الذاكرة هي الهدف الأوّل للسطو
تاريخ النشر: 15/04/19 | 22:47اتصل بي صديق مغترب وأخبرني بأنّه زوّد مخرجة ألمانيّة برقم هاتفي وطلب استضافتها في حيفا لأنّها ستشارك في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام في دورته الرابعة. تحضيرًا لاستقبالها، ولندخل الأجواء، حجزت تذاكر للفيلم الافتتاحي، “مفك” للمخرج بسّام جرباوي في قاعة مسرح الميدان الحيفاويّ (يتناول الفيلم قصّة زياد؛ بعد 15 سنة في السجن، يكافح للتأقلم مع الحياة الفلسطينيّة الحديثة، حتّى يقوم بدور البطل الذي يريد له الجميع أن يكونه، غير قادر على التمييز بين الحقيقة والهذيان، ينكسر زياد ويدفع بنفسه إلى حيث بدأ كلّ شيء) بحضور مشاركي الفيلم وطاقمه، فوجئنا بالحضور والترتيب وحفل الافتتاح الراقي.
تبيّن أنّ المهرجان بإدارة روجيه خليف ويرافقه مجموعة متطوّعون (منهم، على سبيل المثال لا الحصر، لينا منصور، سماء واكيم، سامية العبيدي، صالح دبّاح، لينا سويلم، حنان واكيم، سمير زعبي وغيرهم كُثر)، عبارة عن مشروع مستقلّ يطمح لخلق تقاطع ثقافيّ بين حيفا وأجزاء محظورة لا يمكن الوصول إليها في الوطن العربيّ ممّا يسمح بكشف فراغات ثقافيّة داخليّة ومتداخلة سادت لفترة طويلة، على حدّ قولهم، ويحتضن منصّة خاصة للمواهب المحليّة: البارزة والناشئة وغير المعروفة، ويشكّل تبادلًا حماسيًا لسينما استثنائيّة. شمل المهرجان عشرات الأفلام؛ روائيّة، وثائقيّة، قصيرة، ومجموعة أفلام للأطفال، وكذلك ورشات ودروس خبراء. أماكن العرض متنوّعة ومنها مسرح الميدان، مسرح خشبة، فتوش بار وجاليري، مساحة، كباريت، الديوان، العين مختبر حيفا الثقافي وغيرها وحضره الآلاف. أغبطني تفاني شبابنا الذي لم يُصب بداء الغربة داخل الوطن، وبتُّ أكثر تفاؤلًا وأملًا بالمستقبل.
التقيت برفقة زوجتي سميرة بالمخرجة مونيكا ماورر، يرافقها زوجها الداعم والرائع ساندرو كاساليني، ورافقناهم فترة مكوثهم في حيفا، وتبيّن أنّ مونيكا شخصيّة استثنائيّة، موثّقة الثورة الفلسطينيّة، تحتفظ في إيطاليا بحوالي 100 ساعة مصوّرة من حياة وتاريخ الثورة الفلسطينيّة على أفلام 16 ملم، وتعمل على رقمنتها لتصبح جاهزة للمشاهدة للأجيال الواعدة.
شاركت مونيكا، مع مؤسسة السينما الفلسطينيّة، بتصوير وإنتاج عدّة أفلام تتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة وشعبها ومنها: “الهلال الأحمر، أطفال فلسطين، المولودة من الموت، أشبال، تصوير الثورة” وغيرها، ورمّمت فيلم تلّ الزعتر الذي أحرجه الراحل مصطفى أبو علي وحوّلته إلى فيلم رقمي بالأسود والأبيض. حدّثتنا أنّها بدأت العمل على تلك الذاكرة منذ أكثر من أربعين عامًا، وحملت تلك الذاكرة الجماعيّة المصوّرة للشعب الفلسطيني على ظهرها كالسلحفاة وفي وجدانها وعقلها كما تحمل الأم ابنها وترعاه حتى يقوى عوده، وترى الموضوع برمّته كأمانة يتوجّب عليها إيصالها للأجيال الفلسطينيّة القادمة.
كما وحدّثنا زوجها ساندرو كاساليني، صحافي إيطالي يساري متقاعد، حين عمل بالراديو (وعُرف حينه The voice) وبثّ خبر إهداء إيطاليا مونديال عام 1982 لفلسطين وشعبها تزامنًا مع حصار بيروت واحتلالها للجنوب اللبنانيّ.
تجوّلنا في حيفا وأحيائها، وادي النسناس ووادي الصليب والكرمل، وخلال تجوالنا تحدّثت مونيكا بحِرقة عن ضياع وفقدان أفلام فلسطينيّة خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وهي واثقة أنّ القسم الأكبر نُهب وسُلب بواسطة تلك القوّات الغازية، بعد تخطيط مسبق لمحو الذاكرة الجماعيّة، ولكنّها نجحت في تسريب بعض الأفلام التي كانت بحوزتها، ومنها أفلام فيديو مصوّرة، وأخرى هرّبها الجرحى معهم خلال إخلائهم إلى اليونان عام 1982!.
وثّقت مونيكا في العديد من أفلامها البُنية الصحيّة، التعليميّة والاجتماعيّة للثورة الفلسطينيّة، مركّزة على دور المرأة، لتُثبت للعالم أنّ الثورة الفلسطينيّة ليست بندقيّة فقط، إنّها قلم كاتب ولريشة فنّان ومبضع جرّاح ومحراث فلاح، هي ثورة شعب بأكمله (كما ورد على لسان الراحل ياسر عرفات في فيلم الهلال الأحمر)، شعب انتكب ويحلم بالعودة إلى بلده ووطنه ويعمل على تحقيق ذاك الحلم.
