مهنة الله الأساسية
تاريخ النشر: 11/02/19 | 8:55مهنة الله الأساسية
ترجمة
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي سردها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رتسون بن بنياميم بن شلح تسدكه هتسفري، ١٩٢٢-١٩٩٠، أبرز مثقّف سامري في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامريين في العصر الحديث، خبير بقراءة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية. جامع تقاليد قديمة، مرنّم، شمّاس، قاصّ بارع، كاتب أصدر حوالي ثلاثين كتابًا وهي مصدر لكتّاب ونسّاخ معاصرين، شاعر نظم قرابة الثمانمائة قصيدة، تعلّم منه باحثون كُثر عن التراث السامري؛ سمّاه المرحوم زئيڤ بن حاييم، أعظم باحثي الدراسات السامرية في عصرنا ”أستاذي ومرشدي“] بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم)، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٨٢-٨٦. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”ناموس/بَعُوض بعيدٍ عنّك
الطقس حارّ، حارّ جدّا. في غضون الأُسبوع من الممكن تدبّر الأمر بفضل المكيّف، من الممكن التنفّس ولكن في يوم السبت الخماسيني، كما هي الحال في هذه الأيّام، كلّ يوم موجة حرّ شديد، صعوبة في التنفّس وبالكاد تخرج الصلاة من الفم. سنة حارّة كهذه لم تكن. الملجأ الوحيد الذي يمكن التفكير فيه في يوم السبت، هو التواجد على جبل جريزيم. على قمّة هذا الجبل، في أحضان الأحراش وليس في قرية لوزا حتّى، أروع طقس في العالَم صيفًا؛ ينشرح القلب عند الجلوس هناك، والنظر إلى مرج البها المغمى عليه من جرّاء الحرارة. نسيم عليل يهبّ بين القِمم، أمّا في الأسفل ، ثمّة في المرج ضباب كثيف من الحرّ. لا نحسدهم، فليحسدوننا.
أُنظرإلى الجهة الجنوبية الغربية حيث سلسلة جبال المستعمرة الجديدة ”بْراخه“، الواقعة على نفس علوّ قمّة جبل جريزيم تقريبًا، ولكن كيف يكون الطقس هناك خانقًا من الحرّ، بينما هنا على قمّة الجبل، يهُبّ نسيم بوادر الربيع المنعش؟ الجواب: برَكة الله تحوم فوق جبل جريزيم طَوالَ اليوم، وتقطن بين سفوحه، لا تفسيرَ آخر. لا ناموس أيضا، لا في حولون ولا على جبل جريزيم. الطقس في حولون حارّ جدّا، ولكن لا وجود للناموس. مفتّشو قِسم الصحّة في البلدية كانوا قد أبطلوا في الوقت الصحيح تفقيسَ الناموس، وقضوا عليه قبل الخروج من البيض. كل الاحترام، حقّا. ولكن عندما أتذكّر ماذا كان في الماضي، عندما كنا ننهض في الليالي منتفخين من لسعات الناموس، يستولي عليّ وهن عام. لا اعتراضَ لي على أيّ مخلوق خلقه الله، ولكن ربّما يشرح لي شخص ما لأجل ماذا ولأجل من خلق الله الناموس؟
الكاهن إسحاق بن عمران بن سلامة
أَقُصّ عليكمُ اليوم عمّا باستطاعة الناموس مصّاص الدماء، أن يُسبّب. هذا يُذكّرني بالقصّة التي سمعتها عن الكاهن إسحاق بن عمران بن سلامة، قبل أن يصبح كاهنًا أكبر. في منتصف الحرب العالمية الأولى، سنة ١٩١٦ وبعد وفاة الكاهن الأكبر يعقوب بن هارون، أصبح كاهنًا أكبر. قبل ذلك تمكّن من رؤية الكثير، أين لم يكن؟ كان في إنجلترا وفرنسا، وإذا وصل لهاتين الدولتين فما أبسط السفر من نابلس لدمشق أو إلى الإسكندرية والقاهرة؟
كان كاهنًا حكيمًا، يُروى عنه أنّه حفِظ القرآن والعهد الجديد عن ظهر قلب، ليتسنّى له الخوض في جدال مع رجال الدين المسلمين والمسيحيين. وفي جداله مع اليهود كانت له الغلبة، وقد رويت عن ذلك غير مرّة. وكان لمظهره المثير للإعجاب أبلغ الأثر في ذلك. لم يكن مديدَ القامة ولكنّه ذو جسم ممتلىء، ذقنه كستنائية عريضة، وكلّ هذا أضفى عليه مظهرًا أخّاذا. عندما كان يفتح فاه، رأى الجميع أنّ لمظهره الأنيق رصيدًا في الكلمات الخارجة من القلب والمخترقة للقلب. تحلّى بموهبة في إدارة المفاوضات في كلّ موضوع، في التجارة أو في ما بين السامريين وأبناء الديانات الأخرى. من الممكن متابعة الحديث عن الكاهن إسحاق بن عمران، ولكن دعنا نُرجىء ذلك لإحدى القصص الآتية.
