هِيَ تَعْشَقُ ذاتَها في عَيْنَيْكَ- نَثيرَةٌ- بقلم: محمود مرعي
تاريخ النشر: 27/01/19 | 15:54قالَتْ عَرَّافَةُ الـمُفاجَآتِ الصَّباحِيَّةِ للشَّاعِرِ الـمُوغِلِ في الهَذَيانِ الرَّبيعِيِّ.. حَتَّامَ تَظَلُّ مُسافِرًا فيها، وَكُلَّ يَوْمٍ تُشْفى مِنْها لِتَعودَ إِلى مَرَضِكَ بِها.. أَفِقْ أَيُّها الـمَجْنونُ، فَصَخْرَةُ الفَجْرِ فَتَّتَها الضَّوْءُ وَأَنْتَ في مَكانِكَ القَديمِ لَمْ تَبْرَحْ مَرَضَكَ، وَلَمْ تَلِنْ صَلابَةُ العِنادِ فيكَ وَإِصْرارُكَ عَلَيْها وَحْدَها.
قالَ: في ذاكِرَتي بَقِيَّةُ ضَوْءٍ سَأُسافِرُ عَبْرَها زَمَنًا جَديدًا.. رُبَّما أَلْتَقيها عَلى طَرَفِ الشُّعاعِ غَرْبَ انْعِكاسِ الوَقْتِ فَوْقَ مُخْمَلِ ظِلالِهِ سُهولًا وَخُصوبَةً.. رُبَّما أَعودُ بِها مِنْ هَناكَ قَبْلَ الوَمْضِ الـمُتَعَرِّجِ عِنْدَ تَقاطُعِ الذَّاتِ بِالذَّاتِ في سَحيقِ أَبْجَدِيَّتِها.. وَرُبَّما رَجَعْتُ الكَلامَ القَديمَ الأوَّلَ عَلى شِفاهِ رُعاةِ اللُّغَةِ البِكْرِ ما قَبْلَ إِخْصابِ السُّباتِ..
قالَتْ: هِيَ لا تَعْرِفُكَ.. فَقِفْ مَرَّةً عِنْدَ يَقْظَةِ الوَعْيِ فيكَ مِنْ سَرابِها وَمِنْ خَدَرِ الكَلامِ.. قِفْ عِنْدَ هَبَّةِ الإِدْراكِ حَتَّى لا تَتَحَوَّلَ ذِكْرى مُناسَبَةٍ في دَفْتَرِ يَوْمِيَّاتِها.. هِيَ لا تُحِبُّكَ.. فَلَدَيْها جُنونُها القَبَلِيُّ الأوَّلُ لَمْ تَنْسَلَّ مِنْهُ مُذْ شَرَّشَتْ فيهِ أَنينًا وَحَنينًا لِوُجودٍ سَيَأْتي بَعْدَكَ.. حينَ تَغْرُبُ مِنْ سَمائِها ما قَبْلَ السَّماءِ.. هِيَ تَعْشَقُ مَرَضَكَ بِها أَيُّها الـمَمْسوسُ بِالضَّوْءِ الصَّباحِيِّ وَالأَثَرِ الجِلْجامِشِيِّ وَالأُنْثى فيها.. هِيَ تُحِبُّ أَنْ تَظَلَّ مَريضًا بِها فَقَطْ.. هِيَ تُحِبُّ ذاتَها في عَيْنَيْكَ، فَلَمْ تَمْنَحْها البُحَيْراتُ عَلى اتِّساعِ حَياتِها ما مَنَحَتْها عَيْناكَ.. هِيَ تَعْشَقُ ذاتَها في عَيْنَيْكَ.. أَنْتَ لَسْتَ أَكْثَرَ مِنْ فاصِلَةٍ لِلنَّفْيِ بَعْدَ تَجاوُزِكَ إِلى آخِرِ مَتْنِها حَيْثُ نَقْطَةُ إِثْباتِها بِنَفْيِكَ.
