قراءة في قصة: “أين اختفت الشمس”
تاريخ النشر: 13/03/19 | 20:35 قصة: “أين اختفت الشمس” جديد الأخت المربية الكاتية غادة إبراهيم عيساوي .. من كفر مندا..هي قصة للأطفال.. زينتها رسومات الفنانة الأردنية رنا حتاملة.. فخرجت بحلة قشيبة راقية.. كعادة الأخت المربية غادة عيساوي.. تميل إلى البساطة .. والمباشرة.. لا تحب الإطالة .. قصصها تأتي بأسلوب حوار الذات.. وتلميحات الخيال في محاولة لاستفزاز وتحفيز الوعي والإدراك.. وتشجيع التفكر في ظواهر الطبيعة والحياة..
ما يميز قصص الأخت غادة أنها تنطلق من كونها مربية أطفال.. فهي مسكونة بعالم الطفولة.. ومشاغبات خيالهم الذي لا حدود له… ومنطقهم المنطلق في آفاق البحث مدفوعا بغريزة حب الاستطلاع والرغبة الملحة في استكشاف الكون المحيط والواسع، وكشف أسراره.. ولو بصور من الخيال الأوسع من عالمهم..
الأخت غادة .. التي عايشت الأطفال كمربية لصفوف الطفولة المبكرة.. وبروحها الرقيقة الشفيفة استطاعت أن تدخل عالمهم الحسي والخيالي والشعوري والرغبوي.. ما انعكس على كتاباتها بكل شفافية .. لتبدع لهم ومن خلال معرفتها بحاجاتهم.. واطلاعها على مخزون فكرهم وخيالهم وأحلامهم .. ما يحاكي عالمهم الفكري والحسي والتّصوري.. وقد نجحت في ذلك وأبدعت..
في قصتها الأخيرة ” أين اختفت الشمس” نجدها تقترب أكثر وأكثر من عالم الطفولة التصوري والخيالي.. تتابع أفكارهم الحالمه.. وأحلامهم الواعية .. لتخلق لهم عالما تصوُّريًّا يلائم روحهم.. فنراها تبدأ قصتها من لحظة الدهشة:
“ياه! ما أجمل منظر الشمس في السماء!” ص4
شهقة نسمع بها صوت الطفولة … لتتبعها آفاق تربوية وهمسات توجيهية نابعة من روح الطفولة… ولا تبتعد عن روح الكاتبة المشبعة بهوس الطفولة.. وبلغة أقرب إلى الشاعرية :
-“تطير العصافير، وتزقزق بحرية../// في صباح مفعم بالنشاط والحيوية”ص4
ولننتبه إلى أنها لم تسم بطلا لقصتها.. بل تركته مجهولًا مختفيًا.. لتجعل كل طفل يتقمص دور البطل حين يقرأ أو يسمع القصة.
وتتابع الأحداث في جو من السرد المرح.. الموجَّه:
-“تفتح المدارس أبوابها لاستقبال الأبطال”ص4
همسة تربوية راقية.. إنها تخاطب روح الحيوية والحماسة عند الأطفال.. لتعود لتخاطب الجانب الخيالي الفانتازي لديهم، وبلغة شاعرية أيضًا:
-“تتمايل من حولي الفراشات في حديقة الدار… تقفز أرانبي باحثة عن الجزر بين الخضار”ص6
لا تهتم غادة بالتقنيات القصصية؟.. لا تشغلها كثيرة قضية الحبكة القصصية.. والأحداث… والزمان والمكان وعناصر قصصية أخرى.. كل ما يشغلها روح الطفل.. كأني بها تتأمل وجوه الأطفال، وروح الطفولة والبراءة المشرقة في وجوههم.. لتصورها تعابير تزيدهم فرحا وحيوية، وتغذي مخيلاتهم البريئة بصور تشبه عالمهم.. هذا هو شاغلها الأكبر والأهم؛ لذلك نجدها تتكلم بلسانهم.. لسان (نحن) البراءة والعذوبة:
-“نتسلق الأشجار.. نطيّر طائرات ورقية… نربط معها البالونات الزرقاء والوردية… نلعب الغميضة… وكرة القدم.. ولعبة عسكر وحرامية…”ص9
إنه عالم الطفولة بكل حلاوته وبساطته وبراءته ونقائه.. تصوره غادة القاصّة، بروح غادة المربية، بوعي غادة المرتبط بروح الطفولة، المعانق لأحلام الطفولة البريئة.. حتى تصل إلى لحظة الذروة التي أرادتها.. بكل وعي وإصرار نابع من معانقتها لوعي الطفولة.. لتهتف :
-” وحين اختفت الشمس عن عيني… استلقيت على سريري… وبدأت تدور في رأسي أسئلة: يا ترى! أين تختفي الشمس في الليل” ص11
ثم تبدأ التداعيات الحلمية.. والتساؤلات الساذجة البريئة براءة الطفولة.. النابعة من روح حب الاستطلاع وهوس الاستكشاف.. ولكن الكاتبة بوعيها الراقي لا يبتعد عن منطق الطفولة، بل تعززه وتغذيه بصورها الرائعة.. وتبدأ بطرح تساؤلات هي من صميم خيال ومنطق وحلم الطفل..
