“ذاكرة حاضرة في غياب الوطن”
تاريخ النشر: 01/07/19 | 18:40قراءة في رواية “غربة الحجل”- دلال عبد الغنيّ
د. لينا الشّيخ – حشمة
“غربة الحجل” هي الرّواية الثّانية للكاتبة السّويديّة، ذات الأصول الفلسطينيّة، دلال عبد الغنيّ. هي رواية عن الذّاكرة في حضور الغياب. رواية تستعيد الماضي الفلسطينيّ وما ألقته رياح الهجرة والحروب على عتبات التّاريخ. بالكلمة توقظ وتحفظ ما قد يسقط في الغياب.
في “ظلّ التّانغو”، الرّواية الأولى للكاتبة دلال عبد الغنيّ، بدأت حكاية “فرح”، وفي “غربة الحجل” تستمرّ الحكاية، حكاية مثقلة بذاكرة مريرة وصناديق مغلقة على آلامها، فتنفتح على الأرض السّويديّة. كيف لا والسّويد قد جادت عليها بما لم يجد عليها الوطن العربيّ: الأمان، الهويّة، الكرامة الإنسانيّة والحرّيّة؟!. فكيف إذًا لا تكتب وتبوح لتخلّص روحها من ذاكرة لعينة، وفحيح لا ينفكّ يلدغها ألمًا ووجعًا!! في المنفى/ الوطن تتفجّر الذّاكرة وتنثال عليها من أعماقها الدّفينة، وبالوجع تكتب غربتها، “فليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب”، مثلما يقول جبران خليل جبران؛ القول الّذي تقتبسه الكاتبة في الصّفحة الأولى من روايتها.
تدور الرّواية حول ثلاثة صناديق أساسيّة من الذّاكرة. في صندوقها الأوّل، في ذاكرة التّسلّل من سورية عام 2015، يأخذها سؤال ابنها: “ماما إحنا وين رايحين؟” إلى فتح صندوق آخر من الذّاكرة، إلى النّزوح عام 67، حيث كانت تردّد هذا السّؤال لأمّها: “يمّا إحنا وين رايحين؟”. تأخذنا بعد ذلك إلى فتح صندوق أشدّ قسوة، تدور حوله معظم فصول الرّواية، وهو تجربة اعتقالها، لتعود في الفصل الأخير لتغلق حكاية وصولهم إلى السّويد. وهناك فقط تجيب ابنها عن سؤاله بعد أن يصبح المجهول واقعًا آمنًا.
إنّ السّؤال الّذي ردّدته ثمّ ردّده ابنها يذكّرنا بـ “لماذا تركت الحصان وحيدًا؟” لمحمود درويش، حين سأل الابن أباه في قصيدة “أبد الصّبّار”: “إلى أين تأخذني يا أبي؟”. والحقيقة أنّ الكاتبة تعتمد التّناصّ من قصائد درويش بكثافة، ولا تخفي تأثّرها هذا في الرّواية حيث تنهل عددًا من عناوين الفصول الدّاخليّة من قصائده.
هذا السّؤال المتكرّر الّذي يتحوّل على عتبات التّاريخ من لفظة “يمّا” إلى “ماما”، ومن “الشّاحنة” إلى “الطّائرة”، يشعل النّار في هشيم الضّياع والتّيه، ويصهر الحاضر في ذكرى الماضي. أمّا السّؤال الّذي تبدأ به الرّواية: “من أين أنتِ؟ ولماذا اخترت بلاد الثّلج وطنًا؟”، فيحرّك في داخل فرح حزنًا وقهرًا دفينًا، إذ تقول: “مهما عشت في وطني الثّاني من سنوات طويلة سيظلّ السّؤال مطروحًا، إنّ وجودي على أرض السّويد لم يكن خيارًا، هي الأقدار من رمت بي أينما استطعت أن أجد ملاذًا.. في كلّ مرّة يطرح يحرّك في داخلي أحاسيس ومشاعر لن يفهمها طارح السّؤال، ظلال شاحبة وحزينة تعتريني وربّما قهر دفين”(ص133). هكذا يعود الماضي لينتهك الحاضر في ظلّ أسئلة عمياء في حضرة الغربة؛ سؤال الطّفولة عن معنى الحياة في ظلّ التّشرذم، سؤال الأنا عن ذاتها في ظلّ ضياعها، سؤال المنفى والوطن. هي أسئلة عن جدليّة المكان بين الـ “أين”/ “الـهناك”/ “الوطن الّذي كان” و “الـهنا”/بلاد الثّلج/ المنفى الّذي يصبح وطنًا. هي أسئلة تضع الذّاكرة والوجود والهويّة على المحكّ، فينفرط عقد الذّاكرة وتنهال الصّناديق على روح فرح، فتتساءل هل ستجد “نبيّ الله يوسف ليجيب السّائل عن سؤاله؟”(ص 9). كأنّي بفرح تجيب سائلها: أوَ تسألني؟ أوَ تسألني لماذا اخترتُ بلاد الثّلج وطنًا؟ أوَ تسأل الحزينَ عن فرحه؟ أوَ تسأل المشرّد المنفيّ عن غربته؟ أوّ تسأل المقهور عن عذاباته؟ هاكَ إذًا حكايتي أقصّها عليك، علّك تدرك أنّني أضعت حروف اسمي، أضعت الفرح، ولم آتِ إلى هنا خيارًا، بل هي الأقدار رمتني.
