شرخ من الرحيل .!
تاريخ النشر: 14/02/19 | 12:17من الذكريات التي حفرتها بلدنا في ذاكرتي ..
الأحداث المتعلِّقة بسليم الشَّرخة ..
سليم الشَّرخة .. رجل كان يدور في أزقَة القرية , قابضاً على رقبته بكلتا يديه و يصيح :
” الشَّرخة على رقبتي .. يا ناس ! .. يا عالم ! ..ارحموني من
الشَّرخة.!
أما نحن أولاد البلد , فنلحق به , ونحن نصيح بأعلى أصواتنا :
يا سليم يا إلي بلا مخ
يا إلّي قدَّك قد الفرخ
يا إلّي بتخاف الشَّرخ
أنت واحد بدَّك طخ
فيلتقط الحجارة من الطريق , فنفرُّ منه هاربين , و فيلحق بنا , وهو يرمي الحجارة باتجاهنا , تلحقها الشتائم .
كان متَّفق عليه , من قِبَل أهل القرية , أنه أصابه مسٌّ من الجنون.!
سألت أمي مرة ,عن سبب اصابته بالجنون فردَّت :
” هذا بسبب عَملتُه السّودا .! ” .
وعرفت منها , ما سبب تسميته ” سليم الشَّرخة !” .
و لماذا تركته زوجته , مصطحبة أولادها معها .!
ولماذا لا يلومنا الكبار .. ولا يحاولون منعنا من مضايقته .!
كان يسكن وحيداً في خشَّة صغيرة , أما طعامه وشرابه , فكان من صدقات أهل البلد .!
أهل البلد , الذين دخلت الشفقة الى قلوبهم , وغفروا له ” عَملته السودا “, بعد رأوا ما حلَّ به من ضيّاع ..
أما قصته , فهي على لسان كبار السن في البلد ..
يقولون أن زوجته , فقد غافلته وأخذت أولادها , وهربت بهم الى جهة , لا يعرف مكانها أحد .
كان ذلك بعد الحادثة بأيام .!
والحادثة بدأت ,عندما سمع الجيران أبا حسين , ينادي بأعلى صوته:
“هِي يا ربيحة ! ..هِي يا ربيحة ! .. هاتِ الشَّرخة ولاقيني .!”.
كان أبو حسين , ينادي على طول صوته .. وهو يصعد, باتجاه بيته , الذي يقع في أعلى التلة ..
أطلَّتْ زوجته ربيحة من فوق ..عندما ترامى صوته الى مسامعها..
“هي يا ربيحة ! .. هي يا ربيحة ! .. هاتِ الشَّرخة ولاقيني .!”.
استمر أبو حسين بمناداة زوجته , بعد ان استطاع التغلِب على لهاثه المتواصل .
” لعله احتاج للشَّرخة في عمله .!” قالت ربيحة في نفسها .. “سألاقيه بها لأريحه من طلوع الحبلة .!” أكملت وهي تتجه الى مخزن العدَّة ..
حملت الشَّرخة .. ومشت باتجاه زوجها ..
عندما التقت به في منتصف الحَبَلة .. مدَّ رقبته وصاح بها : “اقطعي راسي يا ربيحة .! .. اقطعي راسي يا ربيحة .! ”
” فال الله ولا فالك .. سلامة راسك يا أبو حسين .!”.
قالت , وهي تحاول حبس ضحكة , لتمنعها من الإفلات منها ..
” اقطعيه ! اقطعيه ! .. وخلصّيني منه .!” استمر أبو حسين بناشدة زوجته أن تفعل ما يطلب منها ..
كانا يعرفان أنه لا يقصد ما يقول ..
كانت هذه عادته , عندما يقع في مقلب , ينصبه الناس له .. أو يفشل في تنفيذ مهمَّة طُلب منه تنفيذها ..
” مالك شو صار معك .!” .. سألته بخبث .
” الجرّة .! الجرَّة .! يا ربيحة .!” صاح لاطماً باكياً ..
” أية جرَّة .!؟ ”
” جرَّة ملانه ذهب ! .. ملانه ذهب يا ربيحة ! .. ذهب ملانه يا ربيحة .!” .استمرَّ باللطم والبكاء .
“وين لقيتها .!؟ ” سألته والدهشة تجتاحها ..
“لقيتها في خشِّة الحاج محمود .!”.
“وشو عْمِلتْ فيها .!؟” .
“سلَّمتها لصاحبها لسليم المسعود .!!”.
” مِدْ راسك .. والله هيك راس بدّو قطع .!”.
قالت وهي تهوي بالشَّرخة باتجاه رأسه ..
وكان سليم المسعود قد استأجره , ليقوم بهدم خشّة , كان قد اشتراها من الحاج محمود السعيد , الذي باع الخشَّة , ورحل مهاجراً الى بلاد الشتات , بعد أن أتته ألأخبار ,ان اليهود يبحثون عنه , لأنه كان مع الثوار .!
بعد إسبوع , صلى العشاء , وبدأ يحضِّر نفسه لينام ,سمع طرقاً قوياًّ على باب بيته , قام من مكانه وفتحه , فوجد خلفه محمود ابن العبد المختار:
خير .! يا ولد .! سأله بضيق شديد ..
أبوي عايزك ضروري .! قالها الولد, وهرب من أمامه .
لبس ملابسه , وخرج من بيته , متجهاً الى بيت المختار , وعندما وصلها , وأدخلوه وجد في ضيافة المختار : محمود السعيد ,وعدد من وجهاء البلد و صاحب الخشّة القديم ..
