نحو تأهيل وإعداد “المعلِّم الجديد”
تاريخ النشر: 11/03/19 | 10:34مِن المتعارف عليه عند تناول موضوع إحداث تغييرات في جهاز التربية والتعليم العربي التطرّق إلى مكانة المعلِّم وتأهيل معلّمين متميِّزين للعمل في هذه المهنة المهمّة والأساسية في النهوض بالمجتمع والسّير به نحو مستقبل أفضل. تظهر الأبحاث التّربويّة أنّه من الصعب إحداث التغيير المنشود في جهاز التربية والتعليم في ظلّ سياسته المحافِظة والتقليدية، وفي ظلّ خضوعه المباشر لإملاءات المؤسّسات التي تديره والمسؤولة المباشرة عنه. في المقابل، تحدث تغييرات سريعة جدا في حقول ومجالات حياتية أخرى. على الرغم من هذه “التقليدية وسياسة المحافظة”، من المهم بل من الضّروريّ إحداث تغييرات في مجال تأهيل وإعداد المعلمين، وخصوصا إعداد “المعلم الجديد” لِما يحصُل من التغيرّات الجديدة العصرية بشكل مهول، والتي تعصف في عالمنا المتغيّر من الناحية التكنولوجية وثقافة البيداغوجية المعاصرة. فبات من المهم إتباع سياسة جديدة في إعداد “المعلم الجديد” من أجل مواجهة تحديات العالم الجديد، ومن أجل تحضيره للتعامُل مع تلاميذ يعيشون في ظروف حياتية جديدة ومتغيِّرة. لإحداث هذا التغيير وإعداد “المعلم الجديد”، نحن بحاجة إلى الاحتفاظ بالمعلمين المتميّزين أوّلا وتهيئة طلاب متميّزين كجزء من منظومة فاعلة في هذه المهنة الأساسية في حياتنا ثانيا. آن الأوان لبذل الجهد في الاستثمار النوعي أثناء إعداد “المعلم الجديد” وكذلك إعداد مدير المدرسة “الجديد” أيضا. تؤكد الأبحاث العلمية الأخيرة عن المجتمعات التي أحدثت تغييرات جمّة في حقل التربية والتعليم أنّه يتوجّب على المدرسة أن تتبنّى مهامّ وأهداف جديدة، فيجب أن تكون هي مسؤولة أوّلا عن: ماذا يدرّس المعلم وكيف؟ وما هي سلّم الأولويات لديه؟ بالإضافة إلى ذلك، تظهر الأبحاث الجديدة أنّ أهداف المدرسة يجب أن تتجاوَز الأهداف التحصيلية الرقمية والتركيز على الأهداف الاجتماعية القيميّة من أجل القيام بالتنمية المجتمعية عامة. “المعلم الجديد” هو المعلم الاجتماعي الذي يحاول إشراك أهالي التلاميذ في العملية التربوية ليكونوا منخرِطين، وهؤلاء على عاتقهم أيضا تقع مسؤوليّة تحسين الوضع القائم. صحيح أنّ هذه المواضيع تتقاطع مع سياسات عليا وتتقاطع أيضا مع سياسة المحافظة في جهاز التربية والتعليم، ولكن من المهم الإيمان بضرورة التغيير؛ لأنّ العالم يتغيّر من حولنا وعلينا نحن التكيّف مع هذه التغييرات والتجديدات السريعة.
نحن نؤمن بالمحافظة على المعلم ومكانته، وعلينا تحسين هذه المكانة وجعل “المعلم الجديد” في طليعة مواكبة التغييرات التكنولوجية والبيداغوجية الحديثة مع المحافظة على هويّته الثقافيّة وتعزيزها في آن واحد. إنّ إعداد “المعلم الجديد” ينطبِق فعليا بدءا بمرحلة الطفولة المبكرة. هناك مجتمعات عالمية قد نجحت في إحداث التغيير في حقل التربية والتعليم تحصيليا وقيميّا عندما نجحت في الاستثمار في الطفولة المبكرة وفي إعداد “المعلم الجديد” لها. فقد تبنّت هذه المجتمعات سياسة جعل التعليم يتناسب بصورة فردية مع متطلَّبات كل تلميذ وبأساليب تعليمية حديثة تستند إلى الإبداع والأداء المتميِّز وإدخال أساليب ومستلزمات تكنولوجية حديثة في سيرورة التعليم، وبالتّالي فإنّ ذلك يرفع من مستوى الأداء النوعيّ للتلميذ كما هو للمعلِّم. ربما يعتقد البعض منّا أنّ ذلك “أوتوبيا” وغير قابل للتنفيذ في مجتمعنا وفي حقلنا التربوي الحالي ولا يتناسب مع سياقنا الثقافي. ولكن إذا نجحت مجتمعات أخرى في إحداث التغيير ضمن سياقها الثقافي والمجتمعي، فنحن أيضا قادرون على فعل ذلك ولو كان ذلك بالتدرّج وبصورة “حلزونية”. لا يمكن البقاء في الوضع القائم ومن حولنا تحدث تغييرات هائلة في جميع المجالات!