“من أين أنتِ؟ لماذا اخترتِ بلاد الثّلج وطنًا”؟” تبدأ الرّواية بهذا السّؤال فتبدأ الصّناديق بفتح أقفالها وتنثال الذّاكرة على روح فرح، فتعود بنا إلى تلك اللّحظة الّتي تسلّلت بها مع زوجها وأطفالها من مخيّم اليرموك في سورية إلى مطار دمشق، واصفة فزعها، راجية أن يكون ضابط الجوازات من المرتشين. كانت فرح حينها حاملًا وعلى وشك الولادة بينما تمسك طفلًا بيدها وزوجها يحمل طفلة أخرى، فتقول: “لو علم الطّفل القادم الّذي لا يكلّ عن معاندة أحشائي أنّ استعجاله لن يجلب له الخير ولا لمن تحمله لفضّل البقاء في مكانه. لو علم أنّ العالم ظلّ يلفظ والديه من بلد لآخر ويضعهم في عنق الزّجاجة بين خياري الاختناق والانعتاق ما زاحم ولا استعجل. لو دار في خياله أنّه لم يعد له ولأسرته مكان إلّا أضيق زاوية في سجون آخر معاقل وطنه الكبير لتنازل عن إنسانيّته وطالب بأن يولد قردًا”(ص12). كانت فرح تصلّي ألّا ينفضح أمر هجرتهم وإلّا سجنوا. وفي تلك اللّحظة الّتي تشير إليها سيّدة بملابس عسكريّة بأن تقف في طابور آخر للتّفتيش الجسديّ، تدرك خطورة الأمر فتتسلّل إلى حيث يقف زوجها حاملًا طفلتهما لتنقل “الهمّ الجاثم” في حمّالة صدرها، ورقة الفيزا المزوّرة، وتدسّها في حفّاظ طفلتها من الخلف. لكنّ لحظات القهر تستمرّ وتأكل أحشاءها فزعًا إلى أن يختم الضّابط الأوراق داسًّا الخمسمائة ليرة في جيبه خفية كرشوة، مثلما كانت تصلّي راجية أن يكون. وفي الطّائرة تخطف الورقة من الحفّاظ وتعيدها إلى مكانها في حمّالة صدرها بسرعة البرق. تتحوّل الطّائرة أمام صناديق الذّاكرة الوعرة بالآلام إلى تلك الشّاحنات الّتي هاجرت فيها مع أمّها وأخوتها قبل عشرين عامًا، عام 1967. كانت فرح في ذاك النّزوح تسير ممسكة بثوب أمّها الّتي كانت تحمل أختها الثّالثة وتجرّ بيدها أختًا أخرى، أمّا أخوها فيحمل أصغرهم. حتّى استقرّوا في بلد خليجيّة “ادّعى بأنّ أمّي من الأشقّاء، ولكنّ تمّت معاملتها معاملة الغرباء، بلا ضمانات ولا حقوق… في بلد بخل عليهم بإقامة تشعرهم بالاستقرار وتخفّف عنهم وطأة الغربة”(ص29).
