قديسة: بقلم رانية مرجية
تاريخ النشر: 01/05/19 | 11:01كانتْ طفلةً لم تتجاوزِ الخامسةَ عشر ربيعًا، عندما أرغمَها والدُها على الزّواجِ مِن كهلٍ يكبُرُها بستّينَ عامًا، بعدَ أن خسِرَها ابنةً وإنسانةً بسبب رهانٍ على مائدةِ القمارِ والميسر، ليدفعَ بها قربانًا لعريسٍ مجهولِ الماهيّةِ والأفق .في ليلةِ دخلتِها الأولى الّتي طالما راودتْها أحلامُها برفيقِ العمرِ وحبيبِ الدّربِ، بإضاءةِ شموعِ غرفتِها بكلِّ ألوانِ الطّيفِ الجميلِ، انقلبتِ الأحلامُ لكوابيسَ، عندما انقضَّ عليها الذّئبُ المفترسُ، ليمارسَ شذوذَهُ بها، متّسِمًا بالسّاديّةِ وجنونِ القسوةِ، كانَ يتلذّذُ بتعذيبِها قبلَ أيّةِ خلوةٍ جنسيّةٍ، عندَ كلّ إفراغٍ لكبْتِهِ الجنونيِّ، كانَ يحرقُ فخْذَها بقضيبٍ محمّى إلى أنْ يُغمى عليها. كانتْ دائمةَ الشّرودِ والحزنِ والاضطرابِ، وكثيرًا ما راودَتْها فكرةُ الانتحارِ للتّخلّصِ مِن جحيمِها الّذي لا يُطاقُ
لم تُجدِها توسُّلاتها ودموعَها الّتي تذرفُها ليلَ نهار، ولم يشفعْ لها جمالُها الرّبّانيُّ، فزوجُها كانَ مريضًا وعقدتُهُ السّاديّة ظلمٌ مظلمٌ مورسَ عليها، حينَ حرمَها ذويها مِن الدّراسةِ لكونِها أنثى كيفَ تجيدُ فكَّ الحروفِ، وهيمن لُقّنَتْ تفسيرًا مشبوهًا وتأويلاً خاطئًا منذُ صِغَرِها أنّها ناقصةُ عقلٍ ودينٍ، وأنّ الرّجالَ قوّامونَ على النّساء، وأنّ الرّجلَ يفوقُ المرأةَ ذكاءً بملايينِ الدّرجات، وأنّ أصلَ شرورِ العالمِ سببُها حواء؟ علّموها أنّ نصفَ الدّينِ هو الزّواجُ، وأنّ دورَ المرأةِ يكمنُ في خدمةِ زوجِها، وطاعةِ أوامرِ هِدونَ أيِّ اعتراض. فهلْ يعقلُ أن تقولَ لأبيها لا، والمرأةُ الصّالحةُ تنصاعُ فقط، لأنّها ممنوعةٌ مِن الاعتراضِ وقولِ لا لأبيها أو أخيها أو زوجِها؟ ويلها المرأةُ لو تجرّأتْ وقالت لا، لَلعنتْها ملائكةُ السّماءِ وكانَ ذبْحُها حلالاً! كانتْ أمُّها امرأةً مغلوبةً على أمرِها، كانتْ مجرّدَ دميةٍ تُحرِّكُها أصابعُ وإشاراتُ ونظراتُ زوجِها، كانتْ سليبةً، أمَةً مستسلمةً، ومناقشةُ زوجِها مِن المُحرّماتِ بديهيا! عاشتْ تجترُّ حياةَ ذلٍّ وهوانٍ، ليسَ لها إلاّ أمّها الّتي كانتْ سلواها وأقربَ النّاسِ إليها، رغمَ انعدامِ لغةِ الحوارِ بينَهما.
قضتْ مع زوجِها الهرمِ ثماني سنواتٍ إلى أن توفّاهَ الله، ظنّتِ المسكينةُ أنّها ستتمكّنُ أخيرًا منَ العيشِ بكرامةٍ، وهي تضعُ وزرَ هذا المتسلّطِ عليها قهرًا، إلاّ أنّها وجدتْ نفسَها بالشّارعِ. لم يتركْ لها زوجُها سقفًا يؤويها. لقد وهبَ البيتَ وجميعَ أرصدتِهِ بالبنكِ لأولادِهِ من زيجاتِهِ اللّواتي سبقنَها. ارتأتْ أن تعودَ إلى بيتِ والدِها، لكن أباها تغيّر، باتَ دميةً تُحرّكُها أوامرُ زوجتِهِ الجديدةِ الّتي لا تكبرُها إلاّ بحولٍ واحدٍ، قامَ والدُها بطرْدِها منَ البيتِ امتثالاً لأوامرِ زوجةٍ تخشى أنْ يقاسمَها أحدٌ ملكيّتَها الخاصّةَ، كانتْ بحاجةٍ لصدرٍ يضمُّ وحدتَها وغربتَها في محيطِها القريبِ، ليدٍ تمتدُّ لها تفتحُ أبوابَ مستقبلٍ، لم تعرفْ عن مراسيهِ إلاّ تمزُّقَ ذاتٍ بينَ ماضٍ قاهرٍ وأفقٍ مجهولٍ! عبثًا، تذكّرتْ أمَّها الّتي أنجبتْها والّتي توفّيتْ منذُ ثلاث سنوات، ولم تعرفْ عنها شيئًا إلاّ بعدَ أشهر. نعم، ولأنّها لا تُجيدُ أيَّةَ مهنةٍ ولا تملكُ إلاّ جسدًا ممشوقًا صارخًا، وجمالاً عربيًّا ربّانيًّا، وجدتْ نفسَها في الشّارعِ، تسقطُ في أحضانِ الرّذيلةِ بعدَ الغوايةِ والتّحرّشِ وانعدامِ الصّدرِ الحنونِ المحتضنِ، فاحترفتْ بيْعَ جسدِها، ومرّتْ سنةٌ وهي تمارسُ مهنةً استطاعتْ مِن خلالِها ادّخارَ مبلغٍ لا بأسَ بهِ من المالِ، حيثُ ساعدَتْها إحدى زبوناتِها المجنونة والمتيّمة بها مِن السّحاقيّات، بشراءِ بيتٍ كبيرٍ يُطلُّ على شاطئِ البحرِ، ليجعلاهُ وكْرَ حبٍّ خاصٍّ بهنِّ
لم تمانعْ أبدًا، وأغلبُ زبائنِها كنَّ من السّحاقيّاتِ اللّواتي أغدقنَ عليها الحبَّ والحنانَ قبلَ الجنسِ والمالِ. عرفتْ في بيتِها الجديدِ لأوّلِ مرّةٍ طعمَ الرّاحةِ، فقد توقّفتْ أخيرًا عن بيعِ جسدِها، وبدأتْ تفكّرُ في ماضيها وحاضرِها، ولأوّلِ مرّةٍ تفكّرُ في طرحِ السّؤالِ الّذي غيّبتْهُ قسوةُ محيطِها الّذي لم يعترفْ لها بالحقِّ في وضعِهِ! الله؟ من هوَ؟ أينَ هو؟ قرّرتْ أن تبحثَ عنهُ، فاليومَ قرارُها بيدِها ولا وصايةَ لأحدٍ عليها! بادرتْ وقصدتْ أحدَ الأماكنِ المقدّسةِ لتصلّي، وبعد تردُّدِها لمرّاتٍ، لم تشعرْ بحرَجٍ أو تردُّدٍ بأن تسألَ أحدَ الشّيوخِ عن الخالقِ، وأسئلةً كثيرةً خاصّةً بها وبوضعِها، اعتادتِ التّردّدَ على هذا الشّيخِ الوقورِ الّذي رسّخَ في ذهنِها مبادئَ حبِّ اللهِ وتعاليمِهِ الدّينيّةِ والدّنيويّةِ، فقرّرتْ أخيرًا أن تُفاتحَهُ بقصّةِ حياتِها وما وصلتْ إليهِ، لاسيّما وأنّها تأكّدتْ مِن طيبةِ خُلقِهِ الكبيرِ، حينَ استشعرتْ اختلافَهُ عن كلِّ مَن عرفتْهم وصادفَتْهم، صارحتْهُ بماضيها وحاضرِها، لتضعَ بينَ يديهِ بعدَ اللهِ توبتَها، والسّيرَ على الصّراطِ المستقيم! شدَّ الشّيخُ الجليلُ على يدِها وباركَ مبادرتَها وشجّعَها، وساعدَها على إيجادِ عملٍ شريفٍ بعدَ أن تركتْ وراءَها كلَّ ماضيها المادّيِّ والمعنويِّ، وكانَ يتفقّدُها بينَ الفينةِ والأخرى، وكان انقلابٌ كلّيٌّ لدرجةِ البدايةِ من الصّفرِ، فبدأتْ تتعلّمُ في مدرسةٍ للكبارِ، تقرأُ الكثيرَ منَ علومِ الدّينِ وعلمِ النّفسِ والاجتماعِ والعلومِ الإنسانيّةِ، فعرفتْ أنَّ اللهَ محبّةٌ. لقد ظهرَ لها جليًّا وتيقّنتْ، أنّ تحجُّرَ أفكارِ والديْها وزوجِها والمجتمعِ الجاهلِ، هي أسبابُ حرمانِها مِن حقوقِها الّتي سُلبتْ منها، ومرّتْ خمسُ سنواتٍ وهي تدرسُ وتقرأُ وتقارنُ وتتعلّمُ وتصلي. وتشاءُ الأقدارُ إسماعَها صوتًا يدعوها لمساعدةِ فتياتٍ ضللنَ الطّريقَ، ووقعنَ في مآزقِ الحياةِ، حاولتْ بكلِّ ما أوتيَتْ مِن قوّةٍ أنْ تقفَ إلى جانبهنَّ، حتّى يتعدّيْنَ الأزمةَ، دعتهنَّ وهنَّ كنَّ صديقاتْ لها فيما مضى، بدأتْ بنشرِ دعوةِ محبّةِ اللهِ وأهمّيّةِ التّوبةِ والحياةِ بكرامة. نعم، بشّرتهنَّ بالخلاصِ، ونجحتْ في تغييرِ مجرى حياتِهنَّ ببثِّ الإيمانِ والتّقوى في قلوبهنَّ، بالكلمةِ الطّيّبةِ والتّشجيعِ، وتحوّلَ بيتُها مِن وكْرٍ لممارسةِ الشّذوذِ إلى بيتٍ وملجأ، تجتمعُ فيهِ النّساءُ للصّلاةِ وتعلّمِ الخياطةِ والكتابةِ والقراءةِ وحقوقِها الإنسانيّةِ .