أُُعجوبة زعتر الجِدار
تاريخ النشر: 08/02/19 | 13:03أُُعجوبة زعتر الجِدار
The Miracle of the Wall’s Hyssop
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها الكاهن عاطف بن ناجي بن خضر الحفتاوي (ليڤي بن أبيشع بن فنحاس هحڤتئي، ١٩١٩-٢٠٠١، من الشخصيات السامرية البارزة في القرن العشرين، خبير في قراءة التوراة، شاعر ومفسِّر، كاهن أكبر ١٩٩٨-٢٠٠١) بالعربية على الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤-) الذي بدوره نقلها إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. – أخبار السامرة، العددين ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٧٩-٨٢.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون وعدد البيون حوالي ١٦٠ بيتا، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين، الأمين (بنياميم) وحسني (يفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”قِصص عن كهنة كِبار
قلّما تجد كاهنًا سامريًا أكبرَ في الأجيال الأخيرة، لا تدور حوله قِصص كثيرة. قِصص حصلت في غضون خدمته، حيث ترافق شخصيته في خلفيتها، وقصص أخرى تلعب فيها شخصيته دورًا رئيسيا. كما أنّ هنالك قصصًا عن الكاهن يعقوب بن هارون (أهرون)، كذلك ثمة مجموعة قصص تتعلّق بشخصية الكاهن الأكبر توفيق بن خضر الحفتاوي (متسليح بن فنحاس هحڤتئي). هنالك قصص كثيرة حول شخصيات من الأوائل والأواخر، سائدة في ما بيننا. هكذا سمِعنا من آبائنا الذين سمِعوا من آبائهم . توجد قصص حول عجائبَ شاهدْناها نحن بأُمّ أعيننا، كما شاهدها آخرون يعيشون بين ظهرانينا. لا يمكن تفسير كلّ أُعجوبة، ولكن هناك أمر واحد واضح لجميعنا: كلّ ما حدث، ما يحدُث وما سيحدُث هو بإرادة الله. على سبيل المثال، أعجوبة إنزال المطر بواسطة الكاهن يعقوب بن هارون التي وقعت في مستهلّ القرن الغابر، وقد أكدّها المسنّ الحكيم فهمي بن عبد الرحيم السراوي الدنفي (نڤون بن عبد هَرحوم هستري هدنفي) ابن الاثنين والثمانين عامًا، الذي رآها بأُمّ عينيه.
الكاهن الأكبر توفيق (متسليح) المبجَّل
هنالك كما نوّهتُ قِصص كثيرة حول الكاهن الأكبر توفيق بن خضر. أودّ أن أسرُد عليكم واحدة من هذه القصص التي حدثت في صِباي، بالرغم من أنّني كنت يافعًا أكثر من اللازم لأفهم ما يحدث. على كلّ حال، أبي الكاهن الأكبر ناجي بن خضر، شقيق الكاهن الأكبر توفيق الذي جاء بعده كان يُكثر من سرد هذه القصّة التي أحببْنا سماعها أنا وشقيقاي مرارًا وتكرارا. من الممكن سرد القصص طَوالَ أشهر كثيرة بدون انقطاع. ساعات وأيّام لا تكفي لذلك. ما زال مجايلي يتذكّرون منظره المبجّل، ذقْن أبيضُ طويل، طويل القامة، جسمه عريض ثابت. عندما كان ينزِل من الحيّ القديم إلى مركز مدينة نابلس، كان كلّ من يصادفه في الطريق، ينحني تقديرًا واحترامًا له.
كان عمّي الأكبر مثيرًا للإعجاب، ذا نفوذ على الجميع، لا أحدَ جرُؤ على عِصيانه. وإذا ما أخطأ أحدهم ذات مرّة، فإنّه سُرعانَ ما ندِم على ذلك وحاول التكفير دون أن يُطلب ذلك منه. تدور القصّة حول مرضِ مسعودة (زهره)، زوجة الكاهن الأكبر توفيق. أَحبّها كلّ أفراد الطائفة ورُحّب بها كزوجها في كافّة بيوت السامريين. ذات يوم مرِضت زوجة الكاهن الأكبر وغدت طريحة الفراش. كان مرضها عصيبًا لدرجة أنّها لم تقوَ على تحريك يد أو رِجل. كانت تتفحّص ما حولها بنظرة حزينة. تفاقمت حالتها لدرجة أنّها توقّفت الناس عن الاعتقاد بتحسّن وضعها. وضعها الصحيّ كان جِدَّ عصيب.
كان الكاهن الأكبر توفيق، يكُنّ المحبة والاحترام لزوجته، وقد سبّب له مرضُها هذا حزنًا شديدا. كما أنّ أبناء الطائفة الذين درجوا على عيادتها مِرارًا، كانوا يهزُّون برؤوسهم أسفًا، والعارفون منهم أحصوا أيّامها وقرّروا بأنّها لن تجتاز الشهر القادم. كان الكاهن الأكبر مفعمًا بالأسى الشديد بسبب علّة زوجته التي تصغُره سنّا. استدعى لها خيرة أطباء نابلس، مصطفى البشناق وزميله واصف عبد الهادي اللذين لا نظيرَ لهما في معرفة الطبّ في كلّ الشرق الأوسط. كانت تلك المرّة الوحيدة التي اتّفق كلا الطبيبين فيها بصدد تشخيص حالة مسعودة. كلاهما، كلّ على حِدة، هزّ برأسه أسفًا وقال بحزْم للكاهن الأكبر” لا يُمكن عمل أيّ شيء، هذه مشيئة الله، لا نستطيع إنقاذها، إنّنا لا نعرِف حتّى ما تشخيص مرضها“.