تقول فرح: “إصرار أمّي على تحويل اللّجوء والهزيمة إلى نصر أرسلنا إلى غربة جديدة لطلب العلم”(ص30). تلام الأمّ على قرارها بتعليم البنات، لكنّها تقف درعًا واقيًا أمام أقرب الأقرباء الّذين تحوّلوا إلى أعداء. كانت فرح من فتح طريق العلم والسّفر، فتسافر إلى الجزائر في منتصف السّبعينيّات، وهناك ازداد حنينها للوطن، وتذوّقت “طعم الحرّيّة والعشق وكلمات محمود درويش ومظفّر النّوّاب ومقولات تشي جيفارا”(ص31)، حتّى تحقّقت لها فرصة الزّيارة، فعادت إليه تطفئ لهيب شوقها لمسقط رأسها، وما كادت قدمها تطأ أرض قريتها حتّى اعتقلها الجنود الإسرائيليّون واتّهموها بأنّها مخرّبة، فتسجن لشهور عديدة.
من الجدير بالذّكر أنّ تحديد النّوع الأدبيّ لهذا النّصّ بأنّه “رواية” وليس “سيرة ذاتيّة” يجعلنا غير متأكّدين من أنّ تجربة السّجن هي تجربة الكاتبة نفسها. فقد تكون تجربة “فرح” هي تجربة الكاتبة ذاتها، لكنّها، أي الكاتبة، تمويهًا ومواربة، أو خوفًا من الرّقابة والمساءلة، أو لأسباب شخصيّة معيّنة، صنّفت نصّها بالنّوع الأدبيّ الرّوائيّ كإشارة إلى سمة البعد التّخييليّ. وقد تكون، وهذا ما أميل إليه، محصّلة تجارب واقعيّة لعدّة شخصيّات مع دمج تجارب الكاتبة نفسها، فتتماهى الكاتبة والسّاردة في عدد من القضايا، أي تدمج الكاتبة تجربتها الشّخصيّة وسيرتها الذّاتيّة مع تجارب نساء أخريات لتكوّن شخصيّة فرح. هكذا تمسي فرح ذاتًا فرديّة وجمعيّة في الآن نفسه، ورمزًا للمرأة الفلسطينيّة المشرّدة في المنافي تحمل وطنها في قلبها وذاكرتها، جيلًا بعد جيل. إذًا هي سيرة فرديّة لا تنحصر في ذاتيّة الأنا، بل سيرة جمعيّة لتاريخ شعب، تتلاحمان دون أن تنفصل الواحدة عن الأخرى.
هي رواية عن الغربة والاغتراب، عن الوطن والمنفى، السّجن والحرّيّة، الحضور والغياب، وعن الحروب والنّساء. تكمل رحلة القهر والنّزوح، وتفتح صناديق الذّكريات واحدًا تلو الآخر، مؤكّدة أنّ الماضي لا يزال يتكرّر في الحاضر، وأنّ حضرة الذّكرى لا تزال تشهد على مرارة التّاريخ. تعود الذّاكرة إلى الوراء، حيث تلوب الذّكريات ولا تملّ عن الدّوران، فتصرّ على إفراغ نفسها كي تنشد الخلاص. إنّ ذاكرة فرح، تلك الّتي لا تدري من الفرح إلّا حروف اسمها، صناديق مغلقة على الألم، مغلقة على الحزن الّذي لا يكفّ عن النّدب، مقفلة على الفقد والغربة، فتعود الأسئلة لتواجهها: “من أيّ بلد أنا؟ هل بلدي مسقط رأسي؟ ربّما توجّب عليّ أن أعدّد هجراتي، أو أن يقع الاختيار على البلد الّذي سكنت فيه المدّة الأطول. وإذا كان الأخير جوابي فمن أيّ البلاد أولادي؟”(70)، “ضاقت بنا الدّنيا ونحن نبحث عن هويّة تعترف بإنسانيّتنا، لم يبق للشّرف والأمانة مكان في هذا الوطن الواسع”(ص16).
تنتمي الرّواية إلى السّرد النّسوي وأدب السّجون معًا. فلمّا كان الأدب النّسوي أدبًا اختراقيًّا ثائرًا على الأعراف الذّكوريّة والتّابوات السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، ويسعى إلى كسر الأغلال التّقليديّة على مستوى الشّكل والمضمون، فإنّ أدب السّجون يتقاطع معه في هذه النّقطة. ولمّا كان السّجين يكتب ليثور ويعرّي القمع بتعزيز صرخة الذّات في وجه الظّلم والاستبداد، فكذلك هي المرأة تناضل ضدّ الاضطهاد وتتوق للحرّيّة.
