مستويات اللغة في رواية “عين خفشة” للأديبة رجاء بكرية
تاريخ النشر: 22/06/19 | 22:22مستويات اللغة في رواية “عين خفشة”
ملخص
تعالج رواية “عين خفشة” الجراح والآلام التي خلّفتها “النكبة” في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، على مدار فترة زمنية طويلة، فالجرح ما انفك ينزف والأحداث تتوالى وتتراكم، والألم يغور أكثر وأكثر. وبما أن الرواية لا تقوم إلا باللغة ولا تُبنى عناصرها إلا بواسطتها، كأداة، فقد حاولت هذه المقالة أن تدرس مستويات اللغة فيها للإجابة عن التساؤلين التاليين: ما مدى نجاح الروائية في توظيف لغة قادرة على تشخيص هذا الألم؟ وهل راعت في السرد والوصف والحوار مستويات الشخصيات الروائية؟
لقد وجدنا أن الروائية مولعة باللغة الشعريّة، توظفها لاختراق عالم الشخصيات الداخلي، فكانت لها الغلبة في حيّز النص الروائيّ، إضافة إلى مستويات لغويّة أخرى مثل: اللغة المعياريّة، الغرائبيّة، والمحكيّة على اختلاف مستوياتها؛ المحكيّة المعياريّة، والمحكية الشعرية، والعامية المفصّحة. قمنا بمعاينة العنوان والفضاء الروائي لاعتبارهما مكونين لغويين وسيميائيّين هامين.
مقدمة
تقوم هذه المقالة بدراسة مستويات اللغة في رواية “عين خفشة” (2016) للروائية رجاء بكرية، فاللغة هي الأداة التي تُبنى عناصر الرواية بواسطتها، نتعرف من خلالها على الشخصيات ومستويات تفكيرها وما يشغلها من هموم الحياة، وعلى المحيط الذي تدور فيه الأحداث. لا تتوقف الدراسة عند اللغة الفصيحة واللغة العامية، بل تتعداها إلى اللغة الشعريّة وما تمخّض عنها من جنوح نحو الغرائبية، وذلك كون الرواية تعالج هموم الإنسان الفلسطينيّ الباقي فوق أرضه، وما تعرض له من ألم نفسي نتيجة الغبن اللاحق به بعد أن تفرق الأهل أيدي سبأ. كما توقفت عند اللغة المعيارية وخصوصيتها في الرواية، فضلا عن اللغة المحكية ودورها في مبنى الرواية الفني والفكري. وقد وجدنا أن اللغة الشعرية هي الغالبة، لأن معظم الأحداث تدور في ذاكرة الراوية التي تسيطر على معظم النص الروائي، بعد أن رأت وشهدت وسمعت قصصا وحكايات ومشاهد وصورا مؤلمة، وباتت تحمل تجربة حياتية غنيّة، مما استدعى توظيفَ تقنيات رواية تيار الوعي مثل المونولوج والمناجاة والفلاش باك والحلم والرؤى، كل ذلك من خلال السارد المشارك الذي يروي الأحداث كلها بضمير المتكلم. (شخصية لبيبة/الشخصية المركزية)
ننطلق في دراستنا من أنّ اللغة في العمل الأدبي تؤدي وظيفة جمالية، لا وظيفة إخبارية تقريرية، كما هي في حقول أخرى، على حد قول أوستن وارن ورينيه ويليك في كتابهما المعروف “نظرية الرواية” (1966) (Wellek, Warren, pp. 22-23 للمزيد من التوسع انظر: ص 20-37)، فقد أكدا، قبل غيرهما، على أن اللغة في الأدب تحمل نبرة المتحدث بها، وتهدف إلى التأثير في القارئ وتغيير موقفه. ولقد كان الأثر الأكبر في دراسة مستويات اللغة داخل الرواية للمنظر الروسي ميخائيل باختين الذي يعد أقرب سوسيولوجيي الأدب إلى بناء سوسيولوجيا النص الروائي. (لحمداني، ص73) واللغة أهم ما تنهض عليها الرواية، فالشخصية تستعمل اللغة، أو توصف بها، أو تصف هي بها، ولا وجود للعناصر الروائيّة بدونها. (مرتاض، ص125)
قمنا بدراسة الفضاء والعنوان لاعتبار كل منهما مكونا لغويا، قبل أن يعتبرا مكونين دلاليين هامين من مركبات الرواية الرئيسية. لم تسع هذه الدراسة إلى الدخول في تفاصيل فضاء الرواية، بل إن غايتها هي الإشارة بإيجاز إلى الأماكن التي تدور فيها الأحداث لربطها بتاريخها وبالشخصيات التي تتحرك ضمن الحيز الزمكاني الذي سيكون له تأثير على مكونات اللغة ومستوياتها، وبالعكس.
لقد ولّى عصر رواية التسلية والترفيه، كما عرفناها في بداياتها، منذ زمن بعيد، وهو ما لا تسعى إليه رواية “عين خفشة”، فهي تذهب باتجاه طرح حداثيّ يدخل في عمق النفس البشرية وكشف عالم الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية، وعلاقاتها بما دار، وما يدور حولها من أحداث كبرى، أما متعة القراءة فهي في “ارتياد التجربة الإنسانية بألوانها المتعددة وأبعادها المتنوعة من خلال الخيال الابتكاري والتشكيلات اللغوية”. (الماضي، ص18)
لا تعتمد الرواية على حدث يبدأ من نقطة معينة لينتهي في نقطة أخرى، بل هي عبارة عن تسجيل مشاهد متراكمة تشبه في اجتماعها عملية التصوير في فيلم وثائقي، لذلك فإن عمدة الرواية الرئيسية هي اللغة التي يجب أن توظف بدقة من أجل تصوير “المشاهد” ونقلها للقارئ، وإبراز الصراع بين الأنا والآخر، وبين الأنا والأنا نفسها حين يكون الصراع داخليا، وهذا ما تعكسه “عين خفشة”؛ صراع خارجي وداخلي في آن معا.
فهل أخذت الروائية في اعتبارها مستوى القارئ العادي؟ وهل راعت مستويات شخصياتها الروائية؟ ولماذا لجأت إلى المزج بين أكثر من مستوى لغوي؟ تحاول هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة وعن أسئلة أخرى غيرها.
فضاء الرواية:
تدور أحداث الرواية في قرية عربية تقع بجوار قرية الغجر على الحدود الجنوبية للبنان، أسمتها الروائيّة، تخييلا، “عين خفشة”، وذلك بعد أن “كان قد مرّ أكثر من أربع سنوات على خروج كتائب الجيش الإسرائيلي من حرب لبنان الأولى عام 1982”. (الرواية، ص25) تروى معظم أحداث الرواية على لسان “لبيبة” الشخصية المركزية، التي تحكي ما شاهدته بأم عينها، وما جمعته من أكثر من مصدر؛ الجدة، الأب، الأم وبدر العبدالله، ومن حكايات مختلفة، من هنا وهناك. هي قرية عربية فلسطينية تعاني تبعات “النكبة” و”النكسة” و”الهجيج” المتكرر، وحروب إسرائيل مع جيرانها، مثل حرب لبنان الأولى التي نجد لها انعكاسا مباشرا على الأحداث. ينصبّ الاهتمام على إبراز الناحية النفسية للأهل أكثر مما هو على الصورة الخارجية للقرية ومعالمها، مما يستدعي لغة قادرة على التعبير عن الألم المتأصل في النفس.
