حق العودة…”مقدّس”؟!؟
تاريخ النشر: 23/04/19 | 14:41“أشعر أنّني أدخل حي اليهود في العصور الوسطى، أمشي على طول زقاق ضيّق، أتحرّك في حفرة مياه صرف مفتوحة، وأمرّ بعشرات المنازل ذات الغرفتين والغرفة الواحدة. أنا أقف في غيتو بدون شوارع أو أرصفة أو حدائق أو أفنية أو أشجار أو أزهار أو ساحات أو متاجر. أقف بين أشخاص مقتلعين، عديمي جنسيّة، أناس مشتّتين يعيشون في شتات مأساوي”. هذا ما كتبته غريس هالسيل عندما دخلت إلى مخيّم للاجئين الفلسطينيّين!
شاركت يوم الخميس 11.04.2019 برفقة صديقي مصطفى نفّاع حفل إشهار كتاب “اللاجئون الفلسطينيون وعملية السلام في الشرق الأوسط في ميزان القانون الدولي” للباحث الدكتور رائد محمد أبو بدوية في جامعة النجاح الوطنيّة في نابلس (يحوي الكتاب 293 صفحة، لوحة الغلاف بتصميم رامي قبج، صادر عن دار الرعاة للدراسات والنشر لصاحبها نقولا عقل)، والمؤلف ابن مخيّم جنين، ابن لوالدين لاجئين، يعمل أستاذًا للقانون الدولي والعلاقات الدوليّة في جامعة النجاح.
التطهير العرقيّ (Ethnic Cleansing) مصطلح يُطلق على عمليّة الطرد والإخلاء التي تقوم بها مجموعة عرقيّة معيّنة بحقّ سكّان غير مرغوب بهم يسكنون هذه المنطقة، وذلك على خلفيّة تمييز دينيّ، عرقيّ، سياسيّ أو استراتيجيّ أو لاعتبارات أيدولوجيّة، بهدف خلق حيّز جغرافيّ متجانس عرقيًّا، حيث يتمّ ذلك باستخدام القوّة أو القتل أو الإبادة أو التهجير، وترافقها مجازر تُرتَكب ضدّ الأقلّيّة المُستهدَفة، ونتاج ذلك التطهير العرقيّ الذي حصل في فلسطين هو قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين منذ النكبة، حيث تمّ تدمير 531 قرية وطرد 800 ألف فلسطينيّ. كتب المؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابه في كتابه “التطهير العرقيّ في فلسطين”: “إنّها القصّة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكّانها الأصليّين، وهي جريمة ضدّ الإنسانيّة أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا”.
يحوي الكتاب ثلاثة فصول: “العوامل التاريخيّة وآثارها”، اللاجئون الفلسطينيون اليوم (وضع اللاجئين الفلسطينيين في القانون الدولي والدول المضيفة)”، “اللاجئون الفلسطينيون وعمليّة السلام”، يتناول “ولادة” قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين إثر النكبة والنكسة وما بينهما وفشل عمليّة السلام في الشرق الأوسط من مؤتمر مدريد عام 1991 حتى يومنا، مع التركيز بشكل أساسيّ على قضيّة اللاجئين والدور الذي لعبته في مراحل المفاوضات، ودور الولايات المتحدة الأمريكيّة على مدار جميع مراحلها، وضع اللاجئين الفلسطينيّين الحالي، والأنظمة الدوليّة المرتبطة بقضيّتهم مركّزًا على التحدّيات والعوائق التي واجهت تنفيذها وعوامل إجهاضها وعجز المجتمع الدولي، تقييم عملية “السلام” وإخفاق محاولات ضمان حق العودة محاولًا تحليل أسباب فشل عمليّة السلام ولا سيّما ما يتعلّق بمسألة اللاجئين.
يتناول الكتاب البحثيّ بمهنيّة قلّ نظيرها كلّ القرارات الدوليّة والقوانين والتشريعات التي تتعلّق بقضيّة اللاجئين ووضعيّتهم القانونيّة، ما يعانونه في أماكن تواجدهم، وقوف بلدان العالم وحكوماتها مكتوفة الأيدي تجاه العدوان الإسرائيلي متجاهلين أنّ النكبة مستمرّة على مدى أكثر من سبعة عقود! معرّجًا على النظام القانوني الدولي للاجئين الفلسطينيّين، المشاكل القانونيّة التي تواجههم في أماكن تواجدهم مركّزًا على حق العودة والهويّة الفلسطينيّة، حق العودة في القانون الدولي وحق العودة الخاص باللاجئين الفلسطينيّين.
يعالج الباحث مسألة اللاجئين الفلسطينيّين ووضعهم القانونيّ على الصعيد الدولي وأوضاعهم القانونيّة في أمكنة اللجوء، ويحاول عرض الموقف الإسرائيلي من قضية اللاجئين الفلسطينيّين ومصيرهم، الموقف الرافض قطعيًّا لتطبيق حق العودة الذي تبنّته كلّ القيادات الإسرائيليّة بجميع أطيافها على مدار السنين، ويتناول كذلك الموقف الفلسطيني، بتعدديّته، من هذا الموضوع، حيث كان إجماع فلسطيني على المطالبة بحق العودة وتحقيقه حتّى جاءت أوسلو لتطرح رؤيا لحلّ الصراع على حساب حق العودة متجاوزة للثوابت الوطنيّة.
