قطوف رمضانية من عهد الفاطميين والايوبيين
تاريخ النشر: 01/06/19 | 18:28لقد ارتبطت أغلب الطقوس الرمضانية التي تبعث علي السرور والبهجة في النفوس بالعصر الفاطمي وأولها فانوس رمضان ولقد أرتبط ظهوره لاول مرة بيوم دخول المعز لدين الله الفاطمى مدينة القاهرة قادماً من المغرب في الخامس من رمضان عام 358 هجريَّة، حيث خرج المصريون في موكب كبير ضم جم غفيرمن الرجال والنساء والأطفال للترحيب بالمعز والذي كان وصوله ليلا ، وبالتالي كان من الطبيعي أن يحملوا المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة وذلك لإضاءة الطريق للوصول إلي موكبه ومن يومها صار الفانوس عادة مرتبطة بمجيء رمضان ولكن ما الذي جعل المصريون يخرجون لاستقبال المعز دون حشد أو ارغام ؟؟ لقد سبق دخول المعز لمصر رحلة تمهيدية واستكشافية من القائد جوهر الصقلي لمصر حيث نزل بموقع اسمه “المناخ”، منتهجا اسلوبا دبلوماسيا ناعما وسلميا ومراعيا التنوع الديني للمصريين فمنحهم الأمان في وثيقة كتبها بخطه بلغة بسيطة يفهمها كل مصري كما أعلن في خِطبة الجُمعة الأمان لأهل السُنَّة وللمسيحيين واليهود مؤكدا علي حرية العبادة للمصريين وهو المسار الذي سار عليه غالبية الحكام الفاطميين فالخليفة الفاطمي العزيز بالله تزوج من سيدة قبطية، وهى «ست الملك» وقد تمتعت بنفوذ كبير في عهده .ومن أروع الصور التي تعكس هذا التسامح بناء مسجدا بدير سانت كاترين والذي قيل أن بناءه كان في عهد الحاكم بأمر الله اتقاءا لشره ونيته في هدم الدير !!! والراجح بناءه في عهد الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله بحسب بعض الدراسات .
أما أصل كلمة فانوس فيعود إلى اللغة الإغريقية وتعني وسيلة للاضاءة، ويذكر الفيروز أبادي مؤلف كتاب القاموس المحيط أن أصل كلمة فانوس هو (النمام) لأنه يظهر صاحبه وسط الظلام وكان الأطفال يخرجون حاملين الفوانيس ليضيئوا الطريق مبتهجين ومنشدين الأغاني الجميلة في أيام الشهر الكريم و خلال العصر الفاطمي، كانت النساء يشترطن عند الزواج حق الخروج من بيوتهن للاحتفال بمناسبة حلول رمضان وكان يسبقهنَّ غلام يحمل فانوساً لتنبيه الرجال بوجود سيدة في الطريق لكي يبتعدوا فيستمتعن النساء بالخروج بعيدا عن الرجال.
كان الاحتفال بشهر رمضان في أول يوم منه بركوب الخليفة من القصر الشرقي الكبير ويصحبته وزيره ومحاطا بحرسه الخاص فيقطع موكبه الشوارع حتى يصل جامع عمرو بن العاص (الجامع العتيق)، فإذا وصل إلى بابه وجد في انتظاره خطيب المسجد وبيده المصحف المنسوب خطه إلى علي بن أبي طالب، فيتناوله ويقبله ثم يأمر بتوزيع بعض المنح والهدايا على خطيب المسجد ومؤذنيه فإذا انتهى من الصلاة استأنف سيره إلى دار الملك. وكان ركوب الخليفة الفاطمي في غُرة رمضان بمثابة الاحتفال برؤية الهلال عند أهل السنة فقد كان الفاطميون لا يعتمدون علي الهلال في بدء الصوم مفسرين قول النبي صلي الله عليه وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» بأنها رؤية استبصار لا رؤية إبصار ومن ثَمَّ اعتمدوا علي علم الفلك والحساب،وشيدوا عددا من المراصد الفلكية منها مرصد الجيوشي بجبل المقطم ومرصد المأمون بباب النصر وأسسوا تقويمًا قمريًّا يحسبون بمقتضاه سير القمر، ويقدِّرون منازله حتى يحددوا ميعاد هلال رمضان بدقة ، فجعلوا الشهور العربية شهرًا تامًّا، وشهرا ناقصًا دائمًا، وبذلك أصبح شعبان ناقصًا دائمًا ورمضان تامًّا دائمًا، ومن هذا التقويم عرفوا متى يبدأ رمضان ومتى ينتهي، دون الأعتماد علي الرؤية البصرية للهلال لهذا فقد هدموا “دكة القضاة” الخشبية و المقامة أعلى سفح جبل المقطم و التي كان كان القضاة يتحرون من خلالها رؤية الهلال في الازمنة السابقة . أما عند العيد فيذكر أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة» عن مظاهر الاحتفال بعيد الفطر عند الفاطميين: (كان يقام في ليلة عيد الفطر بالإيوان الكبير الذى يواجه مجلس الخليفة سماط ضخم يبلغ طوله نحو ثلاثمئة ذراع في عرض سبع أذرع وتنثر عليه صنوف الفطائر والحلوى الشهية، فإذا انتهى الخليفة من صلاة الفجر عاد إلى مجلسه وفتحت أبواب القصر والإيوان على مصاريعها وهرع الناس من جميع الطبقات إلى السماط الخليفي وتناولوا الطعام ).
نأتي الي مأدبة الرحمن والتي ارتبطت بالعهد الفاطمي وقد حملت فى البداية اسم “دار الفطرة”فإن أول من أقامها هو الخليفة العزيز بالله الفاطمى، حيث مد أول مائدة بجامع عمرو بن العاص، وأقام واحدة بجامع الأزهر بداية من شهري رجب وشعبان. فكان يخرج من مطبخ القصر على مدار شهر رمضان ما يزيد عن ألف قدر يوميا، محتوية علي ألوان شتي من الأطعمة لتوزيعها على الفقراء عند الإفطار، وبعدها يجلس الخليفة فى شرفة كبيرة فى قصره حتي يحين وقت الإفطار، ويقضى الوقت فى سماع القرآن الكريم ومشاهدة حلقات الذكر. ويستمر ذلك الطقس البديع حتى انتصاف الليل، وبعدها يأمر الخليفة بتوزيع الهدايا على الفقراء حتى يحين موعد السحور، لتوضع مائدة عامرة فى نفس مكان الإفطار.
ومن أشهر الأسواق التي تشهد رواجا شديدا في رمضان الفاطمي سوق الشماعيين حيث كان رمضان موسمًا لبيع الشموع الكبيرة ، وسوق الحلاويين الذي كانت تباع فيه الحلوى متخذة أشكال أنيقة وسوق السمكرية الذي كان يعج بالياميش وقمر الدين.