لم تعمل الروائية على إبراز طوبوغرافيا القرية ومعالمها الخارجية بقدر التركيز على الداخل، وعلى الأحداث وعلى هموم الشخصيات. هناك تركيز(Focus) على زوايا معينة، هنا وهناك، من مواقع داخل القرية وخارجها، بهدف خدمة الحدث العينيّ. قامت الروائية باستعارة هذه التقنيّة من عالم السينما، وبالذات في تصوير مشهد الغربان الذي يعود على ذاته عدة مرات كجزء من فضاء قرية “عين خفشة”. فكما أن الغراب هو الذي كشف السر لنوح، فإن الغراب هو الذي يكشف سر المقبرة ومن يقف خلفها، حيث تُدفن جثث القتلى الفلسطينيين وتتحول إلى مجرد أرقام.
تعيش القرية، مثلها مثل سائر القرى العربية في تلك الفترة، ألما حارقا وجرحا نازفا، تسعى وراء لقمة العيش “المستورة” وتلعق جراح الماضي والألم الحارق. وفيها من الغرائبية بقدر ما فيها من الواقعية؛ حكايات قروية فلسطينية، وحياة بدائية بسيطة، ولها عاداتها وتقاليدها المألوفة، بل ورائحتها المعهودة، وهي القرية التي يكثر الناس فيها من الحديث عن حكايات تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، وتعلقت بها، مصدقة أو منكرة، لتكون جزءا من تاريخها ومن هويتها. وفيها خرافاتها العجيبة، و”عين خفشة”، أصلا، اسم يلتصق بخرافة الضبع الذي “خفش” في عين مائها وما انفك “يعود إلى ماء العين ويتزحلق في مائها مرة كل عام على الأقل”. (الرواية، ص 286)
فالمكان، كما هو مألوف، في عالم الرواية، ليس مجرد موقع جغرافي يبحث القارئ فيه عن شكله الخارجي أو طوبوغرافيته بل هو فضاء روائي واسع وشامل وذو أبعاد ودلالات تنيره اللغة من زوايا عدة شكلية وجوهرية وداخلية.
إن تصوير القرية يعكس طريقة حياة أهلها ومستوى معيشتهم وأسلوب حياتهم اليومية، وفيها حقولها وأرضها التي صودر معظمها. يقضي الأبناء أوقاتهم في أزقتها وحواريها وسهولها وهضابها، لذا من الطبيعي أن تقوم اللغة بمعاينة هذا الفضاء بكل مركباته، فالفضاء الروائي، مثل المكوّنات الأخرى للسرد لا يوجد إلا من خلال اللغة، “فهو فضاء لفظي بامتياز”. (بحراوي، ص 27) وهما- اللغة والفضاء- يتبادلان التأثير والتأثّر.
دلالة العنوان:
يزداد الاهتمام بدراسة العنوان يوما بعد يوم، باعتباره العتبة الأولى التي تمهد لولوج النص، إذ يرى شعيب حليفي “أن العنوان هو وسيلة للكشف عن خبايا النص وطبيعته، ويساهم في فك غموضه”. (غنايم، ص 17) وهو يشغل الكاتب فترة زمنية ويأخذ حيزا كبيرا من فكره، كما يرى الباحث عبدالله الغذّامي، (الغذامي، ص 58) حتى يختار العنوان المناسب الذي يكوّن علامة سيميائية لا يمكن حلها إلا بعد الانتهاء من عملية القراءة. سنحاول في هذا العجالة كشف المعنى المباشر للعنوان، وبالذات كلمة “خفش”، ثم سنقوم بربط المعنى بالأحداث، لكشف دلالته وسبب اختيار الكاتبة لهذا العنوان دون سواه.
قد يبدو مستهجنا للبعض “إقحام” دلالة العنوان “عين خفشة” في سياق بحثنا عن مستويات اللغة داخل عمل روائي، فالاهتمام بالعنوان هو جزء هام من الرواية ومن لغتها لأنه، أصلا، مكوّن لغوي، لم يعد ممكنا إغفال دوره خاصة بعد الدراسات المتعددة للمصطلح paratext (النص الموازي). (للمزيد من التوسع انظر: بلعابد، وغنايم) فالعنوان “عين خفشة” قد يقودنا إلى أكثر من دلالة وإلى أكثر من تفسير عملا برؤية وولفجانج إيزر الذي نادى بتعدد القراءات وسد الفجوات. (للتوسع انظر: أيزر، وبالذات، ص20-21) فالعين هي القادرة على الرؤية والتمحيص، ولكن أية عين هذه؟ ما مميزاتها؟ بم تختلف عن غيرها؟
الخفْش في اللغة ضعف في البصر وضيق في العين. وخفِشت عينُه إذا قلّ بصرها، وهو فساد في العين يضعف منه نورها وتغمض دائما من غير وجع، يعني أنهم في عمًى وحيرة أو في ظلمة ليل. والخفْش علة وتعني العينَ الضعيفة التي ترى في الليل ولا ترى في النهار، ومنه جاء اسم طير الخُفَّاش لضعف بصره في النهار. (انظر: مادة خفش، لسان العرب) وخفش الشخصُ، ضعف بصره في النور الشديد. وخفَشَه، وخفش به أي رمى، وخفش الإنسانَ صرعه، وخفش البناءَ هدمه. (انظر: معجم المعاني) انتقلت هذه المفردة “خفش” إلى العامية وظلت تحمل معنى قريبا جدا من معناها الأصلي في المعاجم، أي سار على غير هدى، وداس في المكان دون مبالاة، كأن نقول “خفش بالوحل”، وهذا ما جاء في الصفحة السادسة من الرواية تحت عنوان “عَيْن خفشَة”: “… ظلت حكايتها، حكاية القرية التي خفشَ في عين مائها الضبع، وقضى عطشا، فذاع صيطها على كل لسان”. (الرواية، ص 17)
و”عين خفشة” قرية فلسطينية تروي لنا حكايتَها الراويةُ/الشخصيةُ المركزية “لبيبة” عبر ذكرياتها الطفولية، فنراها تتخبط في تفسير ما تسمع وما ترى، تتساءل بينها وبين نفسها، وتحاول أن تجد الإجابات الشافية من جدتها وأمها وأبيها، فتأتيها الإجابات ضبابية غير واضحة تنقصها الرؤية الشمولية. فتعود إلى ذاتها لتعيد تحليل ما سمعته من أكثر من مصدر، فترى مرة أخرى أن مصادرها ليست وافية، مما يجعل القارئ يحس وكأن قرية “عين خفشة” هي نموذج للأم الأكبر، فلسطين، التي “خفش” فيها الآخر وحدث ما حدث، إذ قد هُجِّر بعض أهلها، وغابوا عنها يكتنف مصيرهم ومصير بلدهم، بمن بقي فيها، الغموضُ، فيظل الشك سيد الموقف حول مستقبل من هُجّر ومن بقي.
