هناك في جورة الذهب(3) بقلم د. حاتم عيد خوري
تاريخ النشر: 19/04/19 | 11:22… شعرَ خضر انَّ قلبه ينتفض على وقعِ دقاتٍ كاد صوتُها في اذنيه، يعلو على صوت الطلقات النارية التي سمعَها قبل قليل. فوجد نفسه من جديد، متسائلا: “مَن القادمين يا ترى؟”، مضيفا بقلق بالغ: ” ايكونون جنودا اكتشفوا امرنا فاتوا لتصفيتنا، او لاعتقالنا او لطردنا من حيث اتينا، نحو لبنان؟”.. لم يطل انتظار خضر، فما هي سوى لحظات واذ به يلمح ثلاثةَ رجالٍ، وقد بدوا في الظلمة اشباحا، يُغِذّون الخطى صعودا نحو قمة الجبل. هذا المنظر جعل خضر يتذكر ما سمعه عن حوادث الطرد (او الكَبّ كما كان البعض يسميها) التي كان يمارسها الجيش الاسرائيلي ضدَّ فلسطينيين عائدين الى وطنهم، اذ كان يُحمّلهم في سياراته موصِلا إيّاهم الى الشارع الشمالي، حيث يُنزِلُهم هناك آمِرًا إيّاهم بالتحرك الفوري شمالا نحو لبنان، مطلقا اسلحتَه النارية فوق رؤوسهم كي لا تسوّل لهم نفوسُهم العودةَ مرة اخرى الى وطنهم. هذا المشهد وإن اقلقَ خضرًا تحسّبا من ملاقاة المصير ذاته ، إلا انه منحَه في الوقت ذاته، فسحةً من املٍ بمتابعة مسيرة العودة باعتبار ان امرَهُم لم يُكتشَف حتى الان وان الرصاص لم يكن موجَّها ضد قافلته.
كان خضر يدرك تماما ان فسحة الامل هذه قد يستهلكُها تردّدُه في اتخاذ القرار، ومع ذلك بقي مسمّرا في مكانه وكأنه فقدَ القدرة على التحرك. رغبتُه الصادقة في العودة الى الوطن كانت تتراوح بين مدٍّ وجزر. مدٌّ يرفده شوقٌ للوطن واشمئزازٌ من المخيم واللجوء، وجزْرٌ يمليه تحسبٌ من مخاطرِ قطعِ الشارع الشمالي، ومن احتمالِ اعتقالهم و/او طردهم، إن لم يكن قتلهم، من قبل قوات الجيش.. وبينما كان خضر في مكانه يتلوى كان الدالول على نار الانتظار يتقلّى، فالطريق الى “البلد” ما زالت طويلة، وطريق عودته، تحت جنح الظلام، مع حماريه الى لبنان اطول بكثير. قرّر الدالول ان ياخذ زمام الامور بيديه، ويتابع المسـيرة معتمدا على حدس داخلـي كانت قد صقلته تجاربُه المماثلة الكثيرة السـابقة في قطع الشـارع الشمـالي. تلك التجارب علّمتْه ان الهدوء المطلق بعد عاصفة إطلاق نارٍ، مؤشـرٌ إلى ان سيارات الجيش قد انسحبت وان الطريق قد اصبحت آمنةً وسـالكة.
