هناك في جورة الذهب (2) بقلم د.حاتم عيد خوري
تاريخ النشر: 05/04/19 | 14:41وممّا زاد الطينَ بلّة، صيحةٌ اطلقتها زوجة خضر، وهي تحذره من سقوط منى عن ظهر الحمار بعد ان نامت وارتخى ساعداها الصغيران اللذان كانا ملتفين حول خصر امها. سارع خضر الى تلقف الفتاة قبل سقوطها، ولمّا لاحظ انها تغطّ في نوم عميق، بادر الى حملها على ظهره وهو يُغِذُّ الخطى خلف القافلة. شعر بارهاقٍ شديد اجبره على التوقف. انزلَ الفتاة عن ظهره. حاول ان يوقظها. انحنى فوقها ليضمّها الى صدره، عسى تتمكن من الوقوف على رجليها والمشي الى جانبه، لكنها لفّت ساعديها بحركة لاشعورية، حول عنقِه هامسةً في اذنه: “يابا انا تعباني” فتفجرت عاطفتُه الابوية دموعا سحّت من مقلتيه، وطاقةً كامنةً بَعثت في خلاياه قوةً خفية جعلتْه ينسى تعبَه وينشّطُ عضلاتِه فيندفع نحو ابنته حاملا إيّاها بين يديه، مقَبِّلا وجنتيها بحرارة قبل ان يعود ليرفعها على ظهره من جديد، مندفعا بخطى ثابتة حثيثة تُلحِقُه بالقافلة.
وكما ينضب الزيتُ من سراج مضيء وكما يُستهلك الوقود في مستودع سيارة متحركة، هكذا اخذت قوةُ خضر تتضاءل من جديدٍ، لتتلاشى نهائيا عندما وصلت القافلة الى قمة الجبل الحدوديّ. فكاد خضر يصرخ من اعماق قلبه:” أما لهذا الليل من آخِر”، لكنه بقي صامتا رغم تعبه المرهق وقلقه المضني، ربما لانه لم يُرِد لظلمة الليل التي كانت تكتنفُه واسرتَه، ان تنقشع قبل ان تبلغ قافلتُهم هدفَها وتصل الى بيت خاله عيسى في “البلد” اي تلك القرية الفلسطينية الجليلية القريبة من الحدود اللبنانية، والتي درجت والدته ام برهوم على الاشارة اليها بلقب البلد، كلما ارادت ان تتحدث عن مسقط راسها: “انا رايحة عالبلد”، “كنت عند دار اخوي عيسى في البلد”، “يوم ما طلعت عروس من البلد”… فبات اسم “البلد” لقبا يطغى على الاسم الحقيقي لتلك القرية، وفرض نفسه ليس على خضر واخيه فحسب، إنما على اولادهم ايضا، فإتبع الاحفاد خطى جدتهم ام برهوم، حيث اسقطوا من قاموسهم اليومي الاسم الحقيقي لمسقط رأسِها وظلوا محتفظين باللقب، كقولهم: “قضيتُ الصيفية عند دار خالي عيسى في البلد”، “زرت بيت دار سيدي ابو عيسى في البلد”… نعم لم يفكر خضر بالعودة الى جورة الذهب التي ذهب “ذهبُها” بذهاب اهلها وقد غدوا مهجرين لاجئين، فلم يبق امامه إلا “البلد” التي بقيت (كقلة قليلة من القرى العربية الفلسطينية الشمالية) عامرةً باهلها، فاضحت استثناءً يُثْبتُ قاعدةَ سياسةِ تفريغِ الوطنِ من ابنائه الاصليين.