في فندق في الإسكندرية بمصر
المهمّ أنّ الكاهن إسحاق بن عمران بن سلامة، يصل ذات يوم مدينة الإسكندرية. يبدو أنه كان في طريقه إلى القاهرة، أو كان له شغل ما هناك، فأشغاله قبل أن يصبح كاهنًا أكبر كانت كثيرة. نزل في أحد الفنادق الذي اعتاد النزول فيه عند تواجده في هذه المدينة، وبما أنّ المساء قد اقترب وأضحى الشارع خاليًا من المارّة، صلى الكاهن إسحاق صلاة المساء، ثم خلَد للنوم إذ أنّه كان مرهقًا من اهتزازات السفينة التي أقلّته من ميناء يافا للإسكندرية. ولكن الناموس خطّط شيئًا آخر، كان يضايق الكاهن أحيانًا إلى أن استيقظ في آخر المطاف ليرى من الذي يعكّر راحته إلى هذا الحدّ، بدون اعتبار واضح. تلمّس في الظلمة مصباح الكاز من الطراز التركي الموجود في الغرفة، أشعله واقترب به من فراشه. دُهش مما رأت عيناه، أسراب أسراب من الناموس كانت منضّدة على وسادته، يمكن تخمين عددها بالآلاف. لم يكن هناك أيّ داع لطردها بتلويح اليد، لأنّها ستعود مستغلّة الظلمة لمصّ دم الكاهن. طار النوم من جفونه، وأيقن أنّه لن يقدر على العودة للنوم مجددا. كانت تلك ليلة صيف قائظة جدّا.
عزم الكاهن على إيجاد ملجأ خارج الفندق. خرج إلى شوارع الإسكندرية المعتمة. وبما أنّ ذلك حصل في منتصف الشهر، كان بالإمكان رؤية الطريق على نور القمر. تابع الكاهن إسحاق تجواله في الأزقّة التي بين الشوارع، واستراح على الأقلّ من هجومات الناموس. هبّ النسيم من البحر وخفّف من الحرّ قليلًا، ولكن سُرعان ما شعر بإعياء في رجليه ورام الراحة لجسمه. بينما كان خارجًا على مهل من أحد الشوارع، وها هو يسمع أصوات ضحك وغناء. فضوله قاده نحو مصدر الأصوات. رأى نورًا ينطلق من أحد البيوت في ركن الشارع. أيقن أن الأصوات منطلقة من هناك. اقترب من المكان بخُطىً راسخة وكأنّ المكان مغنطيسا. كان الكاهن متعطشًا لرفقة الناس أيّ ناس، إذ أنّه لم يرغب في الرجوع إلى فراشه في الفندق، فالناموس هناك له بالمرصاد. استغرب الكاهن كيف من الممكن سماع أصوات الضحك والغناء في ساعات ما بعد منتصف الليل، وظنّ بينه وبين نفسه، أن ذلك قد يكون احتفالًا امتدّ طويلا. دخل الكاهن إسحاق إلى مدخل البيت الموصل إلى القاعة المركزية، وبالحال تأكّد أنّه في حانة. قعدت شِلّة من الرجال في وسط القاعة، تُصدر قهقهات وتنبيهاتٍ بصوت عالٍ، تنقل غليونًا طويلًا من الواحد للآخر، وكل واحد منها يأخذ نفَسًا (ينشق) طويلًا ملء رئتيه، ويُصدر تأوّه لذّة. علم الكاهن إسحاق أنّ خُطاه قادته إلى مكان لم يرغب في الوصول إليه، وقبل أن يشعروا بوجوده أسرع في الرجوع على أعقابه لمغادرة المكان، إلا أنّه تأخّر. ناداه أحد أفراد المجموعة: ”يا حاجّ، إلى أين أنت ذاهب؟ تعال شرِّفْنا بمعيّتك!“ عرف الكاهن أنّه إن لم يُطع سيُلحقون الأذى به. اقترب بتردّد (إجِر لقدّام وإجر لورا) شيئًا فشيئًا من الزمرة. وعندما رأوه يقترب منهم هبّوا واقفين إجلالًا له ليجلس.
الله النجّار
بدا لهم بعِمامته الحمراء كرجل دين مسلم من الطبقة العليا، وإن أضفنا إلى ذلك ذقنه الكبيرة المائلة إلى الاحمرار (جينجية) فهذا كافٍ لأن ينظر إليه أفراد الزمرة بذهول كبير. ومن البديهي أنّ كبير المجموعة قد أخلى له مكانه ودعاه للجلوس عن يمينه. كانوا جالسين على فراش عريض بشكل دائري، يتفرّسون في الكاهن. شخصيّة الكاهن التي تجلّت لهم من خلال ضباب الحشيش الذي غلينوه متمتّعين به لم تُوقع بهم بعض الرهبة فحسب بل إنّ دخان الحشيش أضاف إليها غموضًا مضاعفا. الكاهن إسحاق الذي كان ذا تجربة بكلّ أصناف الرجال، من أفضلهم إلى أسوأ أسوئهم، بدا له أن هؤلاء يندرجون تحت الصنف الثاني، جلس في مكانه وجلس خلفه الجميع في حين أنّ أكبر الشلّة سنًّا كان يسأل الكاهن بانفعال – ماذا بوسع الحاج المحترم، هكذا ظنّوا الكاهن، أن يجلب لهم من بشرى النبيّ. من المفروغ منه أنّ المسنّ قد قصد محمدًا نبيهم، إلّا أن الكاهن أجابهم ممّا ورد في توراة موسى ولاقت إجابته رضاهم واستحسانهم.