تحاول “لبيبة” أن تكشف الحقائق من مصادرها فتأتيها الإجابات غامضة، لكنها لا تكلّ، وتتابع في بحثها لتدرك الجزء الأهم من قصة قريتها وأقربائها بشكل تدريجي، دون أن تتيقّن من كل الحقائق. أدركت، منذ البداية، أن عائلتها تعرضت للضيم والفرقة والشتات، ولكنها لم تتمكن من اكتشاف كل الحقائق من أفواه من حولها.
تؤمن الجدة، أن الضبع الذي خفش في نبع ماء القرية قد “قضى عطشا” فمن هو الذئب؟ وهل كل ذئب يدخل العين سيلقى المصير نفسه؟ حين نتابع القراءة فإنا سنرى أن الجدة تؤمن إيمانا عميقا أن الحق سيعود إلى أصحابه، وكل غائب سيعود إلى وطنه، والأرض ستعود إلى أصحابها. لكن قرية “عين خفشة” تتابع حياتها دون أن يلحظ القارئ أن الجدة ستحقق بعضا من أحلامها حتى وإن حملت “لبيبة” نواة أفكار جدتها وآمالها. ف”عين خفشة” غارقة في همومها يعتري مستقبلها الغموض، تخسر أرضها يوما بعد يوم، ويعيش أهلها في حذر وخوف ينقلونه من جيل لجيل.
من اللافت أن الكاتبة تتلاعب بالعنوان أحيانا مثل قولها “عين خفشتنا” أو “العين الخفشة” وكأنها تحاول كشف سر اختيارها هذا العنوان ودلالته. فلقد خفش الضبع في العين، كما جاء منذ بداية الرواية، كما أن رفوف الغربان انقضّت على أجساد القتلى، وأخرجت أحشاءها، ما يعني أنها “خفشت في قلبها” كما نقول في لغتنا العامية، وهو من أهم ما جاء في الرواية من صور قاتمة حزينة. واليهود خفشوا بالقرية فهجّروا أهلها، أي داسوا أرضها وهتكوا عرضها وشتّتوا أهلها.
إن كل المعاني التي أوردناها في تفسير “خفش” لها صدى واضح في الأحداث، سواء كان ذلك في الهدم، أو السير على غير هدى، أو في عدم وضوح الرؤية والرؤيا، فهي كلّها تقود إلى غموض المصير وغموض المستقبل، كما هو الأمر مع غموض ما حدث في الماضي، وبالتالي فإن العنوان قابل للتشظي والانفتاح على أكثر من دلالة، قد تقود نحو ما هو أكثر من مجرد مصير أفراد عائلة أو مصير قرية.
اللغة الشعريّة
تقوم رواية “عين خفشة”، بالأساس، على لغة شعريّة حافلة بالاستعارات والكنايات والصور المجازيّة، واللغة الإيحائيّة الدالّة، مؤثثةً في الكثير من المواقع، في السرد وفي الوصف بثقافة متنوعة من عوالم مختلفة، قادرة على التشظي وعلى استكناه الداخل وسبر غور الشخصيات بكل ما تحمله من ألم وأمل وفرح وحزن.
هي لغة قادرة على تحديد معالم المكان والزمان والشخصيات، بطرق غير مباشرة، تستفزّ القارئ وتحثّه على العمل على فكّ رموزها واكتشاف أسرارها، ولنا على ذلك أمثلة عدة منذ الصفحة الأولى من الرواية، فقد افتتحت “لبيبة”، الراويةُ الرئيسية، الروايةَ بالنص التالي تصوّر فيه الجدّة الثكلى التي فقدت ولدها أثناء النكبة: “سقط البكاء من فمها مالحا، وتدحرج مثل كرة ثلج فوق البساط الفارسيّ الأخضر”، وتضيف: “لم تكن جدتي لأبي قاسية، ولكن في مثل هذا اليوم من كل عام تسكن العفاريت جسدها وتصبح جدة عنيفة لا ترحم. وحين ترسل صوتها المذبوح لعتمة المساء يهرب النعام إلى بلاده، وتلقي الديكة بصياحها من شرفات البيت الثلاث العامرة بالوحدة، كي تحيل النواح إلى مجزرة شجن”. (الرواية، ص 11، الصفحة الأولى من الرواية)
هذه اللغة الشعرية تنقل للقارئ صورة حزينة عما تمرّ به الجدة، يمتدّ الحزن ليطال كل الأشياء من حولها من جامد ومتحرك، يتفهّمها من حولها ويعذرها: “لم تكن جدتي قاسية”، كما جاء على لسان “لبيبة” الحفيدة، فتتدافع التساؤلات لدى المتلقي: لماذا، وكيف وما الأسباب؟ تتحول المشاعر من فردية (مشاعر الجدة) لتنفلش وتتمدّد فتطال كل ما في البيت لتصل، من بعدُ، إلى المتلقي. وقد برزت بشكل واضح من خلال الذكريات والمونولوج والفلاش باك والأحلام والرؤى، هذه التقنيّات تتيح للغة أن تغوص أكثر في أعماق النفس، وبالتالي يتكسر الزمن وتتشتت الأحداث وتتوزع على مساحة زمنية أوسع، وتنتقل “الكاميرا” ما بين أزمنة وأمكنة متعددة يتقاطع الحاضر بالماضي البعيد والأبعد، وتتبدّل مواصفات الشخصية ولغتها مع عمر الراوية (لبيبة) التي تتوزع بين “لبيبة” الطفلة و”لبيبة” المراهقة و”لبيبة” العجوز التي شارفت على نهاية السبعين من عمرها.
