هناك في جورة الذهب (1)
تاريخ النشر: 28/03/19 | 21:43ولِد خَضِر وسيم المكنى ابو سالم في اوائل عشرينات القرن الماضي في شمال غرب فلسطين في قرية اطلِقَ عليها لقب “جورة الذهب” فطغى اللقب على الاسم الحقيقي، تاركا للناس وخصوصا لاهالي تلك القرية، فرصةَ الاجتهاد في تعليل تلك التسمية. فمنهم من تمسك بالتفسير الحرفي فادّعى ان احد السكان الاوائل في تلك القرية، قبل مئات السنين، كان قد عثر اثناء فلاحة ارضه، على حفرة مليئة بالذهب، ومنهم من قال انها سُميَّت كذلك نظرا لخصوبة ارضها ووفرة المياه فيها، ممّا مكّن الفلاحين من استغلال اراضيهم الزراعية مرتين في السنة، ليجنوا منها موسما صيفيا وموسما شتويا. ومنهم ايضا من كان رومنسيًّا فنسبَ التسمية الى قرص الشمس الذي يشاهده يوميا سكانُ تلك القرية، بحكم موقعها المشرف على البحر، وهو “يغطس” في الماء. ومهما كان سبب التسمية ، فإن خضر كان يحب، بكل جوارحه، قريتَه هذه التي ولد وتربى وترعرع فيها ويفخر بها متباهيا سيما امام زملائه في الكلية الرشيدية في القدس، حيث انهى دراسته الثانوية بنجاح كبير حقق له الفوز بمنحة تعليمية تؤهله لمتابعة دراسته العليا في بريطانيا. غير ان موت والده المفاجئ قد حال دون ذلك، فعاد الى بلدته ليعمل مدرسا في مدرستها الابتدائية، وليبقى بجوار امه التي بقيت لوحدها في البيت بعد ان كان اخوه الاكبر برهوم قد تزوج قبيل وفاة الوالد بقليل..
رضخ خضرٌ مرغما لهذا الواقع الذي آلت اليه ظروفُه، ولم يدع والدتَه تشعر ابدا بخيبة امله نتيجة لعدم تمكنه من متابعة دراسته العليا، لئلا يتعكر مزاجها. لقد انغمس في عمله التربوي دون ان يهمل ما تركه والده له من ارض وبيارة، فنال احترام وتقدير كل من حوله كما انتعش وضعه المادي، فبنى لنفسه ولوالدته بيتا فخما من طابقين، تميّز بواجهة جذابة استرعت قناطرُها المبنية من حجرخليليٍّ احمر مدقوق، انتباهَ الجميع ونالت تقديرهم. هذه المعطيات جعلت من خضر وقد احتفل بعيد ميلاده الواحد والعشرين، شابا مستهدفا من قِبَل الخاطبات اللواتي كنّ يدأبن آنذاك على “جمع القلوب” على حد تعبيرهن، فتلاقت مصالحهن مع رغبة ام برهوم، التي سارعت الى تلقف قائمة اسماء الحسان المرشحات. تم الاختيار وتعالت زغاريد فرح غامر اكتمل بعد مضي سنة واحدة، بولادة منى ليعقبها بعد سنتين شقيقها سالم واخيرا جهاد، فاضفى هذا الثلاثي جوا من سعادة عارمة اكتنفت بيت خضر وبدت ثابتةً دائمة وإذ بها تتهاوى امام نكبة سنة 1948 التي عصفت بفلسطين فبدّدت مئاتِ الوف الفلسطينيين جارفةً ايّاهم الى خارج حدود وطنهم. وهكذا وجد خضر واخاه الاكبر برهوم ووالدتهما واسرتيهما بين عشية وضحاها، في مخيم البصّ للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، تاركا كل ما كان لديه في “جورة الذهب”، باستثناء قليلٍ من مال مدخر وبعض الاوراق الثبوتية بما في ذلك كواشين العقارات الكثيرة التي يملكها…
ذاق خضر وسيم ابو سالم الامرّين في المخيم، فقرر العودة الى الوطن. كان يدرك جيدا خطورة قراره، ولكن ما عاناه واسرته في المخيم من جوع مضنٍ وبرد قارس وظروف صعبة مهينة بل غير انسانية على امتداد ثمانية اشهر متتالية، ومن شوق حارق الى الوطن، كان كفيلا بجعله يتمسك بقراره الذي ابقاه سرا لم يُفصح عنه لاحدٍ الا لاخيه. اعترض برهوم على قرار خضر نظرا لما ينطوي عليه من مخاطرة، لكن الاخير ما كان ليغير رايه او ينثني عن قراره إنما بقي متمسكا بموقفه، ولعلّ موقف الوالدة ام برهوم التي كانت تتحرق شوقا للعودة الى الوطن لملاقاة اخيها وامها الطاعنة في السن، قد لعب دورا لا يمكن تجاهله..حزم خضر وزوجتُه وامُّه امتعتَهم القليلة، وحملوها معهم في سيارة الاجرة التي نقلتهم ليلا من المخيم الى قرية رميش اللبنانية المحاذية للحدود اللبنانية الفلسطينية، حيث كان بانتظارهم “دالول”(دليل طريق) مع حماريه المتمرّسَين مثله (على حد تعبيره) في قطع الحدود في كلا الاتجاهين…
انطلقت “قافلة العودة” يتقدمها الدالول وهو يجر حمارا قُطر به حمارٌ اخر يتبعُه خَضْر ماشيا. كان الحمار الاول يحمل الجدةَ ام برهوم محتضنةً الحفيد سالم، اما الحفيد الثاني الاصغر اي جهاد فقد بقي في حضن امه على الحمار الثاني. كانت الام تحيط جهاد الصغير بيدها اليمنى بينما يدها اليسرى كانت متفرغة لتثبيت ابنتها منى التي كانت تركب وراء ها وقد لفَّت ذراعيها الصغيرين حول خصر امها. كان الدالول يتلمس طريقه صعوداعلى السفح الشمالي للجبل (الذي “عيّنته” اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 حدّا طبيعا فاصلا بين لبنان وفلسطين) نحو القمة، عِبْر مساربَ ضيقة غير مألوفة للآخرَين، خشية اكتشاف امرهم، مستغلا ضوءَ قمرٍ يُطلُّ عليهم كلما انقشعت عن وجهه غيمةٌ من غيوم ليلةٍ نيسانيةٍ بردُها محسوس لكنه قابل للتحمُّل. تعرجاتُ المسارب وتشابك اغصان النباتات الحرشية الكثيفة التي على جانبيها، جعلت طريقَ العودة هذه تبدو اطول مما هي في الواقع، فباتت صعبةً إن لم تكن مرهقة. ومما زاد الطين بلّة، صيحةٌ اطلقتها زوجة خضر، وهي تحذره من سقوط منى عن ظهر الحمار بعد ان نامت وارتخى ساعداها الصغيران اللذان كانا ملتفّين حول خصر امها. سارع خضر الى تلقف الفتاة قبل سقوطها.. فهل نجح في ذلك؟ وماذا حدث للقافلة؟ ولمسيرة العودة؟
عن كل هذه الاسئلة وغيرها ساجيب في الحلقة التالية..
د. حاتم عيد خوري