قراءة في قصة “الأسد الذي فارَقَ الحياة مبتسما” للكاتب المربي سهيل عيساوي
تاريخ النشر: 12/04/19 | 12:13لمحة عامة:
– عني الكاتب: “الأستاذ سهيل عيساوي”، والناشر: “دار الهدى ع. زحالقة” بإخراج القصة بأجمل حلة… فجاءت بغلاف مقوى وورق صقيل ممتاز، على مدى 37 صفحة من الحجم الكبير (22/28).. تزينها رسومات المبدعة الأردنية رنا حتاملة، ما زاد القصة رونقا وجمالا وجاذبية. وقد أبدعت الفنانة بملائمة الصور والألوان والمساحات لجو القصة.
– القصة جاءت على لسان الحيوان، على نمط “كليلة ودمنة” ولكن بقالب عصري، وأسلوب جذاب وحيوي… ولغة سهلة متينة قريبة من عالم الطالب ووعيه وحسه.
– ملخص القصة:
تدور أحداث القصة حول أسد كان يحكم الغابة بقوة شخصيته، وقوة عزيمته، وهيبته… تهابه الحيوانات والطيور ولا تخالف شرعه؛ لقوته وجبروته وسطوته التي يعبر عنها الكاتب بقوله:- “وعندما يزأر ترتعد فرائصها خوفًا، وتهب لسماع خطاباته التي لا تخلو من الوعيد والتهديد”.
ما يدل على أنه كان يحكم بقوة جبروته وبطشه ولغة التخويف والتهديد والوعيد…
مرض الأسد، وضعف جسمه، وذهبت قوته، ومعها ذهبت هيبته وجبروته… وانقسم أهل الغابة، ودب الاختلاف بينهم حول من يرث الملك والسلطان بعد الأسد؟ هذا الخلاف الذي لم ينته، ولم يتوصل أهل الغابة إلى قرار فيه، وظلوا بلا قائد بعده… مات الأسد بعد معاناة مع المرض، وعاشت الغابة بعده في فوضى وجحيم الخلافات والانقسامات، بل بقوا على حال من التفرق والخلاف والصراع حول من يملك القدرة والحق في الفوز بالملك بعد الأسد العظيم.
– تحليل القصة:
بداية؛ يجب الوقوف على دلالة العنوان لأهميتها… فكما بيّن الباحث زكريا الآغا: “أن العنوان هو أحد أهم الأبنية المعاصرة، كونه المفتَتَح للنص، والذي من خلاله نستطيع أن نبني صورة عامة للنص بكامله”
كما أن دارسي الأدب يؤكدون على أن العنوان يحمل دلالة مشيرة ورامزة: إما إلى الشخصية المركزية، أو إلى الفكرة المركزية، أو لكليهما معا…
في عنوان قصة الأستاذ سهيل عيساوي تستوقفنا الصفة الرامزة: (فارق الحياة مبتسما)، لنجد أنها تشير إلى بطل القصة (الشخصية المركزية والمحورية)، وفي ذات الوقت نجدها ترمز إلى الفكرة المركزية في القصة، والتي تتمحور حول شخصية الأسد، وتدفعنا للبحث والتفكير حول الرمز القوي (مات مبتسما)، ولنطرج التساؤل الكبير: (كيف يموت مبتسما؟ ولماذا يموت مبتسمًا؟ وما الذي في موته يبعث على الابتسام؟) وباختصار: (على ماذا يدل ابتسامه وهو يفارق الحياة، وبعد مرض وهزال وألم شديد وضعف وفقدان للقوة والسطوة…؟)
في الإجابة عن هذه التساؤلات؛ وهي لا شك إجابة واحدة؛ تكمن الفكرة المركزية للقصة.. وفي هذا تكمن قوة القصة، ومهارة الكاتب في جعلها رمزية، تُلزمُ القارئ التأمل والتفكير والتحليل للوصول إليها… وهي لفتة يشكر عليها كاتبنا؛ لأن روعة القصة تكمن في قدرتها على حمل القارئ على التفكير والتحيليل… وبكونها لا تقدم له كل شيء بوضوح كوجبة جاهزة.
حين نتعمق في قراءة الأحداث والمواقف في القصة؛ نجد أنّ الأسد الذي ملك الغابة وحكم أهلها على اختلاف أنواعهم وقدراتهم وصفاتهم… بقوة شخصيته، وهيبته وجبروته (كما أسلفنا)، وأنه ظل محتفظًا بهذه الميزة ما دام حيًّا؛ فرغم ضعفه ومرضه ونحول جسده، وذهاب قوة جسده… ظل محافظا على هيبته، وجبروته… ولم يتنازل، ولم يهن، ولم يسمح لأحد أن يرى ضعفه، ولم يسمح لنفسه بالاستعانة بأحد… بل آثر أن يتسامى عن ألمه، وأن يكتم مرضه عن أهل الغابة.. حتى علموا بالأمر صدفة، بعد زيارة الثعلب (طبيبه الخاص) له..