تمتدّ اللغة الشعرية على مساحة واسعة من حيز النص، وتسيطر على غيرها من المستويات اللغوية، إذ يستطيع القارئ أن يقع عليها في السرد والوصف والذكريات والفلاش باك والرؤى والأحلام، ولنا على ذلك أمثلة عدة منها:
“غمرني وجيبٌ آسرٌ، حين توقف الشتاء فجأة، ودون سابق إنذار. وكفّت حجارته عن رجم بدني بلعناتها، ومنحتني كرت عبور إلى قلبي. كنت على يقين أني ذاهبة إلى غيب يمور بحقول سنابل لا آخر لخضرتها، ولا حد لفتنتها، لكني كنت، إذ ذاك صبية غيري، حزينة لا تشبهني حين تحاول تقليد شقرقتي تقع في شرك البكاء”. (الرواية، ص 142)
وتتذكر في موقع آخر: “دربكتُ على رأسي هذه المرة لأصحو من صوت الخرز الذي كرّ دفعة واحدة فوق كتفيَّ، وغمر قلبي. كانت خيول أبي لا تكفّ عن صهيلها المجنون في رأسي، حاولت أن أتصالح معها، لأفهم شروط فرساني القادمين والمغادرين. تبعثرت مسارات الذاكرة ومعها خرزات جدتي”. (الرواية، ص 174)
لا تعتمد اللغة، أعلاه، على الاستعارات التقليدية بقدر اعتمادها على البوح بما يعتمل في النفس، وليس عمدتها التشبيهات والكنايات بقدر اعتمادها على بث رسالة جوّانية. إنها اللغة الشعرية القادرة على الإيماء والإيحاء بعيدا عن المباشرة، فتغدو كل جملة قصيرة، أو طويلة، ذات رموز ودلالات. وأحيانا هي لغة شعريّة سلسة رقيقة ناعمة تقودك نحو جمالية اللغة حين لا نثقلها بالاستعارات والمجازات المنغلقة على ذاتها. وبما أن معظم الأحداث تسردها “لبيبة”، بعد أن رأت من التجارب ما جعلها حكيمة وأكبر من جيلها منذ الطفولة، فإن اللغة تنحو باتجاه التأملات والخواطر والنجوى تنقل ما يعتمل في النفس من مشاعر متناقضة لتخترق المتلقي.
لغة ذات بعد غرائبيّ
لا تنتمي رواية “عين خفشة إلى “الواقعية السحريّة”، (للتوسع انظر: تنفو) حتى وإن جمح الخيال أحيانا بعيدا عن الواقع وانحرف نحو العجائبيّة، فإنها ما تلبث أن تعود إلى الدمج المعتاد بين الواقع والخيال. لكن يبدو أن الألم النفسيّ قادر على اختراق التوازن البشريّ المطلوب، ففقدان الابن والأخ، وتشتّت أفراد العائلة الواحدة، والأخبار المتلاحقة من فترة لأخرى حول موت إنسان عزيز دون أي مبرر، مثل عملية قصف عشوائيّة على منازل أناس آمنين، وتَحَوّل الإنسان إلى مجرد رقم تأكل جثته الغربان والصقور كفيل بأن يُفقد الإنسانَ توازنَه، فتصبح الفانتازيا والغرائبية والعجائبية جزءا من واقع.
– تقول “لبيبة”: “خيل إليّ أن عين خفشة بصغيرها وكبيرها تلاحق حذائي الرياضي، وهي تجرّ مسبحة بطول حقلنا. كنت أصغي بهلع لصوت صدام الخرزات ببعضها، كأن كل خرزة بحجم شمامة صغيرة”. (الرواية، ص 122-123)
– وتقول في موقع آخر: “عند منتصف النهار شقّ نسر بلون الذهب عمق السماء، وأخذ يحوّم فوق زفة عساف وناعسة. حرصنا، نحن مرافقي الزفة العملاقة من عين خفشة، والقرى المجاورة ألا نطيل النظر إليه كي لا يسرق عيوننا من محاجرها”. (الرواية، ص 277)
– وتصف “لبيبة” هذا المشهد الغرائبيّ وقد قامت الغربان بمهاجمة ابن قريتها بدر العبدالله: “لم تترك الغربان سطح بيته كي تريح حناجرها قليلا. غاراتها المنظمة طالت كل شيء، لون الوجوه والمكان، وحمّى الرجل أصبحت هدفا أثيرا. اقتربت أصوات الضباع، والتصق خوف رأسي ببدني. يقظة مفاجئة لقطاع الطرق ستقضي على كل شيء”. (الرواية، ص 234)
نتفق مع ما قاله الباحث فاضل ثامر حول صعوبة تصوير الواقع العربي الحالي بأساليب قديمة واقعية تقليدية لما فيه من تعقيد وضغوط وإحباطات متلاحقة “ولذا يسهم البعد الغرائبي أو الفانتازيّ في مواجهة حالة القهر الإنساني اللامعقول عن طريق توظيف الخيال واختراق سكون السطح الواقعيّ”. (ثامر، ص 87)
قد يقول قائل هذه هي أصول كتابة الرواية؛ المزج بين الواقع والخيال. إننا لا نعترض على هذه المقولة، بل إننا نؤكد عليها. إن الغرائبيّة جزء أساسيّ من دلالات الواقعيّة السحريّة (انظر: الرويلي والبازعي، ص 231-232) “غير أنها تنضاف هنا، وبصورة أساسية أيضا، إلى تفاصيل الواقع، إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلا في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل فيه”. (ن. م.، ص 232) فالواقعيّة السحريّة تلجأ إلى سرد أحداث مغرقة في الغرابة وخارقة للفكر في ثنايا أحداث مغرقة في الواقعيّة، فتبدو كأنها جزء لا يتجزأ من واقع الشخصيات. إن “عين خفشة” وأهلها يواجهون الواقع اليومي المعيش الصعب، وهم أـناس بسطاء في مأكلهم ومشربهم ورؤيتهم، يتألمون حين يرون الضيم يغمر قريتهم، يواجهون على أرض الواقع تهميشا وظلما لا ينفكّ يلاحقهم، ويواجهون في السماء طيورا وصقورا تلاحقهم “تخفش” في جثث أبناء شعبهم وتعكر صفو حياتهم، بل إن هذه الطيور الغريبة باتت جزءا من واقعهم اليومي.
التجاوز والانغلاق
يجب على الروائي أن يعمل على خلق مستويات لغوية مختلفة تتماثل وتتناغم مع مستوى الشخصيات الفكرية والاجتماعية. فالرواية تقوم باللغة، إذ ليس من المعقول على سبيل المثال أن يتحدث البرجوازي بلغة العامل وبالعكس، إلا إذا كان ذلك من أجل المفارقة. كما لا يجوز لعجوز لم يدخل معاهد الدراسات العليا، ولم يكتسب ثقافة واسعة، أن يتحدث عن مسرحيات شكسبير وأشعار المتنبي، وعن آخر النظريات العلمية والأدبية.
حرصت الروائية رجاء بكرية، كما ذكرنا، على التركيز في رواية “عين خفشة” على اللغة الشعرية الإيمائية الغنية، لكن الإغراق في الطرح الفلسفي، واللغة الغنية بالتناص، وبالثقافة الواسعة قد حال، أحيانا، دون تحقيق هذا التناغم بين الشخصيات واللغة. لقد تحدث المنظرون مثل باختين وبيير زيما وجان موكاروفسكي وغيرهم عن مستويات اللغة وعن تعدد اللغات، وتعدد الأصوات، وذهبوا في أبحاثهم إلى الحديث عن لغة أصحاب المهن ولغة المناسبات والساعات وغيرها. (انظر: باختين، 1987، ص 38-39، زيما، ص 184) وقد أبدعت الكاتبة حين وظفت النواح والموال والأغاني الشعبية في حديث الجدة، فبدت شخصيتها مبنية بإحكام، فيها حكمة الكبار وتجاربه، وفيها وجع الأم التي هُجّر ابنها غصبا، وقتلت زوجته بأبشع الطرق. ورأينا لغة العجوز تميل إلى الحكمة، ولغةَ الأب تميل إلى الحذر والتروي، ولغةَ الابنة تميل إلى الحماس والتسرع أحيانا. ووجدنا تماهيا بين المحيط واللغة، من ناحية، وبين الشخصيات وسرد الأحداث والمستوى اللغوي من ناحية أخرى.