قالَ: لكِنَّها تَسْكُنُ القَصيدَةَ مُنْذُ مَنَحْتُها صَكَّ دُخولِها.. لا زالَتْ فيها وَالقَصيدَةُ فِيَّ.. وَالقَصيدَةُ تُخْبِرُني كُلَّ قافِيَةٍ أَنَّها تَنْتَظِرُني عِنْدَ كُلِّ فاصِلَةٍ قَبْلَ اسْتِئْنافِ النَّبْضِ في السَّطْرِ جُنونًا مُشْبَعًا بِعِطْرِها الرِّيفِيِّ.. القَصيدَةُ تُخْبِرُني أَنَّها لي وَتَنْتَظِرُني رَيْثَما أُفْرِغُ ذاتي في ذاتي الشِّعْرِيَّةِ وَجْهَ مَجازِ القَمَرِ الحِنْطِيِّ أَوَّلَ الرِّوايَةِ.. وَأَقْرَأُ كِنايَتَها الـمُعاصِرَةَ لِأَعْثُرَ عَلى الفَرْقِ بَيْني وَبَيْنَ مَجازِيَ القَمَرِيِّ.
قالَتْ: كَمْ أَنْتَ مَجْنونٌ أَيُّها الوافِدُ مِنْ أَرْضِ الخَيالِ وَخِصْبِ الوَهْمِ إِلى أَرْضِ وَهْمِ الخِصْبِ في رُؤاكَ، عُدْ إِلى الخَيالِ فَلا حَياةَ لَكَ خارِجَ بَرْزَخِهِ.. هُنا مَوْتُ الكَلامِ وَقَبْرُ اللُّغاتِ.. هِيَ لَمْ تَقْرَأْ مَعاجِمَ الهَذيانِ وَلَمْ تُصَبْ بِحُمَّاكَ اللُّغَوِيَّةِ في الـمَرْئِيِّ مِنْكَ، وَلَمْ تُبْحِرْ في الشِّعْرِيِّ فيكَ.. وَلا انْتَثَرَتْ في الـمَنْثورِ مِنْكَ فَوْقَ هُدْبِها ساعَةَ اسْتَلَّها مِنْكَ الخَدَرُ.. وَلَمْ تُسافِرْ عَبْرَ خَيالِكَ طَرْفَةَ نَبْضٍ مُرْتَدٍّ.. هِيَ تُحِبُّ اسْمَها في شِعْرِكَ وَما يومِضُهُ فيها مِنْ خُلودٍ جَديدِ كُلَّ قَصيدَةٍ..
قالَ: وَلكِنَّها قالَتْ لي قَبْلَ الطَّريقِ الأَخيرِ صَوْبَنا.. إِنَّها مُمْتَلِئَةٌ بي هَذَيانًا يَفوقُ ما أَنا عَلَيْهِ فيها.. قالَتْ إِنَّ الوَرْدَ عَلى الجِدارِ القَديمِ فَتَّحَ وَاخْضَرَّ قِرْميدُ السُّطوحِ.. وَفاضَ الوَقْتُ عَنْ إِناهُ حَياةً.. قالَتْ إِنَّ الشَّمْسَ كُلَّ صَباحٍ بِلا شُعاعٍ.. كَأَنَّ كُلَّ صَباحٍ يَتْلو لَيْلَةَ قَدْرٍ مُقَدَّرَةً لَنا..
قالَتْ: أَيُّها الغارِقُ في مَوْتِكَ الآنِيِّ الـمُشْبِهُ آخَرَكَ الرَّعَوِيَّ قَبْلَ إِدْراكِ الـمَجيءِ.. هِيَ خَرْساءُ الهَوى ناطِقَةُ الصَّمْتِ لا أَكْثَرَ.. هِيَ لا تَعْرِفُ القُدومَ القَديمَ وَلَمْ تَكُنْ هُناكَ.. فَلا تَزْعُمْ ما لا يُزْعَمْ.. ربَّما سَمِعْتَها في حُلُمِكَ الوَرْدِيِّ أَوَّلَ قافِيَةٍ مُطْلَقَةِ التَّقْييدِ.. فَأَنْتَ لا زِلْتَ هُناكَ كُلَّكَ.. أَنْتَ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ إِلى الزَّمانِ.. لا زِلْتَ حِكايَةً مَسائِيَّةً تُشْبِعُ بِكَ طُفولِيَّتَها..
قالَ: أَسْمَعُ صَهيلَها في أَصْغَرِ أَوْرِدَتي حَتَّى أَكْبَرِ شِرْيانٍ.. أَسْمَعُها في الجِوارِ تُناديني.. أُحِسُّها تُنَّمي طُفولَتَها كَيْ تَليقَ بِرَعَوِيَّةِ بِدائِيَّةِ الـمُفْرَداتِ نَشيدًا.. أَراها تَصُبَّ ماءَ وَجودِنا عَلى صَقيعِ الغُروبِ وَتُنْبِتُ الشَّروقَ.. أَرى وَجْهًا لِلزَّمانِ تَدارَكَها ناهِدًا بِكْرًا وَتَوَقَّفْ..