تحركَ الدالول فتحركت خلفه القافلة التي بدت وكانّها تجرّ خضرا وراءها، في اجواء مشحونة بتوتر شديد. كان الدالول في منتهى الحذر وكانه يجتاز حقل الغام، فبدت الدقائق القليلة التي احتاجتها القافلة لقطع الشارع، دهرا باكمله قد عبّرت عنه تنهيدةٌ اطلقها الدالول، مصحوبةً بهمسة: “الحمد لله. قطعنا الشارع”. لم يعلّق خضر على همسة الدالول ولو بكلمة مسموعة واحدة، ربما لانه لم يعرف هل الدالول قال هذا تطمينا لنفسه او لغيره، وربما لان الكلام قد تجمّد في حنجرته، لكنه حاول ان يستمدَّ تشجيعا ممَّ انجِزَ، إلا انه كان يدرك ان الفجر يقف لهم بالمرصاد ليخلع عنهم عباءة الليل التي تدثروا بها تحاشيا لاعين الرقباء عسكريين كانوا ام مدنيين، كما كان يعلم ايضا ان الطريق ما زالت طويلة ومحفوفة بالمخاطر والمخاوف. وتحت وطأة هذه المخاوف، شعر خضر انه في سباق مع الزمن، فبدا كتلميذٍ في امتحانٍ، يتصارع مع الوقت. وكما يمرُّ وقتُ الامتحان بسرعة، هكذا مرّ الوقت الذي احتاجتْه القافلةُ لتصل الى كروم الزيتون الشاسعة في المدخل الغربي للبلد. طلب خضر من الدالول ان يتريث قليلا بين الزيتون، ريثما يذهب بمفرده لاستكشاف الطريق المؤدية الى بيت خاله عيسى.. لم يطل غياب خضر إذ عاد بسرعة ليقول ان الطريق آمنة. استأنفت القافلةُ تحركَها لتحطّ رحالَها في بيت الخال عيسى وذلك بعد مسيرة قصيرة على وقع نباحٍ يعكّرُ هدوءَ الليل لكنّه يوفّر في ذات الوقت، غطاءً للجلبة المنبعثة من احتكاك حوافر الحِمارَين بحجارةِ طريقٍ غير معبّدة…
كان الاستقبال حارًّا واللقاء مؤثرا ومثيرا لانفعالٍ كادَ يتمرّدُ على وسائل الحيطة والحذر التي كانت تستوجبها ظروف الحكم العسكري الذي كان مفروضا آنذاك، على تلك الاقلية من العرب الفلسطينيين الذين بقوا في بلادهم. لقد مدّ الخال عيسى يده ليتناول اللوكس المدلّى من السقف قاصدا اشعاله، غير انه سرعان ما ادرك خطورة مثل هذه الخطوة التي ستُلفِت الانظار، فعدلَ عن ذلك. لكنه سارع وزوجته الى ايقاد النار في الموقدة تاركا للدخان المنبعث منها حرية التصاعد عبر الداخون، والى تسخين الماء وغلي القهوة والشاي والمرمية وتسخين خبز الصاج واحضار الزعتر واللبنة والبيض المسلوق وغيرها من حاجيات الفطور المتوفرة في بيوت الفلاحين رغم انظمة التقنين التي فرضها الجيش الاسرائيلي….
محاولة عيسى وزوجته ان يتكتموا على خبر عودة اخته وابنها واسرته، ريثما يتدبرون الامر مع سلطات الحكم العسكري، لم تحقّق هدفَها. فسرعان ما شاع الخبر بين الجيران والاقارب، ليتسرب الى الناس الاخرين الذين اخذوا بالتوافد على بيت عيسى مهنئين ومسلِّمين ومتسقِّطين لاخبار الاهل في مخيمات اللجوء في لبنان… وعندما راى عيسى ان زمام الامور قد أفلِتَ من بين يديه، وان محاولة التكتم قد باءت بالفشل، وان الخبر قد انتشر في حارات البلد ولم يبق ما يخسره بهذا الصدد، قرر ان ينزع ” كاتم الصوت” عن ابتهاجه بعودة اقرب اقربائه بالسلامة، فترك لزوجته حرية اعداد وجبة غداء احتفالية تتصدرها “الكبّي النيّة” (الكبّة النيئة) الزحلاوية التي يشتهر بها اهل الجليل ايضا، غير عابيء بما يسبق ذلك من ايقاع “حوار” جريء يدور بين جرن الكبة والمدقة الخشبية، يجلجل صداه في ارجاء الحارة إن لم يكن ابعد من ذلك .. كما لم يعترض على جاره كامل ابو همام الذي بادر الى تناول المِجْوز(المزمار) من تحت شملته (حزامه القماشي)، ليعزف لحنا كاد يُرقِص الجالسين حول صينية الكبة، ويحرّكُ في صدر خضر نشوةً افتقدها منذ شُرِّد من بيته في جورة الذهب، وطغت على وجهه ابتسامةٌ ايقظت عضلاتِ الضحك التي خدّرتها، بل كادت تشلُّها، احداثُ النكبة المؤلمة ومعاناةُ رحلة العودة، وايقظت في داخله حُبّا كامنا اصيلا للنكتة والممازحة. وهكذا عندما سأله احدُهم عن مشاعره في هذه السهرة بعد مشاق رحلة العودة، لم يجبه خضر بصورةٍ مباشرةٍ تصفُ مدى سعادته، إنما فضّل ان يروي له وهو يضحك، قصةَ جاره في جورة الذهب المدعو رشيد ابو غنم .
