ألأوتاد ..! من وحيّ ليلة القدر .!
تاريخ النشر: 27/05/19 | 12:44قصة بقلم : يوسف جمّال -عرعرة
سأذيعك سرا دفيناً من أسرار عائلتنا , راجيا منك ان تدفنه في دفينك .
فعائلتنا – يا محترم – مشهوره بدفن الأسرار .
وعلى سبيل المثال , فان حصان جدي كان أصيلاً قبل ان تجبره ظروف الحياه ,على تحويله الى ” كديش ” يحرث الأرض ويدرس الغلِّه .
وجدتي كانت تنقط نقاط من “لبن” أعواد التين , وتضيفه الى حليب بقرتها فيتحول الى لبن .
وأّن أدن حمارنا كانت , مخبأ آمناً لعلبة أبي ” المدكوكة ” بالدخان المفروم , اذا ما شعر بخطر العسكر , يوم أن “حرَّمت ” دولتنا الفتية الدخان على زارعيه ..!
فدفن أجدادي ودفنت أسرارهم معهم .!!
وليس سراً- يا محترم- أنك لعبت معي , ومع وأولاد حارتنا في الساحه الكبيره , الواقعه أمام بيتنا القديم , المبني من الحجر والطين , وأصابت رجليك , كما أصابت رجلي الأوتاد المغروسه , في منتصف هذه الساحه .
لقد اسالت هذه الاوتاد الدم مرارا من أجسامنا, وزرعت فينا الخوف في كل لحظه لعب لذيذه , وجعلتنا نحسب لها ألف حساب , حتى حفظنا مكانها عن ظهر قلب , وأصبحنا نتجنبها ونبتعد عنها .
ولعلي لا أكشف لك سراً من أسرارنا , إذا قلت لك أني كرهت هذه الأوتاد وخشيتها في نفس الوقت .
ولدت وولدت معي ..
سألت عن أسباب وجودها , وعدم خلع هذه العقبه الكأداء من ساحة دارنا , وأُفهمت ان وجودها سراً , أكبر من ان يكشف لولد مثلي!
حاولت مره وأنا في الخامسه من عمري , أن أعبث بأحدها محاولا قلعه, فأخذتني أمي جانبا, وقد ارتسم على وجهها سيل , من الخوف والحزن والتأنيب , واستعملت كل ألوان التخويف , لتفهمني بأن لا أمسُّ هذه الأوتاد بسوء !
رأيت نفسي في حلم ليلة شتاء أقتلع احدها , فاستيقظت وأنا أرتعش من الخوف , ويتصبّب العرق من جسمي , فاستيقظت أمي على صرخه مني , صدعت سكون الليل , فسألتني وهي تلملمني وتضعني في حجرها:
– ما لك يا حبيبي !؟
– فقلت لها باكياً :
– لقد حلمت أني أقلع الأوتاد !
– هذا عمل من عمل الشيطان يا بني ..! اقرأ ” سورة الفاتحه ” , واستغفر ربك ونم مطمئنا.
فنمت على صوت تمتماتها, وهي تقرأ فوق رأسي أشياء لم أفهمها !.
وباقتراب رمضان , يزداد الاهتمام بهذه الأوتاد , ويزيد الكبار – حملة السر – من تحذير الصغار أمثالي من الاقتراب ,أو العبث بها, وكثيرا ما سألت نفسي ما العلاقه بين رمضان والأوتاد !؟
أجبت نفسي عشرات الأجوبه, ولكني سرعان ما استنتجت عجزها ,عن شفاء هذا التساؤلات ..
أقنعت نفسي مره , ان الله سيجعلها خازوقاً, يجلس عليها من لا يصوم رمضان .!
أذكر أني , وأنا في العاشره من عمري , شعرت بجوع وعطش شديدين, ولم اقدر على مواصلة الصوم , فأكلت وشربت , من دون ان يراني أحد , وأخفيت فطوري عن الكبار , ولكن عندما وقعت عيناي على الأوتاد , أصبت بفزع شديد ,وهربت من الدار, ولم أعد إليها إلا عند الغروب , ولاحقتني أحلام مرعبه ألزمتني الفراش أياماً معدوده .
وعندما اقترب السادس والعشرون من شهر رمضان , رأيت أمي تنظف حول هذه الأوتاد , وهي تقرأ أشياء , لم افهمها ولم أجرأ على سؤالها ..
وسمعتهم يتحدثون عن ليلة القدر , بكثير من الترقب والقدسيه ..