**في البعد النّسويّ
هي شهرزاد سيّدة القصّ النّسائيّ مرّة أخرى. هي شهرزاد في بحثها عن الحرّيّة المفقودة. إنّها رواية التّوق إلى الحرّيّة لمن يحمل إرث تاء التّأنيث ونون النّسوة في ظلّ أعراف بالية وتقاليد قاتلة تتفاقم مع تفاقم التّطرّف والتّعصّب وقمع الثّالوث المحرّم. إنّ السّجن بالنّسبة للمرأة لا يعني الجدران فقط، بل هو سجن المجتمع وقيوده وتمييزه ضدّها، حيث يمسي القهر السّياسيّ في مستوى واحد مع القهر الاجتماعيّ والدّينيّ. لقد استطاع الرّجل أن يسجن المرأة ويأسرها بتابواته خلف قضبان غير مرئيّة جعلتها تعيش غربة ومنفى داخل وطنها.
وعلى غرار شهرزاد، إمّا أن تحكي أو تموت – والموت هنا في ذاكرة تغتصب الرّوح مثلما اُغتصِب الجسد- كان حكي فرح بعثًا لحياة قد سلبت، فبالكلمة تفضح الاغتصاب وتحتجّ على الظّلم، وبالبوح يتغلّب الحضور على الغياب. كانت الكتابة آليّة بوح علاجيّة تمنحها تحرّرًا وانعتاقًا وتطهيرًا، تكشف بها التّراكمات النّفسيّة والذّكريات المريرة المتكدّسة، تعرّي واقعًا أشبه بمسرحيّة تتكرّر على مسامع التّاريخ وعتباته. لم يبق لفرح شيء تحقّق من خلاله وجودها إلّا الحكي والكتابة؛ فبعد أن اغتصبت جسدًا وروحًا، وتنقلت بين المنافي العربيّة، وجدت في السّويد، المنفى/الوطن البديل، ذاتها وأنوثتها ووجودها الإنسانيّ. ألم تقل فرح: “من لم يملك لسانه يندم”؟ ولعلّ المرأة، شهرزاد، هي أكثر من لا يملك لسانه في مجتمعاتنا العربيّة. هكذا تؤكّد الرّواية أنّ الحكي أفضل الطّقوس لمواجهة الفقد والنّسيان، وأنّ الكلمة تحفظ التّاريخ من غدر الزّمان، فبالكلمة تعيد بناء ما تهدّم، وبها تدافع الذّات عن وجودها بعد أن انفرط بها عقد الحياة.
تدور الأحداث، في محصّلة البعد الزّمنيّ لزمن الرّواية، منذ النّكسة حتّى سنوات الثّمانينيّات، لتقفز وتعود إلى عام 2015 مع هجرة أخرى يسجّلها التّاريخ للفلسطينيّين. إذًا تدور الأحداث في معظمها حول سنوات كانت معركة شهرزاد مع التّابوات والمحرّمات على أشدّها، ولا يزال. وكان صراعها مع مجتمعها الذّكوريّ السّلطويّ لا يزال يحتدم، فتتجسّد جدليّة السّجّان والسّجين في الإبداع النّسويّ في تحدّي المرأة/ السّجينة ليس لسجّانها الفعليّ والحقيقيّ فقط، بل لسجّانها المجازيّ، ذاك السّجّان الّذي ليس هو إلّا المجتمع الذّكوريّ السّلطويّ المحافظ بكلّ قيوده، القامع لحقوقها الإنسانيّة والاجتماعيّة. فالمرأة في ظلّ هذه المجتمعات الذكّوريّة تكون في الهامش، خرساء، محجوبة، تحرم من الحبّ وصنع القرار.
تسلّط الكاتبة الضّوء على قائمة التّحريمات الّتي تعيشها المرأة في ظلّ ثقافة ذكوريّة تقليديّة، وأعظمها الحبّ والحرّيّة، فتعاني المرأة من نظرة الرّجل الازدواجيّة تجاهها، في مجتمع يخشى الخطيئة بالعلن ولا يهمّه ما يفعله بالخفاء، في مجتمع لا يزال يعتبر الحبّ جريمة وحرامًا. كانت دلال في روايتها من الكاتبات اللّواتي اخترقن تابو الجنس بجرأة، فتناولته بشكل مكثّف وذلك في جزء من تخيّلات فرح واستذكارها لتجارب صديقاتها العاطفيّة، كآليّة علاجيّة كسرت بها القضبان، إضافة إلى أنّ كسر تابو الجنس هو التّحدّي الأبرز في تقويض الأعراف الاجتماعيّة مثلما هو تقويض للأعراف الأدبيّة الّتي أرساها الرّجل.
تعاني النّساء في هذه الرّواية من وجعين متماهيين: وجع اجتماعيّ دينيّ يغتصبها بالتّابوات، ووجع سّياسيّ تنخره أزمة الهويّة والحروب. إنّه وجع واحد لا يزال يتلولب ويلوب، يتماهى الواحد بالآخر ويتشابه لونه. العيب والحرام والعادات والموروث مفردات يمارسها المجتمع المحافظ بأعرافه بهدف هتك حياة المرأة وسلب حرّيّتها في التّعبير عن عواطفها ومشاعرها. يشكّل التّمرّد الجنسيّ، في اعتقادنا، انعكاسًا آخر لجدليّة السّجّان/ السّجينة، المجتمع/ المرأة، فتؤكّد المرأة في الرّواية أنّها لها الحقّ في جسدها ومشاعرها، كتمرّد ليال صديقة فرح وبحثها عن الحبّ، والّتي حقّقت أمنيتها في نيله لكنّ نظريّتها وتطبيقها كانا ثورة قامت بها ضدّ قوانين أسرتها. في شهرها الرّابع كانت حين عقد قرانها، فأعلن أهلها البراءة منها. أمّا فايزة، على النّقيض من اسمها، فلم تفز بالحبّ الّذي حلمت به. فحين أراد أن يتزوّج أنهى علاقته بها، كاشفًا عن ازدواجيّته ونفاقه، وحين تدرك أنّها حامل لا تخبره ولا تبكي له مصيبتها، بل تجهض جنينها. إلّا أنّ المفاجأة أنّه يتركها لأنّها لم تكن عذراء، والأدهى أنّه يعرف أنّها لم تكن عذراء لأنّ جنود الاحتلال كانوا قد اغتصبوها حين سجنت وهي في الثّالثة عشرة من عمرها، وحين تسأله فرح، صديقة فايزة: “أليس هذا سببًا كافيًا وأنت الّذي تدّعي النّضال لأن ترحمها من أن تقع تحت رحمة رجل جاهل؟”، فيجيبها: “ولماذا أفعل؟ سأدع ذلك الشّرف لمغفّل غيري”(ص94). تقول فرح: “عدت أبكي معنى الحرّيّة الّتي ندرسها ونحفظها ولكنّنا لا نطبّقها، نلبسها في المناسبات والاحتفالات ونخلعها حين تطفأ الأضواء وتختفي آلات التّصوير. حُصرت حياتنا في الحرام والحلال، إن فعلنا وآمنّا بالحرّيّة اتّهمنا بالكفر والانحلال، ترى حين يغتصب الرّجل، أو تتعطّل خصيتاه على يد المحقّق هل يتهم بالـ…؟ يظلّ السّؤال معلّقًا في ضمير أمّة لبست القشور ورفضت الجوهر”(ص95).
أمّا فرح فقد أضاعت فرحها، وهي تحمل العادات البالية على ظهرها، خذلت الحبّ لخوفها من قمع والدها حين عارضها قائلًا: “إذا خرجت عن طوعي لن أحرمك من الجامعة فقط، وإنّما سأخرج أخواتك من المدرسة أيضًا”. فتتخلّى عن حبّها الأوّل والأخير، لم تمتلك جرأة صديقتيها حين آمنتا بحقّهما بالحرّيّة والحبّ. فأدركت أنّها أضاعت فرحها مثلما أضاعت الوطن في الحرب، أليست هي رواية عن الحرب والنّساء، الحبّ والحرّيّة؟! فرح هي الّتي غرّبتها العادات والأعراف مثلما غرّبتها المنافي والسّجون. فرح الأنثى الّتي سلبت منها حرّيّتها فتغرّبت عن حبّها. الغربة ليست غربة الجسد في المكان فقط، بل إنّها غربة الرّوح كذلك في سجن الأعراف والتّقاليد.
