الوقف الإسلاميّ – مشروع حياة
تاريخ النشر: 19/01/19 | 9:33مشروعية الوقف وأصله
بوحيٍ من قوله تعالى : {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} فقد تسابق الصحابة إلى التصدق, كلٌّ بأحب أمواله إليه، فها هو أبو طلحة الأنصاريّ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله: إن الله يقول :لن تنالوا البر…(الآية)، وإن أحب أموالي إلي بير حاء وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله” وها هو عثمان بن عفان رضي الله عنه يشتري بئر رومة في المدينة، وجعلها وقفاً على المسلمين وها هو عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يصيب أرضاً في خيبر ويضعها لمنفعة الناس عامةً على ألا تُباع ولا تورث. وكان أول وقف في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي حين قدومه إلى المدينة مهاجراً. ثم المسجد النبوي الذي بناه بعد أن استقر به المقام. وأول وقف خيري عرف في الإسلام هو وقف سبع بساتين بالمدينة، كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق، أوصى بها إلى النبي قبل مقتله في أحد فحاز النبي تلك البساتين السبعة، فحبسها لمصلحة المسلمين. ثم تتابعت الأوقاف بعد ذلك في أوجه البر والخير. وعلى مرّ العصور تطورت إدارة الأوقاف، فبعد أن كان الواقفون يقومون بأنفسهم على أوقافهم ويشرفون على رعايتها وإدارتها، قامت الدولة الاسلامية بإنشاء هيئات خاصة للإشراف عليها، وإحداث ديوان مستقل لتسجيلها.
ماهية الوقف وأشكاله
قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” والصدقة الجارية هي من أصول الوقف على ما اتفق عليه العلماء.
والوقف لغةً يعني الحبس أو المنع، واصطلاحاً هو “حبس العين (الأصل) عن تمليكها لأحد من العباد والتصدّق بالمنفعة على مَصرفٍ مُباح”. ويشمل الوقف الأملاك الثابتة كالعقارات والمزارع، والمنقولة التي تبقى على حالها بعد الاستفادة منها, لكن التي تذهب وتفنى بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام. ويختلف الوقف عن الصدقة في أن الصدقة ينتهي عطاؤها بانفاقها، أما الوقف فيستمر المُلكُ المحبوس في الإنفاق في أوجه الخير حتى بعد الوفاة.
وللوقف أربعة أركان رئيسة، لابد من توافرها في كل وقف : موقوف (وهو الملك الذي انعقدت النيّة على جعله لمصلحة العامّة), موقوف عليه (وهي الجهة التي سيوهب لها الموقوف كمسجد أو لجنة خيرية أو مدرسة أو دار أيتام أو نحو ذلك) صيغة وقف (وهو اللفظ الذي يعبر عن نية الوقف بحيث تكون الهبة لهدف مشروع غير مشروط وغير محدود بالزمن) الواقف (وهو صاحب الملك الذي يستطيع التصرف بماله الذي كسبه بالحلال, دون أموال الناس وهو المكلف الرشيد؛ فلا يصح من صغير أو سفيه أو مجنون). وينقسم الوقف إلى نوعين: الوقف الأهلي (الذري):ما جعلت فيه المنفعة لأفراد معينين أو لذريتهم سواء من الأقرباء أو من الذرية أو غيرهم. والوقف الخيري: ما جعلت فيه المنفعة لجهة بر أو أكثر وكل ما يكون الإنفاق عليه قربة لله تعالى. وقد يكون الوقف مشتركاً وهو ما يجمع بين الوقف الأهلي والخيري.
مشروع حياة صوب الإندثار
لقد كان لمشروع الوقف الإسلاميّ على مدى التاريخ أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية وامتدت لتشمل المساجد وصيانتها وإمامتها ونظافتها مع المرافق التابعة لها والدعوة والجهاد في سبيل الله كتجهيز الجيوش وتسليحها ونشر الدعوة بين الأمم، والمدارس ودور العلم والمكتبات التي ازدهرت وأنبتت أجيالا من العلماء الذين فاخرت به الأمة الإسلاميّة الدنيا، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأرامل، والمؤسسات الصحية. إنّ نظام الوقف الذي ابتكره المسلمون (وحاكاه الغربيون) امتثالا لأمر الله تعالى بالتعاون والبذل والانفاق والتكاتف في بناء المجتمعات وإعمار الأرض بات مهمّشاً ومُباحاً في القرون الأخيرة بعد أن كان نظام الوقف الإسلامي على مدى قرونٍ خلت صورة من أروع صور التعاون الإنساني وينبوعاً فياضاً من ينابيع الخير حيث هدفت مؤسسات الوقف لضمان بقاء المال ودوام المنفعة به واستمرار العائد من الأوقاف المحبوسة لما يفيد الناس في معيشتهم وتعليمهم وصحتهم ومناسكهم, حتى آلت حال الأوقاف في العصور الأخيرة الى التدهور والجمود والإهمال، وتعرضت ممتلكاتها بسبب ذلك، إلى الانهيار والخراب، فقلت عائداتها وتضاءلت منافعها ورغم محاولات الإصلاح إلا انها لم تؤت الثمار المرجوة خصوصا بعد دخول البلاد الإسلامية مرحلة الاستعمار الذي أدرك أن أهم المؤسسات التي تدعم الطبقـــة المتعلمة الواعية في وقوفها في وجه سياسة الاستعمار وخططه هي المؤسسات التي تعتمد على الوقف كالمساجد والمدارس والزوايا والأربطة. لهذا عمد المستعمر إلى التدخل المباشر في شؤون الوقف ومؤسساته، تحت ستار إصلاح إدارتها وتحديث أنظمتها، وكان هدفه الحقيقي هو الحد من الدور الإيجابي للوقف ومؤسساته، خاصة في تنشيط الوعي الوطني ودفع حركة مقاومة المستعمر. وبانتهاء عهد الاستعمار، دخلت البلاد الإسلامية عهداً جديداً من التطور السياسي والاجتماعي تمثل في نشوء نظام الدولة الوطنية الحديثة على النمط الغربي وسارعت لإلغاء النظام القديم للأوقاف ووضع ممتلكاته تحت الإدارة الحكومية الرسمية.
صرخة استغاثة
إن المؤامرة الممنهجة التي دُبرت بليل على يد المحتلّ لطمس معالم الوقف الاسلامي ونهبه واستباحته (ويا لحسرتنا عندما نتيقن أن الأمر لكثرتما تيسّر للمحتل بعونٍ من القائمين المؤتمنين على أوقافنا) لهي امتدادٌ لقلع جذور الشعب الذي تشبث بأرضه في هذي البلاد فالمحتل مدركٌ أن اموال الوقف كانت غديرا يروي طلبة العلم ويثقفهم ويوعيهم للتمسك بحقهم فكان الحلّ الأمثل هو نضوب هذا الغدير وتجفيف مصادر تمويل المدارس والمعاهد كي ينشأ جيل من الحطابين يستجدي خبز ملة من غاصبه.
هذه صرخة استغاثة لانقاذ الوقف الاسلامي (وهو كثيرٌ وفيرٌ وغزير) في ربوع هذه البلاد من يد الذين خانوا الأمانة أولا ثم من يد الطامعين بنهب أموال حكم الله ورسوله حكما لا يقبل النقض أنها للمسلمين وحدهم.