فبادره المختار بالسؤال :
أنت إلي هدمت الخشّة !؟ , إلّي كانت ملك محمود السعيد !؟
– آه .. أنا ..!
– شو لقيت فيها .!؟
– جر ..جرّة ذهب ..!
أكمل متلعثماً .. والخوف يتسرَّب الى حوّاسه ..
– وشو عمِلتْ فيها ..!؟
قال المختار بلهجة .. فيها وعيد وتهديد ..
– سلَّمتها لصاحب الخشِّة .. سليم السعيد ..!
ردَّ بلهجة من يحاول , أن يسحب نفسه من مأزق ..
– أنت متأكِّد أنك سلّمتها إلو .!؟ هو أنكر انه شاف الجرَّة .!
سأل المختار , وهو يغرز موجات عينيه , المحذِّرة من عواقب عدم قول الصدق ..
– أن متأكد مثل ما أنا شايفكم ..!
أجاب بلهجة الواثق مما يقول ..
” إنت بتعرف أن هذا المال لعائلات الثوار .. وَفَّروه عند محمود “ليوم عوزة ” , لمثل هذه الأيام إلي فيها الناس تَشَتتْ .! ومحمود رجع من بلاد الشَّتات , ليرجع المال لأصحابه .!؟” .
المختار كان يتكلَّم , والدماء تغلي في عروق أبي حسين .. ولم عجز عن منعها , انفجرت نشيجاً ,يصاحبه سيل من الدموع ..
ولما استطاع أن يتمالك نفسه ..بدأ يقسم الأيمان الغلاظ أنه سلَّم الجرة لسليم , ولم يأخذ منها ذهبة واحدة .. ظلَّ يقسم لهم حتى تأكَّد أنهم صدّقوه .
وعندما رجع الى بيته , دخل على ربيحة , وكان سلطان النوم قد أسرها .. بدأ يصرخ :
” نايمه يا ربيحة .. قومي اصحي .. قومي وهاتي الشَّرخة , واقطعي راسي فيها ..!” .
ولما لاحظ أنها استطاعت , بعد جهد جهيد , أن تفتح عينيها استمر بالصياح :
” بتعرفي لمين الذهب إلّي في الجرَّة .!؟ للثوار وأيتام الثوار وأرامل الثوار .!!
وهسَّ عرفتْ , ليش أصر سليم , بهذه السرعة ,على هدم الخشّة..!
وهسَّ عرفت ليش , ما كان يفارقني , إلا وقت الصلاة .!
تبيّن إنه كان معاه خبر الجرّة !
والعجيب أني إلقِيتها , لمّا راح يتوضأ ويصلّي .!”.
فرفعت ربيحة يديها الى السماء ابتهلت :
“الله لا يجزيه خير .! بدّو يوكل حرام .. مال أرامل ويتامى .!!؟
انتظر أبو حسين , حتى استولى النوم على زوجته . فتح الباب بخفة, وخرج من الغرفة ,وأغلقه وراءه بهدوء شديد , توجه الى مخزن العدة , فتحه وتناول منه الشَّرخة , وسار في الطريق متوجهاً بيت سليم ..
“اليوم يومه الأخير في هذه الحياة .! ” قال مقاوماَ ,أحاسيس الخوف التي بدأت تتسلل الى نفسه ..
كان الظلام والسكون , يحكمان إغلاقهما على بيوت وأزقَّة البلد .. مشى من زقاق الى زقاق , حتى وصل باب بيت سليم ..كان يعرف أن سليم ينام لوحده على سطح منزله , في فصل الصيف ..
وجد البوابة مفتوحة , دخل منها فوجد السّلم الخشبي أمامه , توجه إليه صعد على درجاته , حتى وجد نفسه بجانب سليم , الذي كان شخيره “يعمِّ” الحارة .
رفع الشَّرخة فوق رأسه , وناداه :
سليم ! ..سليم .!
فتح سليم عينيه , فاصطدمت عيناه بالشَّرخة , فصاح والهلع يقطِّع قلبه :
“طنيب عليك .! أنو إنتَ !؟ .. ليش حاطت الشَّرخة فوق راسي.!؟”.
فصرخ أبو حسين مهددأً :
انا أبو حسين يا حرامي .. يا إلّي ما فيك دين ولا ر حمة ..!
فردَّ مستعطفاً :
شو بدّك منّي ..!
سأله وهو يحرّك الشَّرخة فوق رأسه :
وين جرة الذهب يا حرمي !؟
فردَّ سليم بتوسل :
راحت ما ليش علم فيها .!
فصرخ أبو حسين متوعداً :
ما لكش علم فيها ..!؟ أنت بتعرف لمين الذهب , إلّي في الجرَّة .!؟
هذا لأبناء ويتامى الثوار .!
حرّك أبو حسين الشرخة , باتجاه رقبة سليم وهو يهدِّد :
بدّي أقطع راسك , واريِّح الناس منَّك .!
ردَّ سليم باستسلام :
خلص .. ! خلص ..! دخيلك ..أن بعطيك الجرّة ..! الحقني ..
نزل سليم السلم ..وأبو حسين يتبعه .. دخل الى خشَّة صغيرة , كان يستعملها كمخزن .. ورجع يحمل الجرَّة , تناولها أبو حسين ,وأرجعها الى أصحابها .
يوسف جمّال – عرعرة