الإنسانيّةُ موقف
تاريخ النشر: 20/06/19 | 10:18بقلم : صالح أحمد (كناعنة)
كل يوم يمر، وكل حدث يقع، أزداد يقينا بأن أمتنا تعاني أزمة موقف… فحين أتابع تفاعل الناس مع الحدث اليومي.. أشعر أن الانفعال هو سيد القرار… وهو المتحكم بتفاعل السواد الأعظم من الناس مع الحدث.. وليس العقل والمنطق… والانفعال سلوك اندفاعي لا يترك لصاحبة مجالا للتفكُّر والتدبُّر.. لأن الانفعال وليد الترسّبات العاطفية والتعصبية البعيدة كل البعد عن العقلانية والمنطق.. ما يجعل الفرد منا يتصرف بعكس قناعاته أو ما يتردد على لسانه في حياته اليومية، وحين لا يكون واقعًا تحت تأثير الانفعال الحدثي الطارئ الذي ينسيه مواقفه وآراءه.. وما عاش ينشر من أقوال وحكم… فتراه يختلف مع الناس على الرأي ويحول الاختلاف إلى خلاف ومشادة وتهجم وعصبية… وهو الذي لطالما ردد: “اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية”… كما تجده يشمت بمن يخالفه الرأي.. حال الموت أو الخسارة، او المصيبة!… ويتخذ من الحدث فرصة لتفريغ انفعالاته التي لا تقود إلا لخصام ومشادات كلامية.. وقد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه من سلوكيات… وهو الذي لطالما ردد في حالات الهدوء والصفاء أقوالا مثل: “اللهم لا شماتة” ومثل: “ليس في الموت شماتة” ومثل: “لا يشمت بالغير إلا حسود حقود” وغيرها من أقوال عقلانية بمجملها.. ولكنها تغيب عن وعيه حال الانفعال.. ليحل مكانها الاندفاع والعصبية والانفعالية البعيدة كل البعد عن المنطق…
هذا التناقض الانفصامي يدل بما لا يترك مكانا للشك؛ على أن الفرد الذي يردد هذه الكلمات وغيرها.. بقناعة مطلقة.. وهو يؤمن بها وبصحتها وبمنطقها إيمانا تامًا؛ منبعه الوعي والعقل والادراك… ولكنه يخالفها، ويتصرف بعكسها تمامًا حال الانفعال لأنه تربى تربية انفعالية، قوامها العصبية (التعصب) لما تربى أو تدرب، أو تغذى عليه من عصبية للفكر أو المبدأ أو الرأي… ما يجعله يُقصي كل من يخالفه الرأي إنفعاليا.. وفي لاوعيه، ولاشعوره.. الذي يتحكم به وبسلوكه حال الانفعال أو الغضب، ليتحول سلوكه إلى سلوك اندفاعي يحمله على الإسراع لسكب ما اختزن في داخله من ترسبات سلبية على من يخالفه الرأي والموقف.. وقد تغيَّب الاحتكام للعقل والمنطق الذي كان يجعله يردد شعارات جميلة مثل: (الوحدة، التضامن، التوافق، التعايش، التقبل… لا شماته، لا حسد، لا بغضاء… احترام، تعاون، تفاهم، لا خلاف…)
وحتى أقرّب وأوضّح الصورة، سآخذ مثالا حيًا… ما يدور على صفحات الفيس و الصحف والمواقع الإخبارية والتواصلية بشتى صورها وأشكالها من تعابير ومشادات كلامية أثارها حادث موت الريس المصري السابق محمد مرسي رحمه الله.. ورحم أموات الناس أجمعين.. فلا تجوز على الميت إلا الرحمة (كما نردد جميعا في حالات الصفاء، وننساه في حالات الانفعال والتعصب، تماما كغيره من الأقوال والحكم).
مات الرجل.. الإنسان محمد مرسي، فأيقظ موته (الحدث) مخزون الانفعال اللاواعي، واللاشعوري، المتراكم في النفوس، لينطلق في حملة انفعالية قوامها تبادل ألفاظ واتهامات وتهجمات لا تفيد أحدًا.. بل تضر بنا جميعا بلا استثناء.. وتشكل في نظري.. دليلا واضحا على أكبر أسباب ومسببات العنف في مجتمعاتنا (برأيي المتواضع).
والسؤال هنا:
– لماذا يجب أن يثير موت إنسانٍ -كائنا من يكون- كل هذا التسونامي من الانفعالات والعصبيات؟
– ما الفائدة من هذه الحملة الانفعالية العشواء… وبماذ تخدم حياتنا ومجتمعاتنا وواقعنا وماضينا ومستقبلنا…؟
– كيف أصبح موت إنسان-وكذلك: (خسارته، أو مصيبته، أو حزنه…) يثير في الناس كل هذه الانفعالات العدائية التي تقودهم إلى حملة مجنونة من التهجم وكيل التهم، وتصل حد التشاتم والتباغض؟
– هل فقدت مشاعر الرحمة والألفة والتعاضد والتكاتف والتفاهم والمحبة من بيننا؟
صدقوني… كل هذا يحدث لأننا نغيِّب منطق العقل.. لنتبع هوى النفس والانفعال والعصبية المدمرة… ولو كنا حكّمنا العقل لوجدنا أن كل ما نمارسه من سلوك انفعالي في مثل هذه الحالالت والمواقف لا يعود علينا سوى بالدمار المتمثل بالنزاعات والخلافات والعصبيات أفرادًا ومجتمعات وشعوب…
ولو أردنا أن نحكّم العقل لوجدنا أن قضية مرسي -رحمه الله ورحم أموات الناس أجمعين- وراءها من الأساس من يتسللون إلى عقولنا.. ويسيّرون أمورنا لأنهم يعرفون نقطة ضعفنا.. ألا وهي انفعاليتنا وغائيَّتُنا وعصبيتنا المدمرة.