وفي النهار الذي سبق ليلة القدر, صعدت أمي على سطح بيتنا , وكنسته ورفعت الحصيره وفرشتها عليه, وبسطت فوقها عدة فرشات , وعند المساء رفعت عليه ألوانا من الطعام والشراب , والكثير من الحلويات ..
عملت كل هذا , وأنا أراقب الموفق والتساؤلات التي لا تحصى , تلاطم تفكيري باحثه عن تفسيرا لهذه التحركات, وما سبب هذه السهره , التي يعد لها العده على سطح البيت .
ولكني كعادتي , لم تساعدني شجاعتي على السؤال , وبقيت صامتا.
وعند ما رمى الليل استاره السوداء على المكان, صعد أفراد العائله الى سطح البيت , وبدأ ابي يتلو القرآن بصوت عال , وجلس الباقون يستمعون اليه, وعيونهم تغالب الظلام الشديد الذي ساد المكان .
وبدأ الضغط علي من كل جانب , لكي استسلم للنوم ..
سألتني امي:” الا تشعر بالتعب ؟! لقد أمضيت اليوم بالشيطنه !!
“وانضمت أختي الكبيره الى هذا المجهود فنادتني, وقالت لي بشيئ من التحبب المشبوه: ” تعال واستلقي بجانبي !”,
أما أخي الكبير فقال – محاولا إغرائي – :” نم يا أحمد باكراً , لتستيقظ في الصباح نشيطاَ , لترافقني غداً الى المدينه!” .
أما أبي , فكان ينظر الي بين الفينه والأخرى وهو يتلو القرآن, محاولا حثّي على الاستجابه لإغراءاتهم .
أغمضت عيني محاولا النوم , ولكن سلطانه لم يستطع ان يأسرني .. إن غريزة حب الاستطلاع , حالت دون استسلامي للنوم , فعقدت العزم على ان أجعلهم يظنون أني نائم , وبقيت صاحياً لأرى ما سوف “تجيبه” هذه الليله.!
ما هي إلا ساعه او ساعتان ,حتى سمعتهم جميعا – أبي وأمي وأخي وأختي -,يرفعون عيونهم وأيديهم نحو السماء , ويبتهلون بصوت كله خشوع :
” أللهم اعطنا من لدنك رحمه!”.. ” اللهم ارزقنا من نعمك , فأنت الرزّاق الكريم !, أللهم اجعل ساحة دارنا , تمتلئ بالأبقار والعجول , مربوطه بهذه الأوتاد المغروسه فيها !”.
نمت ليلتي أتخيل ساحة دارنا تعج بالأبقار والعجول , وتخيلت نفسي أرعاها في الحقول في أحضان الطبيعه الجميله . ننعم بالحليب والحبن واللبن الوافر .. نمت وأنا مرتاح , لأني عرفت أحد أسرار عائلتنا الدفينه .
وعندما استيقظت في الصباح , ركضت مسرعا الى حافة السطح ,لأرى الأبقار والعجول تملأ ساحة دارنا, فوجدتها خاليه , إلا من الأوتاد التي تركت الكثير من الكدمات على رجلي .
نظرت في عيون أمي وأبي وإخوتي, فوجدت خيبة الأمل تملأها, فأصابني حزن شديد فنزلت عن السطح وغادرت الدار .
وفي المساء عدت الى البيت, وبعد الفطور خرج والدي وأخي من البيت, ليقضيان سهرتهما في خارج الدار..
وانتهزت فرصة نوم اختي البكر, لأتسلل الى حضن أمي , وسألتها عن سبب نومنا على السطح الليله الماضيه ..
وضعت يدها على رأسي , وأخذت تعبث بشعري وتحكي لي الحكايه ..تبوح لي بسر خطير من أسرار عائلتنا العريقة :
من زمان كانت جدتك . جدتك لأبيك , تسهر على سطح هذا البيت في ليلة القدر كعادتها .
في تلك الليله انفتحت السماء فجأه , فرفعت يديها الى السماء , تطلب من الله شيئا يخفف عنهم ضائقة الفقر الشديد ..
أرادت ان تطلب من الله , ان يملأ ساحة الدار بالأبقار والعجول , مربوطه بأوتاد , فذكرت الأوتاد ونسيت ان تذكر الأبقار والعجول .. وعند الصباح كانت الأوتاد تملأ ساحة الدار , ولكن بلا أبقار او عجول .!!
شعرت بالزهو ..فقد أصبحت كبيراً .. أأئتمن على أسرار العائلة .!
ولكن آثار ندبات الأوتاد ما زالت ظاهرة على جسمي ..!