وقع رشيد في حب فتاة جميلة، فاضطُرَّ اهلُه الى دفع مهرٍ عالٍ فاق المبلغ المتعارف عليه بين الناس، واثقل على الامكانات المادية لاهله، كما اثار انتقادَ الناس سيما الشباب المقبلين على الزواج.. بعد ان عاد رشيد وعروسه من شهر العسل، قال له احدهم معاتبا ومنتقدا ومستفِزّا: “ضِحكوا عليك دار العروس يا رشيد، ودفّعوك مهر غالي!”. فاجابهم رشيد متحدّيا: ” اسمعوا تاقُلْكو: المَهِر هلي انا دفعتو هو مقابل شهر العسل لحالو، وكل العمر مجاني”.
موجة الضحك العالية التي جلجلت في ارجاء ديوان السهرة، جعلت خضرا يسكت لحظة، ثم يتابع حديثه بمنتهى الجدية، قائلا: “والله يا جماعة، هذه السهرة الانيسة قد عوّضت عليَّ كلَ معاناة الغربة ومشقة رحلة العودة، اما الايام الاتية فستكون مكسبا صافيا إن شاء الله”…. وبهذه الاجواء المفعمة بالفرح والمطرزة بالتفاؤل، ودّع الخال عيسى ضيوفه من الجيران والاقارب والاصدقاء، تاركا لنفسه ولخضر ابن اخته ولافراد الاسرتين، فرصةَ الاسترخاء فغطّوا جميعا في نومٍ عميقٍ لم يستيقظوا منه الا على صوت طرقاتٍ كادت تحطّم بابَ البيت، وعلى وقع كلمتي “إفطَخ الباب”…
هبّ عيسى مذعورا من النوم. ادرك للتوّ ان “إفطَخ الباب” هي “إفتْح الباب” التي تعوّد الناسُ على سماعها كلما قام الجيش بزيارة “ودّيّةٍ” ليلية الى بيتٍ ما من بيوت البلد. سارع عيسى نحو الباب المهتزّ محاولا انقاذه من كسر مؤكد، وما ان فتحه حتى اندفعت الى داخل البيت ثلّةٌ من الجنود الذين قاموا باحتجاز عيسى وخضر في غرفة واحدة، بينما جمعوا النساء والاولاد في غرفة اخرى.. قام الجنود بتفتيش البيت ثم سارعوا الى تكبيل يدي عيسى وخضر وسوقهما الى سيارة عسكرية إنطلقت بسرعة من المكان، تاركةً خلفها اطفالا مذهولين يجهشون بالبكاء ونسوةً ينُحْن ويندبن ويتساءلن عن مصير الرجلين: “هل سيُعدمان؟”، “هل سيُسجنان؟”، “هل سيُبعدان الى لبنان؟” و “ماذا سيكون مصير الاسرتين؟”…
والى اللقاء في الحلقة الرابعة وعنوانها: “هناك في جورة الذهب(4)”.
د. حاتم عيد خوري