أدرك الكاهن الأكبر توفيق أنّه لم يتبقّ له بعد عجز الطبّ في الإعانة، سوى الإكثار من الصلاة والابتهال للخالق كي يُنقذ زوجته الحبيبة، ولكنّ الصلوات والابتهالاتِ أيضًا لم تُجدِ نفعا. تدهورت حالة مسعودة الصحيةُ يومًا بعدَ يوم، أُصيبت بالشلل وفقدت وعيها. تنفُّسها المتقطّع فقط شهِد على أنّها ما زالت حيّة تُرزق. رفع الكاهن الأكبر توفيق عقيرتَه طالبًا من الله ألّا يُميت زوجته؛ لكن يبدو أنّه قد كُتب على مسعودة التي يُحبّها كلّ أبناء الطائفة لقاء ربّها.
تسعة أطبّاء أُسطوريين
استمرّ الكاهن الأكبر في قيادة طائفته ومزاولة عمله ناطقًا باسمها أمام المؤسّسات المحلية، وشارحًا عنها لآلاف الضيوف التي كانت تزور نابلس في غضون سنوات خدمته للطائفة. حدث ذات يوم أنّه بينما كان الكاهن الأكبر جالسًا يبكي حزينًا على زوجته المحتضرة، دُعي للكنيس القديم في الحيّ العتيق. أخبره الغلام أنّ مجموعة من السوّاح الأفاضل تنتظره في مدخل الكنيس بفارغ الصبر، على أحرَّ من الجمر، متطلّعة لرؤية أقدم مدرج للتوراة في العالَم.
قدِم الكاهن الأكبر توفيق إلى الكنيس واستقبل كعادته الضيوف، وفسّر لهم ما تيسّر. تسعة ضيوف كانوا، لباسهم أوروبي مُهندم وسماتهم تدلّ على أنّهم أفاضل. لاحظ رئيس المجموعة أنّ مِزاج الكاهن الأكبر ليس على ما يرام، وسمِع الضيوف بدهشة عارمة عن سبب ذلك: ”لماذا وجهك متجهّم اليوم (مش على بعضك)؟ ورأينا وجهك كوجه الله“؟ ”ماذا أقول لكم، وماذا أقُصّ، وماذا أعتذر والله قد وجد اثمي؟ – قال الكاهن الأكبر بصوت يتصبّب أسىً وحسرة ”زوجتي تحتضر!“. أبلغ الكاهن ضيوفه عن حالة زوجته، وكم كانت الدهشة شديدة، عندما تبيّن بأنّ كلّ التسعة هم أطبّاء مشهورون، موجودون في البلاد لمناسبة مؤتمر طبّي. ليس هذا فحسب، بل أنّهم يحمِلون معهم حقائبهمُ الطبية. ”خُذنا من فضلك إلى بيتك“! قال رئيس المجموعة للكاهن الأكبر – ”لنكشفَ عن وضع زوجتك الحبيبة الصحّي“.
الزعتر الذي في الجدار
كان من الواجب أن تروْا المشهد، كيف أنّ أحد الحاضرين لم ينسه حتّى هذا اليوم. وقف الأطبّاء التسعة حول سرير مسعودة، وكلّ واحد منهم وضع سمّاعته على بطنها لقياس نبضات القلب وتنفّسها. تفحّص كل الحضور بتوتّر شديد ما يجري منتظرين ماذا سيحدث. على حين غِرّة رفع رئيس مجموعة الأطبّاء رأسه وأخذ يتفحّص أركان الغرفة، عندها دُهشنا بسماع زعيقه المنفعل قائلًا ”هيا ليتسلق أحدكم ويجلب لي من رُكن السقف بعضًا من الزعتر المتدلي منه“!
في البداية ظننّا أنّ جنونًا مسّه. تسلّق واحد إلى السقف وقلع النبتة الخضراء الموجودة في كل بيت في الحي العتيق. تفحّص الطبيب النبتة عن كثَب وقال ”لا تخافوا، مسعودة ستتعافى من مرضها، خذوا ورقتين من النبتة واغلوهما بالماء ثم أسقوها منه قليلًا قليلًا، مرّة واحدة كلّ ساعة. إنّها ستتعافى، وستعود كما كانت بعد ثلاثة أيّام“. هذا بالضبط ما قاله الطبيب ونحن لم نصدّق ما سمعنا، هكذا قصّ عليّ أبي ولكن قمنا بما قال. لا تُصدّقوا، كلّ حكمة الطبّ لم تجد نفعًا في حين أنّ هذه النبتة الصغيرة الحقيرة من الزعتر الأخضر في الجدار قد نفعت.
التفت الكاهن الأكبر توفيق ليشكر الأطبّاء على مساعدتهم ولكن يا للعجب، لم يبق ولا واحد منهم في الغرفة. أرسل الكاهن سُعاة خلفهم ولم يعثروا عليهم. أكانوا هؤلاء أطبّاء بشرًا أم رُسلَ الله؟ لا تسألوني. أبي لم يعرف وأنا بالتأكيد لا أعلم“.
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي