الكاهن الأكبر عِمران (عمرم) بن إسحق، صاحب وديعة مثالية
تاريخ النشر: 11/06/19 | 14:58الكاهن الأكبر عِمران (عمرم) بن إسحق، صاحب وديعة مثالية
The High Priest ˓Amram ben Isaac
the Owner of an Ideal Deposit
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن عبد المعين بن صدقة بن الكاهن الأكبر صدقة بن إسحق الحفتاوي (إلعزر بن تسدكه هحتڤئي، ١٩٢٧-٢٠١٠، شاعر، معلّم دين، متقن لتلاوة التوراة، كاهن أكبر ٢٠٠٤-٢٠١٠) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٧٨-٨٠. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستين بيتًا تقريبًا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”مدخل بقلم المحرّر بنياميم تسدكه
في عام ١٩٩١ وبعد رجوع وفد معهد أ. ب. في حولون من الزيارة التاريخية لروسيا لفحص مجموعة ضخمة من المخطوطات السامرية المحفوظة في مدينة ليننغراد (سانت بطرسبورغ)، والسؤال يتردّد بكل عنفوان في رؤوسنا: كيف استطاع إنسان واحد في منتصف القرن التاسع عشر، أن ينقل من أيدي أبناء الطائفة السامرية بنابلس، مجموعة المخطوطات القديمة هذه التي يفوق ثمنها اليوم كل خيال.
بحسب التقدير العام آنذاك، قبل مائة وثلاثين سنة ، كانت أوضاع الطائفة الاقتصاديةُ متدنيةً لدرجة عدم توفّر الطعام، وعليه كانوا مستعدّين أن يعطوا كلّ ما في حوزتهم من أجل سدّ رمقهم، أضف إلى ذلك فالمجموعة الضخمة كانت مكوّنة من كتب مبتورة وأوراق بالآلاف تراكمت واغبرّت في غضون قرون من الزمان على رفوف الكنيس العتيق في نابلس.
تغيّر النهج العامّ مع تحسّن الوضع الاقتصادي. في الوقت ذاته، بدأ الكثيرون من أبناء الطائفة يُقدّرون ما بين أيديهم إجلالًا أيضًا للذين أورثوهم المخطوطات. بالإضافة إلى ذلك، كان تقريبًا لكلّ مخطوط قديم لدى الطائفة أكثر من مالك واحد وحتّى لو نوى أحدهم بيع المخطوط كان مضطرًا أن يعدل عن ذلك من جرّاء معارضة الشركاء الآخرين.
تلك المخطوطات السامرية التي باعها جامعون من خارج الطائفة مقابل مئات كثيرة من آلاف الدولارات، قد وطّدت الصلة بين أبناء الطائفة والمخطوطات التي بحوزتهم. والقيمة المالية المتعاظمة أضافت تقديرًا فوق تقديرهم للمخطوطات القديمة. اليوم لا تجد سامريًا مستعدًا أن يودّع المخطوطات التي بحوزته. كما أنّ قيمة المخطوطات الحديثة قدِ ٱرتفعت مقارنة بعشرات الكتب المطبوعة، وهذا الأمر يجسّد الاختلاف إيجابًا بصدد التعامل مع المخطوطات التي انتقلت بالميراث من جيل لآخر.
الرهينة
كانت لعمّي الكاهن الأكبر عمران ولوالدي صدقة، رحمهما الله، مكتبة ضخمة، فيها المئات من المخطوطات القديمة ومن ضمنها التوراوات، كتب الصلوات، التفاسير والمدراشيم، كتب تاريخ وكتب شريعة. جزء من هذه الكتب أودع عندهما وعند آبائهما كرهينة، وبقي عندهما طالما لم يُردّ مبلغ المال الذي جُبي مقابلها.
وكان أحد الأشخاص الذي أودع عندهما سِفرًا ابن أختهما هدية، عابد بن حسن صدقة الصباحي (عوڤاديا بن يفت تسدكه الصباحي). كان بحوزته كتاب الشريعة ”الكافي“ من تأليف الحكيم يوسف بن سلامة العسكري وهو مخطوط قديم ورثه من آبائه.
في تلك الأيّام، في ثلاثينات القرن العشرين، كان مضطرًا إلى إيداع الكتاب في أيديهما مقابل قرض أعال به أمّه ونفسه. وقد حفظ عابد في قلبه أمر الوديعة، وانتظر طَوال أيّامه الفرصة المناسبة من أجل استعادة المخطوط.