كنت محظوظًا حين شاركت في ورشة العمل مع الأرشيف في مسرح خشبة بمشاركة مونيكا، آن ماري جاسر وهند شوفاني ويسَّرها صالح دبّاح، تحدّثت خلالها عن تجربتها الواسعة التي امتدت على مدى عقود، وقدّمن نصائح عمليّة حول تنوّع المواد الأرشيفيّة واستخداماتها المحتملة في مراحل صناعة الأفلام، وكيف يمكن للأرشيف أن يثير الخيال والإبداع؟ وكذلك الصعوبات الجمّة التي تواجههن.
تحدّثت مونيكا عن التفويض الرسميّ الذي منحه إيّاها الراحل ياسر عرفات شخصياً للاحتفاظ بالأفلام كي لا تضيع! وعن صيرورة انتاجها لفيلم “فلتسمع” عام 1985 بإيحاء قصيدة توفيق زياد، يتناول المقاومة اليوميّة للشعب الفلسطيني، ومحاولات الاحتلال المتكرّرة لتدمير المؤسّسات الصحيّة والطبيّة، وتلاه بعدها بعامين فيلماً عن جذور المقاومة الفلسطينيّة حتّى الانتفاضة الأولى.
في طريقنا إلى عكا اتصل بي الفنّان العكيّ وليد قشاش لنتحدّث حول هدم “تمثال الحوت” الذي دُشّن عام 2000 على صخور ميناء عكا، وحمل عبارة “ذكرى لمن غرقوا بالبحر” ليصير معلمًا من معالمها، وقامت بلديّة عكا بهدمه بطريقة همجيّة بربريّة دون أي سابق إنذار ودون أن يتوجّهوا له كصاحب هذا العمل، ويبدوا أنّ إبداعاتنا تؤلمهم، ولا تروق لهم هذه البصمات الثقافيّة والحضاريّة. كان بانتظارنا حال وصولنا وقمنا بجولة في مرسمه ليحدّثنا عن المرسم وعكّا وما يمرّ به مما أثار حماس مونيكا التي تعهّدت بالمبادرة لحملة احتجاج عالميّة ضد هدمه وكانت جولة مثيرة ومؤثّرة، وبعدها كانت لنا شطحة في البلدة القديمة ومكتبة الأسوار ولقاء ذو شجون مع صاحبها يعقوب حجازي، تحدّثت مونيكا خلالها عن دوافع اهتمامها بالقضيّة الفلسطينيّة ودعمها، بل باتت جزءً لا يتجزّأ من برنامجها اليوميّ وحياتها، فما زالت تتذكّر آثار ضربة من الشرطة لمشاركتها وهي في الـ 14 من عمرها في مظاهرة تنّدد بالتعذيب الذي كان يمارسه الفرنسيّون في الجزائر، وفي تلك المظاهرة قرّرت الانضمام لجمعيّة مناهضة للفاشيّة، مناصرة العمّال الأجانب في ألمانيا آنذاك، ومن بينهم العمّال الفلسطينيّين الذين من خلالهم تعرّفت على القضيّة الفلسطينيّة.
تحدّثت كذلك عن أفلامها الوثائقيّة في تشيلي وكردستان وغيرها، مناصرتها للحركات الثوريّة وحركات تحرّر الشعوب في كلّ أنحاء العالم. خلال تواجدنا في الأسوار تواصل معي صديقي د. عبد العزيز اللبدي وما إن سمعت أسمه حتى أبرقت عيناها واختطفت الهاتف لتخاطبه مطوّلا ورتّبنا لقاء في رام الله (حال سماعه بخبر تواجدها في البلاد قرّر تغيير برامجه وتقديم مشواره خصّيصًا ليلتقيها)! حدّثتني عن زيارتها الأولى لبيروت في نهاية السبعينات من القرن الماضي، كعضوة في بعثة طبيّة أوروبيّة للتضامن مع الهلال الأحمر الفلسطيني، وتعرّفَت إلى صديقاي الزعتريّين: الطبيبين يوسف عراقي وعبد العزيز اللبدي، وكان لقاؤها بأبي عمّار الذي أقنعها بالتحوّل من دراسة الطب إلى السينما لتوثيق الزيارة بفيلم، فكان لقاءً تاريخيّا غيّر مجرى حياتها!
تشعّ مونيكا حيويّةً ونشاطًا، حيث قامت بعشرات اللقاءات والورشات في القدس، حيفا، رام الله وبيت لحم، دون كلل أو ملل، خدمة لفكرة تؤمن بها قلبًا وقالبًا…من أجل فلسطين وشعبها!
تعمل مونيكا ليل نهار على ترميم الأرشيف السينمائيّ الفلسطيني، المتواجد في إيطاليا، رقمنته ديجيتاليًا وتحويله أوّل بأوّل لمؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في لبنان ورام الله ليكن متاحًا للباحثين والمهتمّين بتلك الحقبة الهامّة من تاريخ الثورة الفلسطينيّة، وللحفاظ عليه من نهب وسطو جديد من قبل الاحتلال كما حدث مع الوثائق الفلسطينيّة في النكبة والنكسة ولبنان وكلّ مكان، فهي تقول: “الذاكرة هي الهدف الأول للسطو من قبل الاحتلال”ّ.
حسن عبادي