تعلّمت فرح الحرّيّة من الطّيور وغارت منها: “تلك الطّيور الّتي امتلكت حقّها بالطّيران منذ ولادتها، بينما رافقتني قيودي منذ أن التقطت رئتاي أوّل نفس، وبقيت مفاتيحها ملك الذّكر”(ص100). وهذا يقودنا إلى لوحة الغلاف؛ هي صورة لأغصان شجرة زيتون، عليها أشكال لطيور الحجل مطرّزة بالتّطريز الفلسطينيّ الّذي يمثّل شاهدًا على التّراث والهويّة فيحفظ الذّاكرة ويروي تاريخ الأرض والإنسان. يظهر غصن الشّجرة قليل الأوراق الخضراء، كأنّه مجرّد من خضرته، ولعلّه رمز للأرض الّتي هجرها أبناؤها فقتلها القحل، ولعلّه الخواء. لكنّها برأينا هي تلك الشّجرة الّتي وصفتها صديقتها نادرة في “ظلّ التّانغو”: “أنت في وطنك الجديد شجرة استمرّت تنهل من الضّوء، ما قد يجعلها أيقونة، أنت عزيزتي شجرة تفرّعت منها فروع امتدّت جذورها في الأرض تتغذّى وتغذّي، تحيي وتحفظ ما ينساه النّاس” (ص40). وهي تلك الشّجرة الّتي تعود نادرة لتقول لها في “غربة الحجل”: “قد تكون النّساء ورودًا لكنّهن في الأصل أشجار زيتون يتوحّدن مع الأرض ليتشرّبن أسرار تجذّرها، فيصبح امتلاكهنّ للمعرفة ربيعًا دائم الزّهور”(ص100). نادرة الّتي قالت لها ذلك، هي الّتي علّمتها أنّ العلم سلاح الأنثى لا دموعها.
ولمّا لعب المكان دورًا أساسيًّا في تشكيل حياة المرأة في الرّواية، وكان سببًا في اغترابها وعزلتها، في جدليّة المنفى والوطن، فإنّ جدليّة المكان وسؤاله تبدأ من العنوان: “غربة الحجل”: كيف يغترب الحجل وهو طير يملك أجنحة ويتمتّع بالحرّيّة ولا يستقرّ بمكان؟ لعلّها تختار الحجل لأنّه طائر يعرف بكونه طائرًا مقيمًا غير مهاجر، أو لأنّه يعيش على الأرض وبين الحجر كدلالة لتمسّكه بالأرض. ولعلّ الأهمّ، وهذا ما نعتقده، لأنّ طائر الحجل تطوّقه قلادة في عنقه، وهذا يعيدنا إلى ما قالته فرح في نهاية الرّواية ولحظة وصولها إلى السّويد: “على ألحان خارطة وطن معلّق في العنق كقلادة طائر الحجل، وأنغام نوتات هويّته الجديدة، عزفت الرّيح أغنية إقامة دائمة وهويّة سجّلت فيها إنسانيّتي وباقي أبنائي بماء القلب”(ص278). هكذا يمسي هذا المنفى وطنًا يمنحها إنسانيّتها بعد تيه وضياعٍ، وتستعيد فيه ذاتها المغيّبة ومعنى اسمها، وهذا ما أكّدته فرح في “ظلّ التّانغو” أنّ هجرتها إلى السّويد أصبحت قبلتها وهويّتها.. فيها انتهت غربتها عن ذاتها”(ص39). أمّا وطنها الحقيقيّ “فلسطين” فهي تحمله في عنقها قلادة، كقلادة طائر الحجل.
لكن، لماذا أربعة طيور؟ برأينا هنّ: فرح، فايزة، ليال ونادرة. هنّ النّساء اللّواتي لعبن دورًا أساسيًّا في تعزيز الحرّيّة والحبّ والعلم في حياة فرح، وعشن الغربة الاجتماعيّة والوطنيّة. ترمز الكاتبة للنّساء بالطّيور لأنّها تؤكّد أنّه عليهنّ أنّ ينطلقن نحو الحرّيّة والحبّ والمعرفة، وأنّ تحرّر النّساء بأهمّيّة تحرّر الوطن.