في العام ١٩٤٨، كلّ سار في طريقه، افترقنا؛ الحدود فصلت بيننا. عابد الذي تزوّج، أنجب أولادًا، ربّاهم وأعالهم، ورويدًا رويدًا أقام بيتا، في البداية في يافا وبعد ذلك في حولون. شيئًا فشيئًا تحسّن وضعه الاقتصادي جنبًا إلى جنب مع التحسن الاقتصادي للطائفة برمّتها. وفي منتصف سبعينات القرن الفائت بعد وفاة والدي صدقة، رحمة الله عليه، أزفت الفرصة الملائمة. وكان عمّي الكاهن الأكبر عمران قد طلب منّي أن أعمل سكرتيرًا له لمساعدته في إدارة شؤونه. وظنّ الكثيرون بسبب ما، أنّ وظيفني هذه تمنحني البتّ في كلّ شأن متعلّق بالكاهن الأكبر، وبهذا أخطأوا.
ذات يوم، وصل عابد صدقة، رحمه الله، إلى نابلس وحلّ ضيفًا عليّ واستقبلته خير استقبال. وبعد التحايا المألوفة واحتساء القهوة، لم يتوان بل التفت إليّ قائلًا: ”يا ابن عمّي، عبد المعين، في مكتبتكما كتاب الكافي الذي كنت قد أودعته عندكما أيّام المجاعة. بودّي استرجاعه وإنّي مستعدّ لدفع مبلغ الرهينة مضاعفًا مقارنة بقيمته الحالية بعد الفائدة وسعر اليوم “. قال عابد ومدّ يده لسحب جزدانه من جيبه.
”تمهّل“ – أمسكت بيده، ”بحضور عمّي، الكاهن الأكبر عمران، لا ناقة لي فيه ولا جمل ولا لابن عمّي ولا لأخينا ولأبنائنا أيضا“. كلّ شيء، كلّ ما في البيت يخصّه ومن ضمن ذلك المكتبة الكبيرة ذات المخطوطات. إذا أردت مخطوطًا تدّعي أنّه لك من المكتبة ومن ضمنها مكتبة المخطوطات الكبيرة فعليك التوجّه بهذا الخصوص مباشرة لعمّي“ – قلت لعابد الذي حاول أن يشكّك بكلامي، ولكنّه أقرّ بجدية إجابتي بعد أن كرّرتها عليه.
الكاهن الأكبر السخيّ عمران
لم ينتظر طويلا. في الأسبوع ذاته دُعي كلّ السامريين ومن ضمنهم عابد لكونه أحد رؤساء عائلة صدقة، لحضور حفلة زواج في نابلس. جاء عابد إلى نابلس قبل الوقت المحدّد متوجهًا لمنزل عمّي ودعاني لمرافقته. طلب من الكاهن الأكبر عمران استرجاع المخطوط الذي أودعه عنده.
عمّي الكاهن الأكبر عمران، رحمة الله على روحه النبيلة، لم ينتظر حتّى هنيهة. دعاني للتوّ وأمرني بإخراج كتاب الكافي من المكتبة وتسليمه ليد ابن أخته. أمسك عابد المخطوط بيدين مرتعشتين وبتأثر بالغ، والدموع تغمر وجنتيه. ثمّ استعاد قوّته ومدّ يده لالتقاط جزدانه طالبًا بصوت مخنوق تسديد رسوم الرهينة بحسب ما يقرّره الكاهن الأكبر عمران.
”لا، لا“، هزّ الكاهن الأكبر عمران برأسه يمينًا ويسارًا، ”مهما كانت رسوم الرهينة، لا تُعدها لي، دعها تكون ذكرى لروح أختي هدية الطيّبة، رحمة الله عليها“. لم يتمالك عابد نفسه عند سماع ذلك، انقضّ على رجليه وأمطره قبلات على ظهر يده اليمنى. ضحك الكاهن الأكبر وبارك مِرارًا وتَكْرارا ابن أخته. ”لا حسابات بيننا بالمرّة“، قال عمّي.
استردّ عابد حيله من جديد، طلب منّا استدعاء سيّارة أجرة فلبّيت طلبه. نزل مسرعًا، استقل السيّارة آمرًا السائق أن ينقله فورًا وبسرعة إلى بيته في حولون. والسعادة العارمة بالمخطوط الذي يحتضنه، نسي عابد كليًّا حفلة الزواج التي كانت في ذلك اليوم، رحمة الله عليه“.