من المهمّ إعداد “المعلم الجديد” وتزويده بكل المهارات الحديثة والعصرية والتي تتناسب مع المهارات المعمول بها في القرن الــــ 21 إلى جانب تعزيز ثقافته وهويته الثقافية. من المهم إعداد “المعلم الجديد” لتلاميذ يعيشون في واقع وفي عالم جديد. تلاميذنا في مدراسنا يستحقّون “معلمين جدد” قادرين على تزويدهم بمهارات جديدة وحديثة تستند إلى الإبداع والتميّز، التفكير الناقد، والتعلّم في محيطات حديثة. من المهم تزويد هؤلاء التلاميذ بمهارات العمل الجماعية ومهارات التشبيك بمواضيع متنوّعة والتزام آليات تكنولوجية عصرية تتمشّى مع متطلَّبات سوق العمل الجديد، وكذلك على المعلّم أن يعرف ما هي توقعّات تلاميذه منه. لا نريد أن نقف في مكاننا والتغيّرات تجري من حولنا وقد بدأت تطرق أبوابنا في كل وقت.
حان الوقت للتأكيد على أنّنا لا نريد من “المعلم الجديد” أن يركّز كلّ جهده على مجموعة بعينها من التلاميذ الممتازين في تعليمه لكنّه يهمِّش مجموعة أخرى كبيرة من التلاميذ الذين هم أحوج إليه، ونحن في مجتمعنا نحتاجهم معا للبناء والتنمية المجتمعية. على “المعلم الجديد” تبنّي المقولة: “إنَّ كل تلميذ يدخل المدرسة هو تلميذ ولو كان ابن إمبراطور”. فعلى “المعلِّم الجديد” أن يتزوّد بقيم المساواة والعدالة الاجتماعية ومراعاة الفوارق الفردية والمادية، إلى جانب إيمانه المطلَق بأنّ كل تلميذ عنده القدرات والمهارات الكامنة ولكنها بحاجة إلى شحذ وأنّ التلميذ يحتاج إلى تزويده بالثقة بأنّه قادر على الوصول إلى أهدافه وتلبية توقعاتنا منه رغم العقبات والمصاعب.
من المهم أيضا أن نزوّد “المعلم الجديد” بإرشادات وسياسة توجيه مهنية لكي تمكّنه من الوصول إلى أهدافه كما يفعل هو نفسه مع تلاميذه، علما بأنّ “المعلم الجديد” هو الذي يتميّز بقدرات فردية بموجبها يصل إلى أهدافه لوحده.
وعليه، إنّها مسؤولية تقع على عاتقنا بأن نعّد “معلما جديدا” في ظل التغيرات الجديدة المصحوبَة بضبابية المستقبل. “معلم جديد” لا يضع فقط هدفه في النّاتج الرقمي والتحصيلي، بل هو “معلم جديد” يعزّز القيم الاجتماعية والأخلاقية لدى تلاميذه ويمدّهم بأدوات ومهارات حياتية تنهض بمجتمعهم وتعدّهم أحسن إعداد لحياة مستقبلية مع عمل وأمل. من أجل “المعلم الجديد” نحن بحاجة إلى تلاميذ متميزّين وتوّاقين لإحداث التغيير المنشود بمشيئة الله تعالى.
بروفيسور قصي حاج يحيى
رئيس المعهد الأكاديميّ العربيّ للتربية
في الكلية الأكاديمية بيت بيرل