”أرى يا سيّدي الحاجّ أنّك لم تنل نصيبك؟“ قال له أكبر الشلّة سنّا. علم الكاهن من تجربته الغنية أنّ المسنّ قد قصد أنّ الكاهن لم يتشرّف باستنشاق دخان الحشيش من الغليون الذي بيد المسن. علم الكاهن أنّه إن لم ينضمّ إليهم فسيلحقه أذى. هزّ الكاهن رأسه من أعلى إلى أسفل مقرًّا بأنّه لم يدخّن بعد، تناول من يد المسن الغليون الطويل. تابعه الجميع بانتباه شديد. أدنى الكاهن الغليون إلى فيه واستنشق دخانه، إلّا أنّه حرص على ألّا يبلعه، ورويدًا رويدًا سمح له بالخروج من مِنْخَرَيه. أحسّ مع كل هذا بالرضا، إلا أنّه علم بأنّ الاستمرار بالتدخين قد يؤدّي إلى الإدمان مثلهم وهذا بالتأكيد لم يرده. بكياسة فائقة لم يُلب الكاهن طلب المسن في استنشاق الدخان ثانية وقال إنّه قام بواجب احترام المضيفين، ويفضّل السجائر التي في جيب معطفه. قال وفعل، أخرج أنبوبًا (بزّ) طويلا من جيبه وأثبت فيه لفافة لفّها بالتبغ المعطّر المحفوظ في كيس صغير من القماش. كما حرص الكاهن على توزيع السجائر على الجالسين الذين أثنوا على هذه التقدمة.
”يا سيّدي الحاجّ“ – قال أكبر الزمرة سنًّا، ”ربّما أسبغت علينا بشيء من الحكمة الإلهية لدى رسوله، وقلتَ لنا ما وددنا سماعه منذ زمن، فالله أرسلك هذه الليلة لتزفّ لنا ذلك – ما هي مهنة الله؟ لكلّ واحد في العالَم مهنة، نعرف أنّ الله خلق كلّ المهن، ولكن ما كانت مهنته هو؟ بأيّ شيء منشغل الله تبارك، سبحانه وتعالى؟ نحن على يقين بأنّ الجواب في جعبتك وقد دخلت قلوبَنا“.
”ألا تعرفون ما مهنة الله؟، فالأمر ها هو بسيط“ – أجابهمُ الكاهن إسحاق. ”إفتح فاك لنتعلّم“ – ردّ أكبرهم سنًّا وكان الجميع أذانًا مصغية. ”الله سبحانه وتعالى نجّار هو“ – قال الكاهن إسحاق بن عمران. ”نجّار؟“ – استغربت المجموعة بصوت عالٍ ”نجّار هو الله، خالق كلّ المهن، لماذا تقول ذلك؟ وماذا ينجُر؟“
”ينجُر سلالم، سبحانه وتعالى“ – جاوب الكاهن إسحاق بن عمران ”ينجر سلالم”. ”سلالم؟، لماذا سلالم؟“ – تفاقم استغراب المجموعة. ”سلالم لمخلوقاته“ أجاب الكاهن إسحاق بحزم ”منهم من يصعَد درجات السلهم ومعظمهم ينزلون منه. الله، سبحانه وتعالى، يرفع من يشاء في السلّم ويُنزل من يشاء“. ضحكت الشلة موافقة على كلام الكاهن – ”حقًّا إنّك حكيم كبير يا حاجّ، هيّا إمض في الجلوس والتدخين معنا“. أسرع الكاهن معتذرًا، ”كلّا، لأنّي منهك من مصاعب رحلة البحر، وعليّ العودة إلى فندقي قبل توجّهي إلى القاهرة؛ أعذروني لأنّني ملزَم بالمغادرة بالرغم من أنّي أصارع بشدّة رغبتي في البقاء معكم والتشرّف بالجلوس في معيّتكم“.
وقف الكاهن إسحاق على رِجليه وقامت كلّ الشلّة إجلالًا له وتبجيلًا لحكمته الوافرة. وقد قام أحد أفراد الشلّة بمرافقته حتّى الفندق تقريبا. وفي صعوده إلى غرفته قال الكاهن لنفسه – هنالك حقًّا في العالم مجالسة أسوأ من مجالسة الناموس“.