالفينيقِ ، للكونِ شاغلُ
وَلو أنّني عصرَ المَعَرِّي شَهِدْتُهُ . لكانَ لشعري شاهِدًا لا يُجامِلُ
أبو الطَّيْبِ ما كانَ النبيَّ بشعرهِ . وأشعارُهُ في الفخر لا تتداوَلُ
ولكّنني في عصرِ كفرٍ وخِسَّةٍ . بهِ يُرفعُ الشُّعرُورُ يَمرَحُ سَافلُ
لقد كرَّمُوا المَعتُوهَ ..كلَّ مُنافق. أمَّا الكريمُ الحُرُّ هُمْ قد تجاهَلُوا
أنا الحبُّ والآمالُ والوردُ والندى . أنا النارُ والإعصارُ عِشقيَ قاتلُ
تكأكأ كلّ ٌ قربَ كلكلِ خيمتي . وكان انطلاقٌ للعُلا لا يُمَاثَلُ
وكلٌّ غدا بالعزمِ والحزمِ مُترَعًا . وكلُّ لنجمٍ في السَّمَاءِ لطائِلُ
سأبقى على ثغرِ الزّهورِ بشاشَةً . وَترنيمَةً طولَ المَدَى تتناقلُ
وَينسابُ صوتُ الأرضِ يدنو مُعَانقًا . شفافَ قلبٍ خَضَّبَتهُ النَّواصِلُ
وفي جنَّةِ الأبرارِ أبقى مُخلَّدًا . ونارُ جحيمٍ للبُغاةِ تزاولُ
أرى تحتَ شسْع النعل كلَّ وظيفةٍ . إذا كان للشّيطانِ فيَها المُقابِلُ
وَإنِّي لِربِّي دائمًا لِيَ مُرْتَجًى . إلهٌ مُحِبٌّ مُستجيبٌ وَعادِلُ
إلهٌ كريمٌ جُودُهُ غمَرَ الوَرى . وَفي كلِّ خطبٍ لا يُخيَّبُ سائلُ
وَمَن يجعلِ اللهَ مَنارًا لِدَربهِ . نجاحٌ لهُ كلَّ الجوانبِ شاملُ
وَقد صارَ شعري صوتَ كلِّ مُناضلٍ . يخوضُ اللظى، وسطَ اللّهيبِ يُقاتلُ
سيبقى يَراعي للشّعوبِ منارةً . وَيُذكي نفوسًا ، تستنيرُ قوافلُ
وَمَن يصنع التاريخَ مِن نزفِ جُرحِهِ . رفيقي على دربِ التَّحرُّرِ باسِلُ
هنا أوَّلُ الأحرار أخرُ مَن قضَى . وَحَوليَ أزهارُ الرُّبَى تتمايَلُ
أسيرُ على دربِ التَّحرُّرِ والفدا . دِمائي لكلِّ الثائرينَ مَشَاعِلُ
أموتُ لِيَحْيَا كلُّ طفلٍ مُشَرَّدٍ . وَيُطلقَ مأسُورٌ ويفرَحَ ثاكِلُ
وينعمَ كلُّ الناسِ بالسَّعدِ والمُنى . وَتخضرَّ جَنَّاتٌ وتزهُو خمَائِلُ
ستبقى فلسطينُ الأبيّةُ جَنَّتي . وفيها مُقيمٌ والغريبُ لراحلُ
ومهما يَطُلْ ظلمٌ فلا بدَّ ينجلي . وَفجرٌ سيأتي ، إنَّ ليليَ زائِلُ
كانون الثاني 2019
( الدكتور منير توما مع الشاعر والإعلامي حاتم جوعيه )