توقف الدالول عند القمة ليستريح ويريح وربما ليرصد ما حوله، تحسّبًا من الوقوع في كمينٍ قد ينصبه قطّاع طرقٍ او تحاشيا لما يُسمّى بدوريات الامن. فانتهز خضر تلك اللحظات ليعُبَّ من هواء الجليل الغربي، ما اتسعت له رئتاه، وليجيل نظرَه بما يحيط به، مستعينا بالاضواء الخافتة المتسللة من قمرٍ خجول ونجوم متشحة بالغيوم، ومستعيدا ما تختزنُه ذاكرتُه من تلك المناظرالتي كان قد الفَها نهارا منذ كان يرافق والدته في طريقها للتسوق في سوق الخميس في بنت جبيل. لقد تذكر فيما تذكره من المعالم، شارعا معبدا معروفا باسم “الشارع الشمالي” الذي كان الانتداب البريطاني قد افتتحه سنة 1937، معتبرا ايّاه خط الحدود بين فلسطين ولبنان (وفقا لاتفاقية سايكس بيكو سنة 1916) . لكن عندما تذكر خضر ان هذا الشارع (اي الشارع الشمالي)الذي يتعين على قافلتهم ان تقطعه عرضا، هو شارع يمتد من البصَّة غربا حتى سعسع شرقا، مرورا باقرث والمنصورة وغيرها، شعرَ بغصَّةٍ ليس فقط لان القرى الاربع هذه قد اصبحت مهجرة، انما ايضا لانه سمع من الدالول ومن غيره ايضا، ان قوات الجيش الاسرائيلي متواجدة بكثافة على هذا الشارع الذي تعتبره شارعا امنيا بامتياز، ممّا قد يؤدي الى اكتشاف قافلتهم وما قد يترتب على هذا من طرد جديد مباشر الى ما وراء الحدود، او من اعتقال وسجن يتلوه طرد مؤكد، ناهيك عن احتمال تعرّض قافلتهم لاطلاق نارٍ قد تؤدي الى جرحهم او قتلهم لا سمح الله…
وهكذا ما ان تحرك الدالول، وتحركت وراءه القافلة، في منحدر على السفح الجنوبي للجبل الحدودي، عِبْر مسربٍ جبليٍّ تحفُّ به صخورٌ مرتفعةٌ تضيّقُ الخناقَ على شجيرات السنديان والبطم والسريس والخروب وغيرها من النباتات الحرشية الجليلية المنتشرة بين الصخور، حتى ارتفع لدى خضر، منسوبُ القلق وانتصبت امام عينيه جمهرةٌ من علامات الاستفهام والتعجب التي باتت تقوّض ثقتَه بنفسه وبحكمة قراره بالعودة الى الوطن في مثل هذه الظروف الصعبة الخطرة، فاخذَ يلقي باللائمة على نفسه لانه لم يولِ تحذيرات اخيه برهوم، الاهتمامَ اللازم. تساءل صامتا: “أعائدٌ انا من المخيم ام عائد الى المخيم؟”. كان يتساءل مترددا لكنه بقي مستمّرًا في سيره نزولا وراء القافلة كمَنْ فقدَ إرادتَه. فكحجرٍ يتدحرج في منحدر هكذا كان في مشيته وراء الحمار المقطور مما جعل تردّدَه يبلغ حدَّ الجَلْدِ الذاتيّ عندما تساءل قائلا: أانا المسؤول عن هذه القافلة ام انا حمارها الثالث؟
استرسالُ خضرٍ في محاسبته لذاته وفي تردده وهو يتابع السير صامتا خلفَ قافلةٍ تقتربُ تدريجيا من الشارع الشمالي، توقف فجاة عندما سُمع صوت طلقاتٍ نارية متفرقة ما لبثت ان تحولت الى زخّات رصاصٍ يئزُّ فوق رؤوسهم. سارع الدالول وتبعه حماراه وكانهما يدركان دقة الموقف، فلَطوا خلف صخرة كبيرة، بينما جلس خضر القرفصاء خلف صخرة مجاورة، وهو يحتضن راسه بين يديه وكأنه يحاول ان يعتصر منه حلا يخرجُه واسرتَه من هذه الورطة. كان يتساءل: “هل اكتُشِفَ امرُنا؟ وهل الرصاص موجّه الينا؟”..حاول ان يستمد من الضعف قوة فقال لنفسه: “لا بد ان يتوقف اطلاق النار” ثم وجد نفسه يتابع تساولاته قائلا: “هبّ ان الرصاص توقف فعلا، فهل نستمر في رحلة العودة الى الوطن، ام نعود خائبين الى المخيم؟”. سيلُ تساؤلاته عاد لينقطع مرة اخرى لا لان إطلاق النار قد توقف لحظة، انما لانه سمع ايضا وقع اقدامٍ تقترب منه، على خلفية لهاثٍ لا يصدر الا عمّن كان يمشي، بل يهرول، صعودا على سفح الجبل..
شعرَ خضر انَّ قلبه ينتفض على وقعِ دقاتٍ كاد صوتُها في اذنيه، يعلو على صوت الطلقات النارية التي سمعها قبل قليل. فوجد نفسه من جديدٍ، كمن وضع دمه ودم اسرته على كف عفريتٍ، متسائلا: “مَن القادمِين يا تُرى؟”، مضيفا بقلق بالغ جدا: “ايكونون جنودا قد اكتشفوا امرَنا فاتوا لطردِنا الى الخلف نحو لبنان، او لاعتقالنا او حتى لتصفيتِنا ؟”..
ساجيب عن ذلك في الحلقة (3) فالى اللقاء