قالَتْ: لا جِوارَ لِلْجِوارِ وَلا زَمانَ لِلزَّمانِ.. كُلُّ ما هُناكَ أَنَّكَ آخَرُكَ القَصِيُّ عِنِ الوَقْتِ الجَديدِ.. مَتى تُدْرِكُ أَنَّكَ لَسْتَ أَكْثَرَ مِنْ بوصَلَةٍ لِاتِّجاهاتِها.. سَتَجْتازُكَ مَتى وَصَلَتْ غايَتَها وَنِهايَةَ مَطافِها فيكَ.. فَلا تَكُنْ بَعْدَ القَصيدَةِ وَشْمَها.. وَاشْنَها إِذْ لَمْ تَكُنْها وَلَنْ تَكونَ.. كُنْ أَنْتَ وَحْدَكَ حَتَّى تُشْفى مِنْها وَمِنْ شَقائِكَ الـمُزْمِنِ بِها مُذْ عِدَّانِ(1) وَعْيِكَ بِكَ قَبْلَ تيهِكَ..
كُنْ وَقْتَكَ وَطَريقَكَ وَشِعْرَكَ وَحْدَكَ.. يا ابْنَ وَحْدِكَ- لا أَبا لَكَ- كُنْ أَنْتَ مَرَّةً وَارْجِعْ إِلَيْكَ مِنْها.. كُنْ أَنْتَ لا سِواكَ.. لا زالَ صَهيلُكَ غائِرًا في شِعابِها وَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُ صَدى هَواكَ.. لا زِلْتَ بابًا مُشْرَعًا عَلى غِيابِكَ إِنْ شُفيتَ مِنْها وَرَجَعْتَ إِلَيْكَ.. فَتَوَقَّفْ عَنْ عَزْفِها أَغاني غَجَرِيَّاتِ السُّفوحِ فَلَنْ تَبوحَ لَكَ وَلَنْ تَروحَ إِلَيْكَ.. لا زالَتْ تَرْقُصُ عَلى إِيقاعِكَ وَتَنْتَشي كُلَّما عاقَرَها خَدَرُ حُروفِكَ ساعَةً مِنْ عِناقِ الحَمامِ.. هِيَ تَعْشَقُ ما تَنْثُرُ حُروفُكَ مِنْ سُنْدُسٍ عَلى طَريقِها.. وَما يَتَساقَطُ مِنْ نُجومٍ.. هِيَ تُلاعِبُ النُّجومَ تَرْقُصُ في حَلْقَةِ وَجْدِ مَعَها بَيْنَ شَرْبِ الكَلامِ العَتيقِ..
هِيَ لا تُدْرِكُ مِنْكَ غَيْرَ سَرابٍ لِغَزالٍ فِينيقِيٍّ.. مَسَّهُ حَرْفٌ مُخَدِّرٌ وَجَرَّدَهُ دُعاءً مَرْيَمِيًّا رَوَتْه عَيْنُ ياقوتِهِ.. هِيَ لا تَراكَ.. هِيَ تَرى وَجْهَها في حُروفِكَ كُلَّما اشْتَعَلَ آخَرُكَ الشِّعْرِيُّ.. أَنْتَ مِرْآةٌ لَها تَحْتاجُكَ وَقْتَ زينَتِها فَقَطْ..
———–
(1) عِدَّان: كلمة عربية فصيحة وهي مِمَّا أمتناه استعمالًا فعاشت في العبرية (עידן)، وفي اللِّسان: أَبو عبيد: العِدَّانُ الزمان؛ وأَنشد بيت الفرزدق يخاطب مِسْكينًا الدَّارِمِيَّ لَـمَّا رَثَى زيادًا:
أَتَبْكي على عِلْجِ، بِمَيْسانَ، كافِرٍ.. ككِسْرَى على عِدّانِه، أَو كَقَيْصَرا؟
قال الأَزهري: وسمعت أَعرابيًّا من بني سعد بالأَحْساءِ يقول: كان أَمْرُ كذا وكذا على عِدَّانِ ابن بُور؛ وابنُ بُور كان واليًا بالبَحْرَيْن قبل استيلاء القَرامِطَة عليها، يريد كان ذلك أَيَّام ولايته عليها.
وقال الفراء: كان ذلك على عِدَّانِ فرعون.