ولكنّ تكثيف اللغة الشعرية في عمقها الرؤيوي الفلسفي كان أكثر وعيا من بعض الشخصيات، في بعض المواقع، وكأن الكاتب الضمني قد تعدّى خطوطه ودفع بالشخصيات جانبا. يقع القارئ، أحيانا، على نصوص فيها مزيج من خرافات وأساطير وتناص غني، وقصص عجيبة تحتاج إلى فرز كي يتمكن المتلقي من معرفة هوية أصحاب الأصوات التي تقف وراء هذه النصوص، فتتكشّف حالة من التنافر بين مستوى اللغة المحملة بالكثير من الرموز والإيماءات وبين أفكار هذه الشخصيات المعروفة للقارئ وهويّاتها. وقد تكرر ذلك في أكثر من موقع. إن هذا الصوت هو صوت الكاتب الضمني الذي يتسلل إلى النص من الخلف، تحركه الروائيّة، مما يؤدي إلى إدخال القارئ العادي وحتى المتمرس في حالة من البلبلة.
فقد جاء على لسان “لبيبة” هذه الذكريات: “هل كان ثمن هويتي يستحق هذا القطف العنيف لزهر براءتي؟ بعد مرور سنوات على يقظتي من الحلم، أعترف بغبائي. فبدر العبدالله لم يترك في جيب قمبازه حكاية واحدة. وكنت أعرف أن أوديب استدرجَهُ غرورُه إلى كمين، فلمَ لم يستفق قلبي، وأنا أنفذ خطة القدر بحذافيرها؟”. (الرواية، ص 122. للاستيضاح أكثر اقرأ النص كاملا: ص 119-123).
ومن ذكريات “لبيبة” الطفلة، نقرأ الفقرة التالية، بلغة شاعرية إيمائية، ذات أبعاد ودلالات واسعة تنمّ عن فكر فلسفي عميق في أمور الحياة: “ليلة الشتاء الأولى قررتُ أن أفهم سرّاً سرَّ بدر العبدالله، رجل قريتنا المريض. هذا ما بدأنا نستعيض به عن اللعنة، المرض، كي ننقذ بقاءنا فوق تلك البقعة المتفوقة على جغرافية الكون في كل شيء. أصبحت في عيوننا المغسولة بربيعها صيفا قائظا وموحشا، بعد أن كان تطرُّفها وتوحّدها فيما مضى سببا في نعمة أسبغتها السماء على صفوة نفوسنا ورؤوسنا، وأخافتنا الوحشة”. (الرواية، ص 44)
وجاء في موقع آخر: “لكنّ هذه البنت العجيبة، عجيّة الزعرور فريط رمان، لم يغم عليها حين وقعت على صخرة جرداء بشعرتين اثنتين تلمعان في عتمة ليل بين عينيها. ولم تمت حين فهمت أن هذه الصخرة غول نسل طويل من جدات أصدقائها، بل مدت يدها إليه بثقة بطلة أسطورة، وأخبرته أنها ستتركه يشبع من دمها إذا وافق أن يعيدها إلى حظيرة والدها في حقل البرسيم الواسع. وكانت ستوافق بالتأكيد أن يرعى من عروق يدها الناحلة”. (الرواية، ص 239)
إن إغناء اللغة بكل هذا التناص والعمق الفكري يخلق لدى القارئ المختصّ حالة من البلبلة تجعله يتساءل طوال الوقت عن مصدر القول؛ هل هذه أقوال الشخصية؟ أم هي أفكار الروائي؟ إن عمق الطرح الفكري وإغراقه بلغة شعرية مكثّفة ومؤثثة بفلسفة ورؤيا تنمّ عن عمق قائلها تخلق حالة من الضبابية وعدم الوضوح أحيانا. كان، برأينا، من الممكن إيجاد الطرق والوسائل التي تجعل هذه اللغة أكثر قربا من مصدرها/ قائلها، خاصة أنها تعكس عمق ثقافة الروائية وتَمكُّنها من تجنيد لغة استعارية شاعرية.
لا يمكن أن تُنسب هذه النصوص للبيبة، حتى ولو أصبحت عجوزا ولها من التجربة ما يسمح لها بالنظر إلى الحياة نظرة المجرب، فالرواية لم تحدثنا عن “لبيبة” إلا الطفلة المشاكسة المراوغة القوية، التي تفهم أكثر من جيلها، ولم تحدثنا عن ثقافتها وعن قراءاتها أسطورةَ أوديبوس وعمقَ فكرتها كي يتم توظيفها في هذا السياق. وحتى لو قرأتْ “فريط رمان” أو رُويت لها في مرحلة معينة لما كانت “لبيبة” ستَنْظر إليها بمثل هذا العمق الفكري. لقد تسللت الروائية وأدلت بصوتها فكان نافرا، رغم جمال اللغة وعمق النص وأبعاده وإيماءاته، “فالناس لا يخاطبون الطفل كما يخاطبون الراشد، ولا يخاطبون “القائد” و”الزعيم” و”الرئيس” و”الكبير” في السن والجاه والحظوة بنفس اللغة التي يخاطبون به “العامة” من الناس”. (بنكراد، ص 167) والطفل لا يفكر كما يفكر البالغ، والمثقف لا يفكر كما يفكر الإنسان العادي.
إن مثل هذه الخطابات على أنواعها تُدخل القارئ، في حالة من البلبلة، وعدم الثقة بما يقرأ، خاصة وأن عمر “لبيبة” كان يضيع أحيانا في الرواية. ولم يكن واضحا مدى مواءمة النص مع عمرها الذي كان يغشاه الغموض. بل إن اللغة في اجتماعها معا لا تتلاءم مع شخصية “لبيبة” التي يعرفها القارئ منذ بداية الرواية وحتى نهايتها.
بين اللغة المعيارية واللغة المنزاحة
نعلن بداية أنه لا توجد مقاييس دقيقة للتفريق بين اللغة المعيارية واللغة المنزاحة، لأن ذلك يتعلق بالمكان والزمان، فما كان يعتبر انزياحا في زمان ما بات لغة معيارية في زمان آخر، كما يقول تيري إيجلتون، (للتوسع انظر: إيجلتون، ص 15-18) ولكني آثرت هذا العنوان لدراسة لغة “وسطية”، كما أود تسميتها، تقع بين الشعرية الخالصة، التي أكثرت الكاتبة رجاء بكرية من استعمالها، واللغة التقريرية المباشرة. وبالتالي تصبح اللغة المعيارية في رواية “عين خفشة” لغة خاصة بها قد لا نستطيع تطبيقها على روايات أخرى.