من المؤسف محاولة الكاتب استيعاب واستبطان الأفكار الغربيّة وتذويتها، فغالبيّة مراجعه ومصادره اعتمدت أدوات النقد والقياس والمقارنة الغربيّة ولجأ إلى مصادر غربيّة “مُعتمَدة” لبحثه مستهلكًا للأخبار والمصادر والأفكار الغربيّة، رغم أنّ من أهمّ الأعمال التي صدرت في هذا المجال هو كتاب “كي لا ننسى” للدكتور وليد الخالدي، و”طريق العودة، دليل المدن والقرى المهجّرة والحاليّة والأماكن المقدّسة في فلسطين ” للدكتور سلمان أبو ستة الذي يُعتبر مرجعيّة للتحدّث بأسلوب علميّ رقميّ عند طرح قضيّة اللاجئين والعودة، بعيدًا عن الشعاراتيّة والعبارات الناريّة الرنّانة. شحّ المصادر المعتمدة باللغة العربيّة يثير تساؤلات عديدة: هل هي معدومة أم غابت عن الباحث؟ ولماذا أستُثنيت؟
إستفزّني الكاتب حين تحدّث عن حق العودة والهوية الوطنية الفلسطينيّة ورموزها كالكوفيّة، المطرّزات، الأغاني التقليديّة والدبكة، مفتاح المنزل المهجور، صور ما قبل اللجوء، وثيقة تسجيل الأراضي، جواز السفر الفلسطيني ، خريطة لولاية فلسطين وصورة قبة الصخرة فلجأ إلى ال CNN وغيرها من “المراجع” الأجنبيّة الغربيّة. وهل تنقصنا مراجع فلسطينيّة عزيزي رائد؟!؟
استعمل الهوامش في الكتاب بغزارة، 851 هامشًا، مع اقتباسات أحيانًا، ألحقها بالنص في أسفل الصفحة تهميشًا وتذييلًا وإلحاقًا لإضاءة النصّ وتفسيره من جميع جوانبه -وخاصةً الدلاليّة والتاريخيّة والقانونيّة- وتهدف إلى تسهيل النص على القارئ وتقريبه إلى الزمان والمكان والسياق ليزيد قيمتها.
أرفق الكتاب ب-12 ملحقًا وظّفها لتبئير الصورة وللمصداقيّة البحثيّة.
بخصوص مصادر البحث، يذكر المؤلف في نهاية الكتاب أنّه اختار أن يعتمد بشكل مهني ومدروس على مئات الكتب، المقالات، أوراق العمل، النصوص والتقارير وغيرها وعدّدها في 54 صفحة ببليوغرافيا في آخر الكتاب.
أما بالنسبة للفهرست في نهاية الكتاب فهي لفتة مباركة وضروريّة تسهّل على القارئ والباحث، أثرت الكتاب وزادته مهنيّة ورونقًا.
إنّه كتاب بحثيّ قيّم وشموليّ للوضعيّة القانونيّة ودحض الرواية الصهيونيّة، بمنظورة بحثيّة علميّة راقية وحبّذا لو تُرجم للغات العالم لإيصال صوت اللجوء ونداء العودة لكلّ شعوب العالم، فلتسمع كلّ الدنيا ولتسمع!
الكتاب وثيقة علميّة يتوجّب على كلّ فلسطينيّ يتحدّث باسم القضيّة الفلسطينيّة في المحافل الدوليّة أن يحفظها عن ظاهر قلب ويذوّتها لتصير مرجعيّته لإقناع العالم بشرعيّة المطالبة بتحقيق حقّ العودة للاجئين الفلسطينيّين وعدم التنازل عنه.
توخّيت من الكاتب إضافة “توصياته” وعِبَرِه بالنسبة للوضع المزري لما نقوم به من أجل إحقاق حقّ العودة وأن يصرخ صرخته علًّها تكون عبرةً لمن اعتبر، فهذا أقلّ ما يمكن فعله بناء على نتاج بحثه الشامل والعلميّ المتميّز، حتى لو كان صرخة في واد، ولكنّه باغتني بصمته الصارخ!
وقعت في الكتاب بعض الأخطاء “المطبعيّة” التي يُستحسن تحاشيها في الطبعات القادمة، وأهمّها “ليحي” بدلًا عن ليهي (ص. 17، 20) وغيرها.
آن الأوان لنُعدّ أبناءنا بالأدوات المعرفيّة والعلميّة لمساعدتهم على تحقيق حلم العودة، رغم مهزلة أوسلو ونتاجها، فالمفاوض الفلسطيني تنازل عن حق العودة التاريخي ليتبنّى هذا التيّار مثقّفوا أوسلو، مما جعل الروائي عاطف أبو سيف يعيد بطلَته كريستينا، ابنة يافا، إلى غزّة ولم يُعدها إلى يافا المشتهاة التي ما زالت تنتظر!! ويبدو فعلًا أننا صِرنا “نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل”… في وجه قوافل العائدين.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نجحت إسرائيل في تصفية حق العودة؟
أخذتني قراءة الكتاب إلى لوحة تشكيليّة خطّية على حائط مكتبي، هديّة صديقي الفنان التشكيليّ ظافر شوربجي، بعنوان “حق العودة…حك مكَدَّس”.
وأخيرًا، إنّ الأمل بالعودة لهُوَ المحرّك للمشاعر ويثير الشجون ويخفّف من مرارة الغربة للأخوة في الشتات …إنّه زيت المصباح الذي يُنير الطريق نحو الوطن… إنّه الأمنية الحزينة التي يردّدها أهلنا في المنافي والشتات: “تصبحون على عودة”… و”بالعودة”، فلتبقى طريق العودة بوصلتنا! وحقّ العودة مقدّس لا يموت بالتقادم.
حسن عبادي