سأصوت، لن أقاطع
تاريخ النشر: 06/04/19 | 19:03ستتوجه جموع الناخبين الاسرائيليين في التاسع من الشهر الجاري إلى صناديق الاقتراع لتنتخب من سيمثلها في الكنيست القادمة، وتقرر عمليًا مَن سيتولّى مقاليد الحكم في دولة باتت، رغم صغر حجمها الجغرافي والديموغرافي، تشكل ركيزة أساسية في عمليات ترسيم الخرائط الاقليمية السياسية والاقتصادية والعسكرية. كما وتؤثر، كذلك، بدرجة كبيرة، على تداعيات الأوضاع الداخلية، وأحيانًا على مصائر الدول وأشباه الدول في منطقة الشرق الأوسط وفي عدة مناطق أخرى من العالم.
لا تشغل قضية الانتخابات الإسرائيلية، فيما يبدو، بال المجتمعات العربية في الدول المجاورة، ولا، بالتأكيد، بال المجتمعات في الدول الاسلامية، رغم تأثير نتائجها المفترض على مصير علاقات حكومة اسرائيل الجديدة مع تلك الدول؛ وقبلها على”قضية العرب والمسلمين الأولى” ؛ أعني فلسطين والقدس وأقصاها.
قد يكون مردّ هذا الإعراض توافق مصالح زعماء تلك الدول الاستراتيجية مع المؤسسة الحاكمة والتي ستحكم في إسرائيل؛ ومن جهة اخرى، نتيجة لسوء تقدير مجتمعاتها وقصورها في تقييم قيمة المشاركة السياسية الشعبية الحرة واستنفاذ الشعب لحقه بالانتخاب، وذلك لأنها عبارة عن مجتمعات عاشت تاريخيًا وتعيش ليومنا في ظل أنظمة حكم مستبدّة حرصت على “تعقيم” وسلب إرادات أبنائها وإبقائهم مخلوقات مهزومة ومدجّنة وجموع من العاجزين.
بدأت مقالتي بهذه الاشارة كي أؤكد على قناعتي المعلنة دومًا بأننا نحن، المواطنين العرب في إسرائيل،كنا وما زلنا وسنبقى أصحاب هذا “العرس” أو ربما هذا “المأتم”؛ وبالتالي سنكون نحن أول ضحايا نتائجه أو من بين المستفيدين منها.
يجب أن نقرأ بمسؤولية وبحكمة وبحنكة ماذا تخبّيء لنا أيام إسرائيل المقبلة، فمن يتمعن بمواقف الأغلبية اليهودية الناجزة وببرامج معظم الأحزاب الصهيونية المشاركة في الانتخابات المعلنة سيكتشف بسهولة ما معنى ما قاله “الحكيم” عندما حذّر من حسن النوايا والتمسك بقدسية الحق، فبعضها قد يقود أصاحبها أحيانًا إلى الجحيم.
لا أقول ذلك من باب التهويل الدعائي أو التخويف الأجوف؛ فأنا، مثل الأغلبية منكم، لا أرى فروقًا جوهرية بين معظم الأحزاب الصهيونية والدينية المتنافسة في هذه المعركة، واذا ما استثنينا حزب “ميرتس” الصهيوني اليهودي-العربي ، سنجد أن الحزبين الأساسيين المتناطحين، حزب “الليكود” بزعامة بنيامين نتياهو و حزب الجنرالات “كحول لفان” بقيادة بني جانتس، يتشابهان، بشكل أو بآخر، في توجهاتهما العقائدية والسياسية العامة وفي تخريجاتهما القانونية ازاء طبيعة وجودنا كمواطنين في الدولة وشروط بقائنا فيها كأقلية قومية غير يهودية.
لكن المشكلة لا تنتهي عند هذه الجزئية التي يشدّد عليها دعاة مقاطعة الانتخابات ويوظفونها كمبرر يدعمون به حجتهم حول عبثية التصويت وعدم أهميته؛ فابقاء هذا النداء “كصرخة يوحنا” في برية الفاشية الزاحفة قد يؤدي بنا إلى التهلكة ويسهل على الأحزاب اليمينية الفاشية، التي تجاهر بضرورة طردنا من الدولة، مهمتها.