اللغة التي نقصدها هنا هي الفصحى العادية التي تصلح للسرد دون المبالغة في الانزياح، القادرة على التشخيص دون زركشة، ولا تجعل من المجاز عمدتها. يتصرف بها الروائي كما يتلاءم ذلك مع وضعية الشخصية في إطار زمكاني محدد. وهي اللغة القادرة على التواصل مع كل قارئ سواء كان قارئا نموذجيا أو قارئا عاديا دون إثقالها بمجاز مكثّف.
هذه اللغة تتعدّى اللغةَ السرديةَ التقريريةّ المباشرةّ وذلك في قدرتها على تحريك الأحداث ونقلها من الماضي إلى الحاضر وبالعكس. ولنا على ذلك أمثلة عدة منها ما جاء في بداية الرواية على لسان “لبيبة”: “كنت متأكدة أن مشروع التجارة ببرتقال حاكورتنا الصغيرة ستدرّ عليّ مبالغ طائلة أستطيع معها تأمين أسطول يسافر إلى جميع الدول التي ذهب إليها عمي وأصدقاؤه كي يعودوا على متنها إلينا. اعتقدت أن استعادة الأرض وعودة البشر مسألة بسيطة يحلها الأطفال أمثالي، لم أفكر أبدا أن حربا إقليمية ضارية لن تعيد رجلا واحدا إلى موقد بيته البارد”. (الرواية، ص 16)
إن معظم الأدباء، سواء كانوا شعراء أو روائيين، يبحثون عن الوسائل التي تسعفهم في التواصل مع القراء. إننا نعتقد أن تكثيف الكاتبة للغة الشعريّة في روايتها جعلها تعيد حساباتها بين الفينة والأخرى لتعود إلى قرّائها، من خلال اللغة السردية الأدبية “المعيارية” كي تمسك بتلابيبهم فلا يتراجعون عن متابعة القراءة. هذه اللغة غير محملة بالتناص ولا تعتمد على الانحراف لكنها غنية وجميلة وسلسة، إذ يكشف النص أعلاه عن تداخل صوتين؛ صوت “لبيبة” الطفلة ابنة السابعة التي تؤمن أنها ستنجح، من خلال بيع البرتقال، في توفير مبلغ يكفيها لشراء أسطول بحري يعيد المهجرين، وصوت “لبيبة” العجوز التي تعرض أمانيها وصدق عواطفها وما كان يشغلها من هموم حين كانت طفلة ترغب بالقيام بشيء ما يساهم في حل القضية الأكبر؛ عودة المهجرين المطرودين، في إشارة إلى ضيق ذات اليد عند أبناء الشعب الفلسطيني الذي فقد الأمل في تحقيق حلمه وحلم أطفاله.
من الضروري أن نشير إلى أن هذا المستوى اللغوي يتشابك ويتداخل مع مستويات لغوية أخرى في النص نفسه، إذ يتنقل السرد في الرواية، بين لغة شعرية ومحكية وفصيحة ومعيارية وتراثية وحتى لغة سردية تقريرية مباشرة في نص قصير قد لا يتعدى صفحتين أو ثلاثا، دون أن يرهق القارئ. (انظر على سبيل المثال: ص 32-35) لا نستطيع أن نقتبس نصا يجمع كل هذه المستويات التي أشرنا إليها، ولكن للتوضيح نسوق المثال التالي من الرواية على لسان “لبيبة” التي تتذكر أحد الأحداث الهامة من أيام طفولتها: “ذات يوم نفذ صبري لكثرة ما سمعتُ ولم أفهم. جريت إلى رجل السر وجذبته من أطراف قمبازه، ورجوته، “وحياة قلبك عمو بدر فهمني شو يعني مخيمات، وليش في حرب تحت الخيم؟ يعني زي مخيمات العرس؟ بس بالعرس بحطوا أكل وحلو. بقوسوا بس عن مزح؟ ألله يخليك فهمني”. ابتسم وهو يحدق في عينيَّ المتوسلتين. أمسكني من يدي، وأجلسني أمامه على المصطبة، وخبّرني أن المخيمات التي يتحدثون عنها لا علاقة لها بالأعراس، وأن الناس الذين يجلسون تحت المخيمات غالبا ينامون جائعين، وأن معظمهم فقراء، وينتظرون بفارغ صبر أن يعودوا إلى قراهم التي ركبوا البحر وتركوها خلفهم تنتظر. (الرواية، ص 33)
يجمع النص أعلاه بين اللغة الفصيحة واللغة العامية، وهو يختصر مأساة الإنسان الفلسطيني، الباقي والمشرد، الطفل والعجوز. وفيه تمازج وتداخل أكثر من مستوى لغوي؛ العامية، الفصحى والمجازية الدالة. هذه اللغة قادرة على التواصل مع القراء على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، فضلا عن تمكنها من التواصل مع القارئ في كل زمان ومكان. يمكن للقارئ العادي أن يتمتع بهذا النص، وللقارئ النموذجي أن يبحث في دلالاته وأبعاده.
اللغة المحكية
لقد بات استعمال اللغة المحكية أمرا مسلَّما به يلجأ إليها الكثير من الروائيين. سنقوم هنا بالتركيز على ثلاثة أساليب، بدءا من الأكثر شيوعا في الرواية حتى الأقل وهي؛ اللغة المحكية المعيارية، واللغة المحكية الشعرية، والعامية المفصّحة.
