صديقٌ ورفيق بقلم د.حاتم عيد خوري
تاريخ النشر: 09/03/19 | 11:00فقدت حيفا مؤخرا البروفيسور بطرس ابو منّة ففقدت بفقدانِه قامةً بارزة ورمزا مميزا من رموزها الاكاديمية والاجتماعية. لقد حدث هذا وانا في خارج البلاد، فلم اتمكن من ايفائه بعضا من حقه علينا جميعا، ومن الادلاء بشهادة حقّ تأبى ان تُعتقل.
لقد كُتب وقيل وسيُكتب ويُقال الكثيرُ الكثير عن بروفيسور بطرس ابو منة: المؤرخ، المحاضر، الباحث، الاكاديمي، الرجل صاحب الثقافة العميقة الواسعة. اما انا فساكتب الان عن بطرس الصديق الوفي والرفيق المثابر والانسان المتواضع.
تقاطعت طرقُنا لاول مرة قبل ما يربو على ستين سنة. كنت آنذاك شابا غضّا تطأ قدماه لاول مرة، ارضَ مدينة القدس الغربية في طريقي نحو الجامعة العبرية. جابهتْني قضيةُ السكن، فوجدتُ من نصحوني بالتوجه الى شاب عربي اسمه بطرس ابو منة يسكن في شارعٍ حُرِّف اسمُه فاضحى “ماميلا” بدلا من “مأمن الله”. حرارةُ استقبالِه وسرعةُ تجنّده ونجاعةُ تدخّله تركت على قلبي بصماتٍ لا تُمحى ورسّخت في ذاكرتي صورةَ انسانٍ يسعده اسعادُ الاخرين. هذه الصورة كانت اقوى من ان تبهّتَها قلةُ – إن لم تكن ندرةُ – لقاءاتِنا في القدس بسبب اختلاف تخصّصاتنا الجامعية وتباعدِ مراحل دراستنا بحكم الفارق في السِنّ.
لكن ما ان جمعتْنا حيفا مواطنةً وعملا، حتى استفاقت تلك الصورة من جديد، ليطلَّ منها بطرس متحرّرا من برجه الجامعي، متمردا على قيودٍ مفتعَلة كانت قد كبّلت، ولربما ما زالت تكبّل العديدَ من شبابنا المثقفين القابعين بل المنزوين في ابراجهم العاجية. فانخرط بطرس في صفوف رواد العمل الاجتماعي التطوعي، متحسّسا حاجات مجتمعه بصورة عامة والنشاطَ التعليمي التربوي بصورة خاصة. فكان لي شرف مشاركته منذ سبعينات القرن الماضي، العديدَ من المبادرات والفعاليّات التي اذكرُ منها على سبيل المثال فقط لا الحصر اطلاقا، ما يلي:
اقامة لجنة شعبية بادرت الى مطالبة وزارة المعارف وبلدية حيفا بتاسيس مدرسة حكومية بلدية في حي عباس، بعد ان رفضت الوزارة والبلدية، تقديم دعم مالي عادل الى مدرسة راهبات الناصرة حيث كان يتعلم اولادنا. واذا كانت هذه اللجنة قد نجحت فعلا بمبادرتها، فاقيمَت مدرسةُ حيفا هـ (الكرمة حاليا) رغم المعارضة الشديدة ان لم يكن المستمية التي ابدتها آنذاك بلديةُ حيفا ووزارة المعارف، فإنَّ الفضل في هذا يعود الى حكمة بطرس في توجيه دفة سفينتِنا، والى تفاني واخلاص زملائنا اعضاء تلك اللجنة. إن نجاح هذا المشروع، قد شحن عزيمة بطرس بطاقات جديدة دفعتنا الى المطالبة بتأسيس مدرسة ثانية اردناها مدرسةً عربيةً تكنولوجيةً ثانوية يُمهَّد لها باقامة بناء جديد عصري ملائم. إصرارُ بطرس مدعّما بلجنتنا الشعبية الواعية المخلصة الجريئة وبممثلين مخلصين من ابناء شعبنا في المجلس البلدي، قد حقّق فعلا، ولوعلى الاقل، إقامة البناء المدرسيّ العصري القائم حاليا في شارع المطران حجار. لقد آمن بطرس بتنوّع التعليم في مجتمعنا واولى التعليمَ التكنولوجي اهميةً خاصة فكان بطرس في طليعتنا كمؤيدين لمشروع صندوق التعليم التكنولوجي الذي بادر اليه زميلي مفتش التعليم التكنولوجي آنذاك الدكتور ابراهيم عوده.
إن بطرس وإن كان منحازا للتربية والتعليم وقد نذر حياته في خدمتهما، إلا انه كان يتفهم تماما ما قاله لي احدُ المغتربين من ابناء حيفا في كندا، وقد اضطر الى الهجرة بعد ان فُصِل تعسفيا من عمله في حيفا، فصادر البنكُ بيتَه. لقد قال لي ذلك المغترب بصوت كادت تخنقه الدموع، قالَ: “إن وطنا لا يوفّر لي سقفا استظلّ به، انا في غنىً عن سمائه”. ولأن بطرس – كما اعتقدُ جازما – كان يتفهم هذا، فلقد كان واحدا من مؤسسي جمعية الاسكان للمواطنين العرب في حيفا. هذه الجمعية التي تمَّ اختطافها فيما بعد من بين ايدينا، وإجهاض اولى مشاريعها السكنية الشعبية بعد ان اصبح ذلك المشروع قابَ قوسين او ادنى..
وكما راى بطرس بالتعليم رافعةً وبالمسكن استقرارا فلقد راى بالارض جذورا إنْ فُقدت فُقِدْنا. ومن هنا كان اهتمامه بصون اراضي الاوقاف كجزء لا يتجزأ من ارض الوطن، فحرصَ على تزويدي تباعا بعشرات الوثائق ذات الصلة الوثيقة باوقاف كنيسة الروم الكاثوليك في حيفا والجليل. هذه الوثائق التي دأب بطرس على جمعها من ارشيفات مختلفة، اصبحت نبراسا اضاءَ طريق “جمعية ابناء ابرشية الجليل” التي تصدّت للعابثين بالاوقاف.
وبمدى ما كان عطاء بطرس جمّا، هكذا كان تواضعه اصيلا بعيدا عن التصنّع والتكلّف. ولعل خير مثال على ذلك، هو موقفه المعتذر الممانع من مبادرتي إبّان عملي في ادارة بلدية حيفا، لترشيحه للحصول على وسام “عزيز حيفا”. إقناعُه بموقفي كلّفني جهدا، في حين ان اللجنة الشعبية والاوساط البلدية المسؤولة عن منح الوسام، لم تكن بحاجة لاقناع او حتى لتدخل من جانبي، إذ انها وجدت ان بطرس كان من اكثر المرشحين استحقاقا لهذا الوسام الرفيع. رحمه الله رحمة واسعة.