قصة “رحيل جوليت” للكاتبة ميسون أسدي “الدير حيفاوية”
تاريخ النشر: 28/01/19 | 11:04تَتمرْكزُ أحداثُ هذهِ القصّة، للكاتبة ميسون أسدي، حوْل امراةٍ تُدْعى “أم وفيق” وقد تجاوزت التّسعين مِن عُمْرها وتعيشُ في عُزلةٍ قاتِلَة وبعيدة، في عالَمِها، عن ضوضاء هذا العالم البارِد، حيثُ لا يلعبُ “الزمنكان” دوراً فاعِلًا في هذه القصّة، وهذا هو برْنامجُ الكاتبة منذُ البداية، لأنّها تُريد أن تقولَ لنا بِإنّ ما يحدثُ لأم وفيق قد يحْدث في كلٍ زمانٍ ومكانٍ لأيّ شخْص كان. وبِهذا تَتخطّى الكاتبة في قصّتِها الهادِفة هذهِ حدودَ المكانِ السجينِ والزّمانِ المكسورِ لأم وفيق لِتُحلّقَ في فضاءٍ إنساني رحب ليكونَ قادرًا على اسْتيعابِ صوتِها الخاص، ولتُذكِّرنا بِنفْس الوقت، نحن القرّاء، بأنّ زمانَنا فقد توازُنه وأصبح وحيدًا لأننا تخلّيْنا عنه فهجرتْنا الطيورُ وبقينا ننتظُرها علّها تعود “فَنَخَرَتْنا الوحدة حتى العظم”.
إنّ القراءة المُتأنِّية لهذا النّص تكشِف لنا عن المواضيع المختلفة – مثل الوحدة والفراق بأشكاله المختلفة والفرح والحزن واللوعة والأبناء والبنات والتّبنّي والحبيب الذي رحل والخ -، التي تُعالجها الكاتبة من خلال السَّرد الشَّيّق والبسيط وبنفس الوقت الهادِف، والذي يبحث عن رؤية إنسانية شامِلة. ولكن يبقى الموضوع الأساسي والمكثّف لِهذه القصّة هو موضوع “الحب”.
فالكاتبة تتساءل ولكن تشكو، من خلال بطلتها، عن الوحدة التي تعيشها أم وفيق، فهي” تعاني من وحدة نفسيّة قويّة نتيجة نقص في العلاقات الودودة مع الآخرين، خاصّة مع أبنائها وأحفادها الذين سكنوا بعيدا في بلدات غير مدينتها، ومنهم من هاجر إلى خارج البلاد، فارقوها الواحد تلو الآخر، وكان أول من فارقها زوجها الذي رحل وهي ما زالت في ريعان شبابها. ووحدتها النفسيّة، هي نقطة البداية لكثير من المشكلات التي تعاني منها العجوز، فقد أصبح يغلب عليها الشعور الدائم بعدم السعادة والتشاؤم”.
فمن خلال هذا الوضع المحزن الذي تعيشه بطلة القصة تُوجِّهُ ميسون أسدي نقدها، وبشكل غير مباشر وغير مُفتعل، وبدون توجيه إصبع الاتهام، إلى شريحة كبيرة من مجتمعنا التي تعيش مثل هذه الظروف غير الإنسانية.
واختيار الكاتبة لاسم بطلتها “أم وفيق” ليس عشوائيًا، فهو يُملي بعدًا رمزيًا مُتميِّزًا وإضافيًا على مشروعها السّردي المتكامل. فكلمة “وفيق” تعني الرفيق ومن صفاتها، الرفقة الجميلة والتعهد والكلمة الجادة وحب مساعدة الناس والوفاء وطيبة القلب وما الى ذلك. وهذه الصفات تفتقدها أم وفيق بعد أن تركها أحبابها وأهملها أفراد أهلها.
فالكاتبة تعي ما تكتب وما تقول، وتُطلِق العنان لبطلتها لتقول ما يُحْزِنها وما يُؤلمها نتيجةً لهذه الوحدة القاتلة. وهنا تقوم الكاتبة بطرح البديل لهذا الوضع المليء بالفراغ “وللوحدة النفسية” التي تعيشها بطلتها، من خلال عرض “مشروع الحب” لإعادة التوازن الى العالم الداخلي لها حتى لا تذهب التجربة سدى. وللتّعبير عن هذا المشروع تتَّكِىء ميسون أسدي على استراتيجية التّناص من أجل الوصول إلى مكانٍ قادر على التصالح مع ذاته وزمنه حتى تنقذ أربعةَ وتسعين عامًا من الانكسار الأخير. فهنا تُحسن الكاتبة بذهابها خارج حدود الوطن واختيارها لقصة حب عالمية مشهورة للأديب والشاعر الإنجليزيّ شكسبير “روميو وجوليت” وهي عبارة عن عمل مسرحي تراجيدي يموت بنهايته بطلة وبطل المسرحية. ولكن الكاتبة أسدي في قصتها المتشعِّبة الرُّؤى تنتهج مسارًا تفاؤليًّا مختلفًا، وعلى النّقيض لشكسبير ، بأنّها بعثت “السرور والأمل والعزاء” في قلب بطلتها بعد أن فقدت هذه حبيبَتها “جولييت” وتركت روميو وحيداً حزيناً، كأم وفيق، في قفصه. ولكن وحدة روميو لم تطُلْ، لأن ابنة أم وفيق، والتي لا نعرف اسمها – ولربّما وفيقة – لم تتحمّل ألم وبكاء والدتها المرّ فذهبت الى السوق وعادت بعصفورة كناري وأدخلتها إلى القفص فبَدَّدَتْ من وحدة روميو فقفز يزقزق وأعادت بذلك الفرحة إلى قلب أمّها الوحيد.
تريد الكاتبة في هذه القصّة، ومن خلال معالجتها لقضية الحياة والموت وقضية الفراق والوحدة وبالتركيز بالذات على مشروع الحب والدِّفء، تريد أن تُعيدَنا قليلًا إلى بساطة الأشياء وإلى جدل الطّبيعة وإلى البدايات التي رحلتْ والى الرّفق بالحيوان والرّفق بالإنسان وتريد أن تُذكِّرَنا بالذين رحلوا وما زلنا نحبهم والذين بقوْا وما زلنا نحبهم حتى في وحْدتِنا. وبهذا تترك لنا ميسون أسدي بالنّهاية شعلة من نورٍ وبخورٍ وفسحة أمل برغم برودة وقساوة “الطّقس” الذي نعيش به.
تفتح الكاتبة لنا في هذه القصّة أُفقًا بنفسجيًّا وفضاءً قرمزيًّا وتتركنا لِوحْدِنا، وبوحْدتِنا، نختار الطّريق…
بعض السطور عن الكاتب
صالح سروجي من مواليد مدينة الناصرة ويقطن في ألمانيا، ويعمل كمحاضر في جامعة بايرويت في ألمانيا، وحائز على لقب الدكتوراة في مجال الأدب الفلسطيني في أطروحة عن أعمال الكاتب الراحل اميل حبيبي. للكاتب اصدارات بمجال الشعر والنقد الأدبي والمقالة القصيرة والأبحاث العلمية.
بقلم: د. صالح خليل سروجي – ألمانيا