يرى باختين بأن “الإنسان المتكلم في الرواية هو، جوهريا، إنسان اجتماعي مُشَخَّص، مُحَدَّد تاريخيا، وكلمته لغة اجتماعية (…) وهو دائما صاحب أيديولوجيا بقدر أو بآخر، وكلمته هي دائما قول أيديولوجي، واللغة الخاصة في الرواية هي دائما وجهة نظر خاصة إلى العالم تدعي قيمة اجتماعية”. (باختين، 1988، ص 110)
لقد سيطرت اللغة المحكية في منطقة الجليل على الحوار في الرواية، وهي أكثر ما ترد على لسان الجدة والأب. إنّ الشخصيّة الأكثر “غرقا” في النكبة وأبعادها هي الجدة، ولذلك نجد أن حوارها في مضمونه وفي لهجته العامية، كان خير وسيلة للتعبير عن هوية العجوز الفكرية والاجتماعية والعاطفية، ولنا على ذلك أمثلة عدة:
تقول لحفيدتها الطفلة: “بسْس (تمد السين-الباحث) إِصحِك، ورفعت سبّابتَها مقابل شفتيها الرقيقتين، هاي آخر مرة بسمعك بتُذُكريهُم، اسمعتيني يا ستي؟”. (الرواية، ص 15)
وتقول لها في موقع آخر: “شايفة شو عملوا اليهود يا ستي، مش أخذوا إمُّه وأبوه بالقوة، ودشَّروه لرحمِة ربُّه؟ ألله يغضب عليهم شو يتّموا ورمّلوا وقتّلوا هالبعدا”. (الرواية، ص 248)
وفي موقع آخر تقول لحفيدتها مستذكرة أيام الهجيج، وما حدث لجارهم “أبو نبيل” ولبعض أهل القرية: “بس كيف هالمشحّرين لمّوا أبو نبيل من السهل، كان يتبعّر حبة بقل من أرضياته، وكانت لِمْعدَّلة أم نبيل، مرته معو، رجعوه بقمبازه لِمْبَهدل، يا ويلي عليه، ملحقش يا ستي يغمّس لقمة الخبز، وجروه مثل ما يجروا الغنم…”. (الرواية، ص 86)
النصوص أعلاه تعتمد اللغة العامية المعيارية بعيدة عن الزخرف والشعريّة والانحراف. تقوم الجدة بتحذير حفيدتها ابنة السابعة من ذكر اليهود في كلامها. وهي مثل غيرها كانت تعتقد “أن اليهود يقيمون تحت كل حجر في القرية”. (الرواية، ص 16) هذا التحذير يرتبط بالمآسي المتكررة التي شهدها الإنسان الفلسطيني، وتشرّده أكثر من مرة، وفي أكثر من دولة، فولّدت لدى الأهل خوفا من فَقْد آخرَ وخسارة أخرى. هذا التناقض في موقف الجدة، وفي تصريحاتها كفيل بكشف حقيقة ما يمور في داخلها من صراع بين البوح بما تحس به من ألم وحسرة، ومن خوف على الحفيدة ومستقبلها. كلام الجدة أعلاه هو صورة متكاملة لجيل اتخذ الحذر منهجا في حياته، من ناحية، وحمل رسالة جيل، من ناحية أخرى، ينقلها للجيل الذي بعده بما فيها من تناقض بارز للعيان. ونحن إذ نتحدث عن أيديولوجيا المتكلم في الرواية نعلم أن كلمة أيديولوجيا، رغم كبرها وحجمها، هي أيديولوجيا الجدة في مفهومها المتواضع البسيط المباشر؛ لا تنازل فيه عن الحق، ولكن بحذر ورويّة.
لقد اختارت الروائية رجاء بكرية أن تضع اللغة المحكيّة في منطقة الجليل على لسان الجدة، لأن هذه اللغة هي الأكثر قربا إلى شخصها وإلى تجربتها الحياتية لتكون جزءا من هويتها، إذ هناك “علاقة بسيطة وتلقائية بين المتكلم ولغته الخاصة به”. (باختين، 1987، ص 43) يشعر القارئ بمدى التحام هذه المفردات وهذه الجمل المحكية بالعجوز الفلسطينية التي مرّت بتجربة النكبة ورأت ما رأت من مشاهد دامية حزينة.
فقد عاد الوالد أكثر من مرة على التحذير لابنته: “يا بوي خربتِ بيتي، ما حدا راح يرجع ولا يتشحّر، هاي ستك كانت تخرّف” ويضيف في نفس السياق: “بعرف إنك شاطره يا بوي، وما راح تغلبيني، ماشي؟”. (الرواية، ص 18) فيأتي الرد سريعا: “شو ماشي، وأنا هالكة حالي ببيع البردقان، أبو سرة، لكل العالم”. (ن. م.)
هناك تشابه بين لغة الجدة والأب في التحذير وفي العاطفة، بينما لغة الحفيدة/الابنة الطفلة حماسية، كما يبرز ذلك من خلال استعمال تعابير متشابهة بين الجدة والأب مثل، “يا ستي”، “يا بوي” “هالبعدا”، “الله يغضب عليهن”، “ولا يتشحر”. وفي نبرة الصوت، ففي لهجتهما ألم وحسرة وتحذير، وفي لهجة “لبيبة” حماس وتمرد. إننا حين نقرأ ما جاء أعلاه، على لسان الجدة، فإننا نكاد نسمع نبرة صوتها الحزينة المولولة، من ناحية، كما أننا نقع على مفردات لن تصدر إلا من عجوز فلسطينية لاقت الأمرين، فضلا عن الصور والتشبيهات المأخوذة من عالم الفلاح الفلسطيني في تلك الفترة.
لم تقتصر اللغة المحكية على اللغة المعيارية فقط، بل هناك ما يمكننا أن نطلق عليها اللغة المحكية الشعرية. يبدو أن ولع الكاتبة باللغة الشعرية كان له انعكاسه على اللهجة المحكية، وقد جاءت هذه اللغة على لسان الجدة خاصة. ففي كلامها الكثير من العمق و”الفلسفة” نتيجة ما اكتسبته من حكمة بعد هذا العمر الطويل، كما نرى في الأمثلة التالية:
– “ليش هني اليهود خلوا التاريخ يحكي. كلوا تزوّر وتشحّر. خلونا زي جرس الريح معلقين بعنق سنديان، كل ما هب عليها الهوى غنت بحسرتها”. (الرواية، ص 286)
– “ما تروحوا يا ستي، شي يوم من الأيام عمك خير راجع، والله راجع.. ولو صارت الناس غابة، والدنيا حطب”. (الرواية، ص 120)
– لا تروحوا يا ستي، وتخلوا الأرض سايبة، تركة لولاد هالحرام. بتموت لحكاية وبنموت معها”. (ن. م.)
إنها لغة العجوز الحكيمة القادرة على تشخيص النكبة والنكسة والحزن والمرارة، ولو وردت هذه اللغة على لسان الحفيدة لكانت مجافية للواقع غريبة عن فكرها وتجربتها. لقد تعرفنا على الجدة وحزنها العميق منذ الكلمات الأولى للرواية فقد “ازدهرت مملكة بكاء” (انظر: الصفحة الأولى من الرواية، ص 11) في بيتها، فانعكس ذلك في حواراتها وفي نواحها: “يا خويي لبعيد، لو تعرف جمر قلبي الشاعل لجيت عاصفة، أو برقة بليله من ليالي بكايي عليك. ولو ولا مرسال مع حمام العلية اللي هجر وراك!”. (الرواية، ص12)
ليس بغريب على الجدة الفلسطينية هذا النواح وهذه الصور الشعرية، إن هذا الحزن الثقيل الذي وجد له انعكاسا في نواح الجدات والأمهات الفلسطينيات لهو انعكاس للفقد والتشتت والتشرد، وما تركته المحن من جروح أدمت الروح. هذه اللغة جزء من شخصية الجدة ومن تجربتها المؤلمة. لذلك ليس بغريب أن توظف الروائية النواح، منذ الصفحة الأولى من الرواية، تمهيدا لما سيأتي فيما بعد.
هذه النماذج التي أتينا على ذكرها تحمل مواصفات اللغة الشعرية الفصيحة نفسها، ففيها اللغة المجازية المحملة بالإيماءات والدلالات، هي لغة تتكئ على الانحراف، الذي يعني فيما يعنيه بُعد اللفظة والجملة والنص عن المفهوم المعجمي المألوف.