لا يمكن أن نقوم، في واقعنا المعقد، بوظيفة الكاميرا الاجتماعية فقط، ولا بدور الرسامين الانطباعيين، ونلتزم بتشخيص طبائع أعدائنا ووصف خطورة سمومهم ثم نقرّر مقاطعتهم والابتعاد عن مواقعهم وهي في الواقع مواقعنا أيضًا.
لا يعقل أن يتعاطف مجتمع أو قطاعات واسعة منه مع نداءات المقاطعة، مهما كانت دوافعها، من دون أن يقترح أصحابها بدائل متكاملة وواقعية وقابلة للتطبيق تضمن استمرار وجودنا في وطننا.
يجب أن نرى الفوارق بين هذه المعركة الانتخابية وبين ما سبقها؛ فبعد شرعنة حقوق المستوطنين اليمينيين العنصريين وتصالح أغلبية المجتمع الاسرائيلي مع قياداتها وادماجهم كشركاء طبيعيين في جميع منظومات الحكم، بما فيها كقضاة في المحكمة العليا وفي قيادات الجيش وفي اذرع الأمن الأخرى، بدأنا نشهد كيف تجري عملية “شرعنة” مجموعات سياسية يعرّفها القانون الاسرائيلي كمنظمات إرهابية منعت لسنوات عديدة من حق مزاولة أي نشاط سياسي أو اجتماعي على الاطلاق.
فكيف يتوقع، والحال بهذه الخطورة، أن يتعاطف مجتمع أو شرائح منه مع نداءات المقاطعة، مهما كانت دوافعها صادقة أو عبثية أو مغامرة، في حين ان هنالك احتمالاً جدياً بأن نستطيع، اذا رفعنا نسبة تصويتنا، أن نعزّز قوتنا ونزيد من فرص تصدّينا لقوى اليمين الفاشي الزاحفة ؟
القضية لن تكون اسقاطنا لليمين أو لا ، فلقد تخلصنا من مفاضلة الأحزاب اليمينية وتصنيفها بحسب مكانتها في سلم العنصرية، لكننا أصبحنا نواجه معسكرات يمينية ضخمة تتنافس فيما بينها على ضمّ كتائب جديدة يُشهر بعضها برامج عنصرية فاشية؛ فبدون “الكاهانيين” و”الفيجليين” و”السمورطتشيين” ، مثلًا، لن ينجح نتياهو بإقامة حكومته وقد يضطر مثله معسكر جانتس لسلوك هذا الطريق أيضًا حسب الاستطلاعات، ولكن زيادة نسبة أصواتنا قد تتسبب بسقوط هذه الأحزاب.
أعرف أن لليأس، عند الشباب، من السياسة والسياسيين، سلطانا؛ وأعرف أن جرح الكرامة الوطنية بينهم يولّد لديهم رغبات جامحة وفضاءات سابحة؛ واعرف أن العجز مفتاح لفرج مؤجل وأخ للسراب؛ لكنني أعرف ايضًا كيف “ضاعت فلسطين” على مشارف “العقالات” وتحت أقدام الخواجات، وكيف طارت فراشاتها على ايقاعات الطبول والقصائد وغنج الندى وصهيل الأرامل والامهات. وأعرف، بالمقابل، كيف ولماذا بقينا على صدورهم في وطننا كالصبار، وكيف رسَونا في سماء الشرق كورد الملاءات.
أنا لا أنكر على أحد حقه بالغضب ولا بضرورة الشك واهمية الاحتجاج؛ فلولاها جميعًا لبقيت الناس عبارة عن كثبان من طين وغبار تسوقها الريح كلما هبت هوجاء، وتذيبها دموع السماء؛ ولكن، يزعجنا هذا الردح بين معسكرات المقاطعين وبين من ضدهم؛ بين من يتمسك بحق الفل أن يموت وحيدًا وبصوت العنادل في الوهاد وبحة الكمنجات وبين من يصر على أن يقارع “داهود” في عقر داره وبالصرخة وبالوقفة وبالقصيدة وبيوم الارض وبالدماء في اكتوبر وفي الأول من أيار، ولا يكتفي بما نقلت الاسطورة عما فعل الحجر “بجوليات”.