– “لعلها ملت مكانها في السماء.. وذهبت لتزور صديقتها” ص12
وما أروع الصورة التي استوحتها من روح الطفولة لترسم من خلالها لوحة طفولية رائعة.. في قولها باحثة عن أسباب اختفاء الشمس:
-“أو ربما هي في رحلة استكشافية حول الكواكب الفضائية.. تبحث عن دكان في الفضاء يبيع المثلّجات الشّهية.. وتتعرف على كوكب جديد من نوعٍ فريد”ص14
وهكذا تستمر رحلة التفكير الطفولي المستوحاة من عقلية الطفل.. لتغذي روحه الاسطلاعية والاستكشافية.. وتنمي روح التفكير المنطلق والتساؤل المنمّي للطاقات الإبداعية والتخيّليّة عند الطفل..
-“أين اختفت الشمس؟ هل سقطت في قاع البحر؟ تغوص وتلعب مع الأسماك؟ أو تدحرجت إلى جوف البئر، وبقيت هناك؟ أم انجرفت مع مياه النهر، وعلقت في الشّباك؟”
أي أفق تخيلي وتصوري فتحت للطفل من خلال هذا التساؤلات.. لتأخذه إلى عالم فنتازي إبداعي.. ينمي طاقاته التخيلية والجمالية والابداعية؟
وتتابع على نفس المنوال. وبنفس الروح الطفولية العذبة الطيبة:
-” هل اختفت بين الغيمات؟.. أم اختبأت خلف الجبل لتعطي الفرصة للنجمات والقمر ليزينوا أرجاء الفضاء بأجمل الأضواء؟”ص19
ما أجملها من لوحة تأملية.. تنمي روح التأمل والتفكّر والتصور في وعي الطفل الخام.. لتنطلق من بعدها إلى أفق الأنسنة والتشخيص الراقي.. لتقرِّب الصورة إلى وعي الطفل الغرائزي البريء، لتجعله يتماهى شعوريًّا وحسيًّا مع الشمس ككائن حي يشبهه ويشبه عالمه:
-“أتراها تعطش من شدة حرّها… فتغادر كل مساء لتشرب من مكان بعيد، وتعود باكرًا لتشرق من جديد؟” ص21
-“أم أنها تجوع في النهار فتغيب لتشرب الحليب؟ وتصنع لنفسها فطيرة كبيرة، أو كعكة مستديرة؟”ص22
ثم تنتقل لدور التفاعل الاجتماعي.. والعلاقات الاجتماعية الحيوية والضرورية في الحياة..
-” أم تراها دعيت لحفل ولادة نجمة جديدة، أو لحفلة تنكريّة سعيدة؟” ص23
ثم تنتقل لتجعلها صديقة البيئة.. الداعية للحفاظ على طهارة البيئة، وتخليصها من كل تشويه وإزعاج، موجهة رسالة تربوية بيئية راقية في قولها:
-” معقول أنها راحت تشكو انزعاجها من ضجيج السيارات، وصوت الطائرات؟ وأنها غضبت من سلوك بعض الأولاد في الحارات؟” ص24
وما أروع لفتتها ونباهتها حيث أنها لم تحدد نوع السلوك المزعج للأطفال.. بل تركته لوعي وعقل الطفل وتفكيره.. ليحدد بنفسه وبتصوره ووعيه ما هو السلوك المزعج.
وما أروعها من خاتمة للكل هذا الكم من التساؤل. الذي لا نهاية له.. فلتكن نهايته الاستراحة منه:
-” أين اختفت الشمس؟ لعلها ذهبت لتنام وترتاح؟ وأنا الآن سوف أنام، لأنتظرها وأراها في الصباح”ص27
وسكتت الأحلام عن حلو التفكير وعذب الكلام..
أطيب التحيات نوجهها للأخت المربية غادة إبراهيم عيساوي المفعمة بروح الطفولة.. المتعشِّقة لأحلام الطفولة.. الواعية لمدارك وأخيلة الأطفال… والقديرة في تزويد الطفولة بما يلائم روحها من جمال الصّورة… وروعة الخيال في ثوب من عذوبة الكلمات والتعابير..
بقلم: صالح أحمد (كناعنة)