كذلك: نجد الخلاف الذي دبّ بين أهل الغابة، كل يدعي حقه في قيادة الغابة بعد موت الأسد، وكل يبني ادعاءه على صفة فيه: فالفيل يفتخر بقوته وصداقته للأسد، والنمر بسبب قوته وسطوته، والطاووس بجماله وعزة نفسه… كل حيوان يجد في نفسه ميزة تؤهله للملك، ولكن أحدًا منهم لا يملك كل الصفات المطلوبة والتوفّرة في شخصية الأسد الذي ملك القوة والعزة والهيبة والحكمة والجبروت… والقدرة على فرض الهيبة، وبث الخوف في النفوس، وجعلها تطيعه تلزم أمره صاغرة… والقدرة على ضبط الأمور وإعطاء كل فرد مكانته..
نعم؛ مات الأسد مبتسمًا لأنَّ أحدًا لا يملك القوة على السيطرة بعده، وأن قوته وجبروته هي عدله فيهم، لأنهم لا يمكن قيادتهم، ومنع افتراقهم واختلافهم وتخاصمهم… إلا بالقوة والهيبة والجبروت الذي لا يملكه إلا هو.
لقد مات الأسد مبتسما لأنه مات راضيًا عن نفسه، راضيًا عن قوته الكامنة في حكمته وجبروته معا.. والتي مكنته من أداء واجبه وتأدية رسالته في الحياة والحكم بقناعة وقوة… تلك هي الفكرة المركزية في القصة: (الرضا، رضا الفرد عن نفسه، رضاه عن أسلوبه وطريقته ونهجه… هي سر قوته وهيبته، وسر سعادته معاً، وهي ما يجعله يبتسم في النهاية.
وهذا يذكرنا في الحكمة الشائعة (الضاحك الحقيقي من يضحك في النهاية)… وكذلك يذكرنا بالحكمة القائلة: (العبرة بالخاتمة)..
لقد أبدع الكاتب إذ جعلنا نشعر أن الأسد ابتسم في النهاية، ومات مبتسما.. بينما بقي الذين مايزالون على قد الحياة على خلاف وصراع وجدال لا يترك لأحدهم فرصة للابتسام..
ابتسم الأسد لأنه أمسك بزمام الأمور، وقاد الجميع بهيبته، وفرض على الجميع حبه وطاعته واحترامه بقوة شخصيته وقوة سلطانه… فلم يجد من يعارضه أو يخالفه في حياته… ابتسم لأنه عاش كما أراد، ومات وهو يملك كل الأمور بيده… ابتسم لأن خلاف أهل الغابة وتنافسهم أشعره بأنه كان مميزًا متفرِّدًا بقوته وجبروته وهيبته… التي مكّنته من أداء رسالته على أتم وجه، وكما أراد تمامًا… ولن يجد أهل الغابة من يشببه بصفاته هذه.
– ملاحظة:
قد يرى البعض في هذه القصة تلميحًا سياسيًّا.. أو إشارة إلى شخص الزعيم الأسد! ما أراه نوعًا من الشطط والمبالغة، وتحميل القصة ما لا تحتمل، وما يبعدها عن الهدف الرئيسي منها… كما أنه يحصر القصة في خانة ضيقة وأفق شخصي ضيق ومغرض… يسيء للقصة، ويبتعد بها عن هدفها التربوي، ويجعل رسائل الكاتب التربوية والتثقيفية (التي سنشير إليها لاحقا) باهتة وهامشية… والكاتب أرادها أن تكون الأصل والهدف ومركز الاهتمام.
– رسائل تربوية في القصة:
سهيل عيساوي كاتب يملك مقومات النجاح والتأثير في كتاباته، فهو يعتبر من أعمدة أدب الأطفال في البلاد وخارجها.. وهو يتجاوز الطفل إلى الأهل.. بمعنى: إنه يكتب بلغة وأسلوبٍ وفكر يداعب حس ووعي وعقل الأهل مع الطفل وبنفس الدرجة.. بحيث يجعل العبرة والفائدة عامة تشمل جميع أفراد العائلة.
لذلك نجده يركز في قصصه على قضايا فكرية وسلوكية، وظواهر مجتمعية تهم الكبير والصغير معا… ويقصد بها توجيه المجتمع ككل.