انتخب الشعب المصري محمد مرسي رئيسًا بانتخابات ديموقراطية حرة عادلة… ولو ثبت الشعب المصري على موقفه.. ودافع عن حريته وديموقراطيته وحقه في انتخاب من يلي أموره.. لكان رسّخ قواعد الحرية والعدالة في مصر لتكون نموذجا للدول العربية الأخرى.. وغيرها.. وكان من الممكن والطبيعي والمنطقي .. أن يفشل مرسي في الاتخابات القابلة.. وتنتهي فترة حكمه كما يحدث في أية دولة ديموقراطية في العالم…
الانقلاب الذي قاده السيسي لم يكن انقلابا على شخص مرسي -الذي يشمت البعض (انفعاليا) بموته وكأنه هو القضية- بل كان انقلابا على حرية الشعب، انقلابا على رأي الشعب، انقلابا على إرادة الشعب… وكما قلت: كان يمكن ان يبقى مرسي في الحكم تثبيتا للتجربة الديموقراطية… وكان يمكن للشعب الذي اختاره أن يحاسبه في صناديق الانتخابات إيجابا أو سلبا، وقد يمنح ثقته لغيره.. ويرجع مرسي مواطنا… وتبقى الإرادة الحرة، ويبقى القرار العادل بيد الشعب…
ولكن الانقلاب (ككل انقلاب) جاء ليقضي على إرادة الشعب.. ويرفض رأي الشعب.. ويلغي حرية الشعب.. لقد سجن الانقلاب حرية الشعب وإرادته.. وقتلها كما سجن وقتل مرسي … فبمن تشمتون أيها الناس؟! بمرسي، بسجنه وموته؟! أم بحرية وإرادة وقرار الشعب المصري… وسجنها وقتلها؟!!
نعم… لقد جاء الانقلاب بتخطيط ممن يدبرون بعقل .. وهم يعرفون اننا نتصرف بانفعالية واندفاع.. ونجحوا للأسف، وها نحن (وكالعادة) ننقاد إلى معارك انفعالية مدمرة، وننسى كل قيمنا.. بل نرمي بها عرض حائط الانفعال وما نخفي خلفه من غائية وعصبية وفئوية بغيضة تفرق ولا تجمع… تضعف ولا تقوي..
لقد كانت رسالة الأعداء من الغرب الاستعماري المتربصين بأمتنا عامة… وبمصر خاصة، لا تنحصر بشخص مرسي، بل تتعداه إلى وعي الأمة وحريتها وإرادتها وقرارها… كأنما يوجهون للشعوب رسالة مفادها: “أعطيناكم الديموقراطية لتختاروا من نريد، لا من تريدون، وليس الأمر محصورًا بمرسي… فلو اخترتم أي شخص لا نرضى به نحن الدول الاستعمارية المتصهينة لقلبناه كما فعلنا بمرسي.. نحن نحرص بعقلانيتنا على ما ينفعنا ويخدمنا.. أما أنتم: فنترككم لانفعاليتكم واندفاعيتكم وعصبيتكم…”
وإلا: من يخبرني أين الذي قادوا حركة التمرد على مرسي؟ التي هي في حقيقتها وجوهرها انقلابا وتمرّدا على قرار الشعب، واختياره… لقد بلعوا ألسنتهم، وخنسوا إلى جحور وأوكار حددها لهم من حرّضوهم واستغلوهم ليصادروا قرار وحرية شعبهم وأهلهم…
مات مرسي –وكل حيّ سيموت”…ولكنه بقي حيّا في قلوب أحبابه ومن وثقوا به وانتخبوه بحرية وصدق وشفافية.. كما وأحسبه حيًّا عند ربه سبحانه، ولا أزكيه على الله، فالله أعلم به…
أما أهل المواقف الانفعالية والاندفاعية والتعصبية والغائيّة… فأموات وإن كانوا يتنفسون بيننا، لأنهم بتصرفاتهم هذه: باندفاعيتهم، انفعاليتهم، تعصبهم، أنانيتهم جمودهم الفكري… يقتلون حرية الناس، ويقتلون إرادة ورغبة الأفراد والجماعات… يقتولن كل أمكانية للرقي فكرا ومنهجًا…
ورحم الله من قال:
الكلمة موقف
الفعل موقف
الإنسانية كلمة وفعل
الإنسانية موقف.
هدانا الله للحق والمنطق والعقل النافع الموحّد أجمعين… وهو الذي أوصانا في محكم كتابه العظيم… {ولا تفرّقوا…)