ومن العصر الفاطمي ننتقل الي العصر الايوبي ومع محدودية المصادر التي يمكن الارتكان لها الا أن الواضح أن المظاهر التي شاعت في العصر الفاطمي قد تقلصت الي حد كبيرفي العصر الايوبي والذي جاء مقوضا لها بالكلية ولكن المثير في عصورنا العربية أن الأحلال بين الدويلات المتعاقبة عادة ما يكون شكليا دون تدشين أسس الدولة الحقيقية التي تنظر بعين الاعتبار لعامة الناس وتنتهج السياسات التي تجنب الرعية مغبة الأخطار المحتملة والمتكررة والتي حمل لنا التاريخ كارثية تركها دون ضمانات تحول دون تكرارها ومنها الشدة المستنصرية في العهد الفاطمي تلك المجاعة التي جعلت المصريين يأكل بعضهم بعضا في سابقة مرعبة في التاريخ المصري والانساني ولكن من يتعظ من التاريخ؟!! ففي عهد السلطان العادل أبي بكر بن أيوب شقيق صلاح الدين وخليفته حدثت مجاعة مروعة تفوق الشدة المستنصرية ضراوة وكأننا لا نستوعب شيئا من دروس التاريخ ليعود المصريون لاكل بعضهم بعضا في صور تذهل العقل وتدمي القلب واستمرت المجاعة منذ 596هجرية وحتي عام 599هجرية وبلغت ذروتها في 597هجرية والملك العادل أسير مطامعه في الاستئسار بملك أخيه الراحل وبسط نفوذه في وقت شعبه جائع يعاني ما لم يعانيه الأنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ !!! والحملات الصليبية تطرق دياره يقول أبو المحاسن صاحب كتاب ” النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”عن هذه الفترة ( وفيها كان هبوط النيل ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرة واحدة في دولةالفاطميين ولم يبق منه إلا شيء يسير واشتد الغلاء والوباء بمصر فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام وتفرقوا وتمزقوا كل ممزق.كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وشيه وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا.وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله وفعلوا بالأطباء كذلك فكانوا يدعونهم ليبصروا المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم ) ويصف الرحالة المؤرخ والطبيب عبداللطيف البغدادي في كتابه “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر” وقد عاصرهذا الوضع المؤلم فيقول : (ووجد في رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم، فأكل وبقي قفصا كما يفعل الطباخون بالغنم.ويضيف ولقد رأيت امرأة يسحبها الرعاع في السوق وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم ليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره؛ فعاد تعجبي منهم أشد وما ذلك إلا لكثرة تكراره على احساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه. وكثيرا ما كان يدعي الآكل أن المأكول ولده أو زوجه أو نحو ذلك، ورأيت مع عجوز صغير تأكله فاعتذرت بأن قالت إنما هو ولد ابنتي وليس بأجنبي منى ولأن اكله أنا خير من أن يأكله غيري.ومما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم).
كما أصبح الاحرار مسترقبن نظير بضع لقيمات أو دراهم قليلة يقول البغدادي (وأما بيع الأحرار فشاع وذاع عند من لا يراقب الله حتى تباع الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وعرض على جاريتان مراهقتان بدينار واحد، وسألتني امرأة أن اشتري ابنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فعرفتها أن ذلك حرام، فقالت خذها هدية). ويصف العماد الكاتب الأصبهاني نفس المشهد بقوله: ” ولقد رأيت الأرامل على الرمال والجمال باركة تحت الأحمال ومراكب الفرنجة واقفة بساحل البحر على اللقم تسترق الجياع باللقم ”.
وبوجه عام كان الايوبيون في رمضان أكثر صرامة فيما يتعلق بالالتزام بالشعائر في رمضان فيقول المقريزي أن الملك الكامل كان يغلق الخمارات، ويعتقل البغايا في رمضان، ويغلق المطاعم والمقاهي في نهار رمضان، كما كان ينزل يمر بنفسه في أول يوم من رمضان فإذا صادف مفطرا أمر بضربه, كما كان الملك يوجه المحتسب للمرور للتأكد من وفرة وجودة السلع ونظافة السقايين، حيث كان السقا هو الذي يقوم بتوفير حاجات البيوت في الحواري بالمياه، وكان يأتي بها من القلعة.
الي هنا انتهت رحلتنا مع رمضان في العصر الفاطمي والايوبي
د.محمد فتحي عبد العال
المراجع
1- في أدب مصر الفاطمية لمحمد كامل حسين مؤسسة هنداوي
2- كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي
3- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي
4- الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر لعبد اللطيف البغدادي
5- فانوس رمضان ويكبيديا الموسوعة الحرة
6- مراة الزمان ليوسف قزاوغلي