في هذه القصة عالج عدة قضايا من بينها:
1- وفاء الزوجة لزوجها، ورعايتها له مهما حدث… كما بقيت اللبؤة على وفائها وخدمتها لزوجها ووالد أشبالها… والحفاظ على جو الألفة والحميمية والحنان والاستقرارفي بيتها… ترعى زوجها، وتصطاد له الظباء الطرية التي لا يتعبه أكلها، وترعى أشبالها، وتحرس وتحمي عرينها بمرض زوجها.
2- الظن السيّئ، والشك، وكَيل الاتهامات بدون دليل… من ألأمراض السلوكية المجتمعية التي تعمل على إضعاف العلاقات بين أفراد المجتمع، وتتسبب بالخلافات والصراعات، وبث الأحقاد بين الأفراد… وقد مثّل لها كاتبنا بقوة في تصويره لاختلاف الحيوانات حول سبب مرض الأسد؛ حيث اختلقت القصص والأساطير حول ذلك، ودن أي دليل يثبت أيا منها… فمن قائل بأن اللبؤة تآمرت عليه لتجعل ابنها الشبل يتولى الملك من بعده. ومن قائل أن الضباع منحته لحوما فاسدة للتخلص من بطشه. ومن قائل إن مرضه جاءَ عقابًا له على ظلمه للحيوانات. ومن قائل بأن الأسد ليس مريضا، بل يتمارض لاختبار مدى ولاء أهل الغابة له…
3- ظاهرة النفاق: وقد مثل لها كاتبنا باجتماع الحيوانات والطيور عند باب الأسد كل يكيل له المديح ويثني عليه.. بعد أن اختلقوا وكالوا له التهم بغيابه، أو بعيدًا عنه.
4- الغرور، والإعجاب بالذات: فكل حيوان معجب بنفسه، ويرى أنه الأحق من غيره بالملك، كما أشرنا.. ولا أحد يرى في غيره هذا الحق، أو يعترف بأفضلية أحد عليه.. وهذا أحد أسباب تمزق المجتمع، وتفرق الكلمة، وضعف الثقة والاحترام المتبادل بين الأفراد.
5- الانفراد بالرأي، والتآمر بالسر، والخروج على إجماع المجتمع، ومحاولة الالتفاف على الآخرين؛ كما فعل الفيل والنمر والطاووس… إذ تهامسوا بينهم سرًا ودعوا إلى اجتماع طارئ لاختيار خليفة للأسد.
يريد كاتبنا أن ينبهنا إلى أن مثل هذه التدابير التي تدار بالسر؛ لن تأتي إلا بمزيد من الخلافات والمنافسات والتفرق والتباعد والتحاسد… ولذلك نجد النتيجة واضحة في قوله: (ص36):- “تعالت الصيحات ولغط الأصوات، ولم تتفق الحيوانات على زعيم يخلف الأسد، فتفرقوا في كل حدبٍ وصوب”.
– العبرة:
1- مات الأسد مبتسما؛ لأن كان سبب الوحدة، ولم يكن سبب الفرقة.. كان سبب الاتفاق، ولم يكن سبب الخلاف.. كان سبب التعاون والقوة، ولم يكن سبب التفرق والضعف.. ما يحمل رسالة قوية يوجهها كاتبنا للقارئ مفادها:- أن الوحدة والتعاون والتشاور والتفاهم والوضوح والاتفاق… هو سر النجاح وسر القوة وسر المحبة والسلام والسكينة… أما التهامس بالسر، وكيل الاتهامات، والإعجاب بالنفس، والأنانية… فهي سر الضعف والتفرق والخصام… ومجلبة للهزيمة والانهيار.
2- لا تقاد الشعوب، ولا تدار الأمور باللين والتساهل والتهاون… بل تدار بالقوة والهيبة والحكمة..
3- ليس الخير فيما يرضيك دائمًا، وليس الخير في السهل أبدًا… بل قد يكون الخير في الشدة، والفائدة بالصعوبة، والجدوى فيما لا يرضيك… فلا تحكم على الأمور من ظواهرها، بل من نتائجها… فقوة الأسد وشدته وهيبته… خلقت جو الوحدة والتماسك والقوة… ولذلك مات مبتسما.
– الخاتمة:
نشكر الكاتب سهيل عيساوي على غزارة انتاجه، وسمو رسالته، وروعة أسلوبه، وسعة أفقه كونه يخاطب كل أفراد المجتمع من خلال قصصه؛ ليخلق مجتمعا قارئا، متكاملا… ويشجع على التحاور بين الأجيال في بوتقة مشاركة القراءة والوعي القرائي والتحرر الفكري… بوعي وأفق حضاري تربوي.. متمنين له مزيدًا من الإبداع والرقي الأدبي والفكري والتربوي.
بقلم: صالح أحمد (كناعنة)