يلجأ بعض الأدباء في بعض الأحيان إلى استعمال كلمات محض عامية والتعامل معها كأنها فصيحة، ولهذا الأسلوب أكثر من هدف، ففي المسرح قد تؤدي إلى الضحك والتندر، على سبيل المثال. وفي الرواية لها أيضا أكثر من غاية، منها إحساس الروائي بأن هذه الكلمة بالذات قادرة على التعبير عن موقف ما أكثر من غيرها. وقد لجأت الروائية رجاء بكرية إلى توظيف هذا الأسلوب. ويقيني أنها أحسّت بضرورة استعمال هذه اللفظة أو تلك، في هذا الموقع بالذات، لأنها قادرة أكثر من غيرها على نقل الصورة، أو الوضعيّة الخاصة لشخصيّة معيّنة، أو لحدث معيّن، فنجد “لبيبة” تستعمل لفظة “لَخَمْ” العامية التي تعني أربك، و”تلخبط” التي تعني اضطرب وفق أصول اللغة الفصحى : “لَخَمَتْني جدتي بحكايا اليهود في طفولتي”. (الرواية، ص 14) و”لكن حساباتي في جمع المال من بيارة برتقالات أبي تَلَخْبَطَتْ تماما حين سمعت طلقات البنادق تلاعب فضاء قريتنا”. (الرواية، ص 20)
ما كانت كلمة أربكتني بقادرة على استبدال “لخمتني” ولا اضطربتْ بقادرة على استبدال كلمة “تلخبطت”، هاتان المفردتان أكثر التصاقا بالطفلة، وأكثر قدرة على التعبير عما مرت به، وهي ترى وتسمع دون أن تعي ما يدور حولها، وسيبدو بديل هاتين الكلمتين غريبا عن عالم الطفلة وبراءتها، يعتريه كلفة وتصنّع.
إن اللغة المحكية في “عين خفشة” بكل مركباتها ومستوياتها جزء من هوية الشخصيات، وجزء من القرية وأهلها على اختلاف مواقعهم.
يرى جان موكاروفسكي أحد ممثلي البنيوية التشيكوسلوفاكية، أنه من الممكن تقسيم لغة مجتمع معين في لحظة تاريخية معينة إلى لغات جماعية وإقليمية متعددة. (زيما، ص 184) ينعكس ذلك في لغة أهل “عين خفشة” الذين يمرون تجربة التشرّد والألم والرّيبة والخوف، في ظرف تاريخي له مواصفاته. كما نستطيع أن نميز بين لغة كل شخصية من شخصيات الرواية، وفق تجربتها الذاتية. ينطبق ذلك على الفرق بين لغة الجدة والوالد من ناحية، وبين لغة الحفيدة/الابنة، من ناحية ثانية، ليعكس وجهتي نظر متناقضتين؛ الأولى حذرة والثانية فيها حماس الطفلة وبراءتها.
خلاصة
تطرح رواية “عين خفشة” قضية جراح الإنسان الفلسطيني الباقي في أرضه، بعد أن تمت عملية البتر بين أبناء البيت الواحد وتشتتهم وتشظيهم، فقامت الروائية بتوظيف لغة تعكس الوجع النفسي، فكشفت عن أكثر من صوت من خلال شخصيات تنتمي لأجيال متعددة، بدءا من الجدة مرورا بالوالدين فالحفيدة.
جمعت الرواية بين مستويات لغوية متعددة، بدءا من اللغة الشعرية والفانتازية المؤثثة بالخرافات والأساطير، واللغة المعيارية “الوسطية”، وانتهاء باللغة العامية، في مستويات عدة؛ المعيارية، والشعرية، والعامية المفصحة، وقد تخللتها حكايات شعبية فلاحية قروية ونواح الجدات. هذا التمازج اللغوي يخدم الرواية في أكثر من اتجاه؛ يساهم في المزج بين الواقع والخيال كجزء هام من مقومات الرواية الحديثة، ومن ثمّ يعكس مستويات الشخصيات المتعددة، وزوايا النظر المتداخلة منها والمتضادة، كتعبير عن صراع في وجهات النظر تعكس الواقع الحقيقي للمجتمع في نقاشاته مع الذات ومع الآخر.
فاللغة العامية أكثر ما ترد على لسان الجدة، وهي لغة الواقع التي تقودنا إلى الحقيقة دون مراوغة. أما اللغة الشعرية التي تطغى على معظم النص فهي لغة مراوغة ومستفزة ذات إيماءات وإيحاءات غنية بالدلالات والتناص. ويبدو أن الروائية تميل إلى هذه اللغة حتى وصلت، أحيانا، درجة من الانغلاق والمبالغة لم يكن سهلا على القارئ أن يفك ألغازها وأحاجيها، لأنها مغلَّفة بجمل وصور واستعارات ضبابية نرى ظلالها أحيانا، ونفقدها أحيانا أخرى، حتى وصلت حد البتر والغربة ما بين الشخصية ولغتها.
“عين خفشة” رواية تعالج قضية النكبة من زاوية أخرى بعيدا عن الأسلوب الذي تم اتباعه حتى الآن في الرواية العربية الفلسطينية، تدور أحداثها في قرية فلسطينية تحمل من مواصفات الواقع بقدر ما تحمل من الخيال الذي يصل أحيانا حد العجائبية، تأخذنا الأحداث باتجاه الحيز الزمكاني الذي يخدم الحدث بشكل مباشر، والذي تنمو الشخصيات في ظله. وبالتالي باتت المركبات الروائية ذات دلالة أوسع وأعمق من مجرد زمان أو مكان أو شخصية. بدت قرية “عين خفشة”، بناسها وأحداثها، ذات دلالات ورموز متشظية تتسع للبلد الأوسع والأشمل.
المراجع
إيجيلتون، تيري. نظرية الأدب. ترجمة ثائر ديب. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995.
أيزر، وولفجانج. فعل القراءة. ترجمة الجيلاني لكدية، وحميد لحمداني. فاس: منشورات مكتبة الناهل، 1989.
باختين، ميخائيل. الكلمة في الرواية. ترجمة يوسف حلاق. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1988.
باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة. القاهرة، باريس: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1987.
بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990.
بلعابد، عبد الحق. عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص). بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008.
تنفو، محمد. النص العجائبي، مائة ليلة وليلة أنموذجا. دمشق: دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، 2010.
الرويلي، ميجان، والبازعي، سعد. دليل الناقد الأدبي. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي. ط2. 2000.
الغذامي، عبدالله. ثقافة الأسئلة، ط2، الكويت: دار سعاد الصباح، 1993.
غنايم، محمود. غواية العنوان- النص والسياق في القصة الفلسطينية. الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2015.
لحميداني، حميد. النقد الروائي والإيديولوجيا. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990.
الماضي، شكري. مقاييس الأدب. دبي: دار العالم العربي للنشر والتوزيع، 2011.
مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1988.
Wellek Rene, Warren, Austin. Theory of Literature, Harmondsworth: Penguin Books Ltd, 1966.
رياض كامل