قبل أيام، خلال نقاش جمعني ببعض الأصدقاء المؤيدين والداعين لمشاركة المواطنين في الانتخابات المقبلة، تحدّى صديق مثقف وواع ومسؤول خيالنا وقال: تصوّروا لو يقاطع جميع العرب هذه الانتخابات ؟
توقفنا مليّاً وفككنا الفكرة بهدوء وبوجع واجمعنا على أنه بالخيال وحده لن ننجو من الخسارة ولن نوقف النزيف ونمنع المذبحة، فمقاطعة كهذه شاملة يجب أن تكون في الواقع وجهاً آخر لفكرة العصيان المدني الذي لا يمكن اطلاقها على أهداب عيون رامدة ولا من جوف صدور مكلومة وهادرة. انها مشروع شعب بحاجة الى أرض وبحر وسماء ولا يكفيها بعض الدعاة والشعراء والحالمين والرهبان.
أنا سأصوّت لقائمة “الجبهة والتغيير” وأدعو الجميع أن يصوتوا لها او لقائمة “الموحدة والتجمع”؛ ولأولئك الذين ربّوا حساسية لهاتين القائمتين،لا تقاطعوا وصوّتوا لقائمة “ميرتس”؛ فرغم ما يقال بحقها من جراء رداءة مواقف قادتها في بعض المحطات المفصلية، تبقى بديلًا أفضل من اجميع الأحزاب الصهيونية الأخرى.
لقد كتبت في هواجس من اجازة مرضية بأنه، “ولوهلة قد يظن المراقب أن قضية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل هي مجرد حدث ثانوي لا أهمية له في خضمّ ما يجري من تفاعلات صاخبة وأحداث دامية في جميع أرجاء العالم ؛ وبالتالي فأهمية ما ستحققه القائمتان العربيتان اللتان تخوضان هذه الانتخابات سيكون بحجم خربشة هزيلة على صفحة هذا التاريخ.
هناك من يروّج لهذه المشاعر وهم يعرفون أن الواقع مختلف ومغاير ، وهنالك من يغذيها برومانسية ثورية أو لايمانهم الغيبي بأن النصر على إسرائيل، هذا الكيان المزعوم” بات قاب قوس ودعاء، والعدل، هكذا يؤمنون، رغم قهقهة الأيام، من سنن الحياة وفضائلها غير الزائلة.
لم أوافق في الماضي مع من يلغي ضرورة مشاركتنا، نحن المواطنين العرب، في الانتخابات الاسرائيلية، أما اليوم فلقد تعززت قناعتي كثيرًا بأهمية هذه المشاركة لأن لنتائجها تأثيرا كبيرا على مستقبلنا وعلى مكانتنا في الدولة، لا سيما إذا تخيّلنا كيف ستتطاوس إسرائيل الجديدة كقلعة في المدى عامرة، وكيف ستقف جيوشها حماةً لقصور أخوتها العرب المستعربة والعاربة !
كل من تابع الأخبار رأى كيف يبتلع ليل إسرائيل نجوم الشرق ويفترش جرادها سفوح الهضاب ويلتهم طرابين الفجر وانفاس الشجر؛ فقريبًا سيصبح “الولاء” في إسرائيل، عتبة للخبز وسلمًا للعيش خارج الحفر ، وستبحث هوية المواطن العربي فيها عن حيّزها الملتبس بين “سيقان البامبو” الشرقأوسطية وخرائب أحلام دارسة وخرائط من عدم”.
وعليه ولذلك فأنا لن أقاطع وسأصوت .. أنا باق، أنا موجود، أنا مؤثر.
جواد بولس