وهذا يعيدنا إلى “حوريّة” الّتي انشقّت عن ذات فرح، كأنّ فرح انقسمت لاثنتين أو انقسمت على ذاتها. ولقد أخذت هذه الشّخصيّة الوهميّة تبادلها الحوار في الرّوايتين. تحثّ حوريّة فرح في “ظلّ التّانغو” “على الكتابة والإدلاء بشهادتها، كي لا يبقى ما نحت على جسدها كالوشم ذكرى في صناديقه تدقّ في عالم النّسيان”(ص38). لا غرو أن تسمّي ذاتها الأخرى “حوريّة”، ففرح منذ أبصرت النّور كانت تبحث عن الحرّيّة. وكأنّي بالكاتبة تلاعبت بحروف الاسم، فإذا تمعّنّا بالاسم “حوريّة” نجده جناسًا غير تامّ لكلمة “حرّيّة”، بزيادة حرف ومدٍّ في النّطق والصّوت: “ح-و-ريّة”- “حرّيّة”. هي الحرّيّة الّتي كانت تتوق إلى امتلاكها. إذًا تأتي فرح بالغياب ليكون حاضرًا، تبعث فيها ما تفتقده. هي حوريّة صاحبة صوت الحقيقة والحرّيّة والإنسانيّة.
من ملامح السّرد النّسويّ في هذه الرّواية النّيل من مكانة الرّجل، فتقصيه الكاتبة وتلغي دوره القياديّ، وتظهره قاسيًا، مغتصبًا وقامعًا للمرأة. وتمنح الأدوار المركزيّة للمرأة مستعيدة بذلك مكانتها، فتهيمن على النّصّ كإشارة إلى محاولة هيمنتها على واقعها، وتأكيد رفض تبعيّتها للرّجل، وتعزيز سلطتها وتأكيد أهليّتها في القيادة مقابل تدمير سلطة الرّجل، وتقويض الأعراف السّائدة في المؤسّسة الذّكوريّة. ولعلّ التّركيز على بحث المرأة عن الذّات والحرّيّة والحبّ، والتّوق إلى استقلاها من أبرز هذه الملامح، فتؤكّد بشخصيّة فايزة وليال ونادرة وهالة على نموذج المرأة القويّة الحرّة الّتي ترفض أن تكون الضّحيّة، فحتّى تحقّق أحلامها عليها أن تتحدّى وتقاوم، فتظهر بشخصيّة قويّة، متحفّزة، مسيطرة وحرّة. يعكسن وعيًا فكريًّا ناضجًا لحقوقهنّ وحقوق وطنهنّ، ولصورة المرأة الّتي لا تقلّ قدرة عن الرّجل حتّى في الفعل السّياسيّ. تحرّك الواحدة فيهنّ دوافع إيجابيّة وعقل متفتح لاستعادة هويّتها الأنثوية المغيّبة والعمل على تحقيق رغبتها. حتّى فرح استطاعت في النّهاية التّغلّب على نقاط ضعفها.
ومن جهة أخرى، تنتقد الكاتبة النّساء الخاضعات المستسلمات، عدوّات المرأة نفسها، وذلك على لسان هالة مخاطبة فرح، إذ تقول: الحقيقة أنّنا قبل دخولنا السّجن لسنا أحرارًا.. فالحرّيّة توجد في الهواء الّذي نتنفّسه لكنّنا معشر النّساء نرفض في أغلب الأحيان استنشاقها ولحجج واهية، فإمّا أن نراها واقعًا مريرًا يعزف لحن السّتر العيب والحرام، أو نراها الفزع الّذي التفّ حول أعناقنا حتّى لبس جلدنا، كفانا تخفّيًا وراء كلمات فقدت مضامينها تحت أحذية أمّهاتنا من قبلنا، كفانا ترديدًا لما يملى علينا مغيّبين قدرتنا.. فبينما أنت هنا بالله عليك بماذا يفكّر قوم أمّك؟ أنّك مناضلة تئنّ تحت أحذية جنود الاحتلال أم أنثى تحمل شرفنا بين ساقيها.. مردّدين: “مش خايفة يغتصبوها؟”(ص 114).
أمّا الأمّ فكانت مثالًا للأمّ الحنونة والمرأة الجريئة، هي الّتي تحدّت أقربائها لتعلّم بناتها، فقالت: “لن أنذر بناتي لحياة المطبخ، بل سأسير بهنّ عكس التّيّار”(ص55). هي الّتي علّمت فرح الحبّ ودفعتها إلى السّفر طلبًا للعلم، قائلة: “انظري إلى الأمام، لا تنظري خلفك حيث أقف، أنا وحضني لن ندوم لك، جهدك وعلمك من سيقف معك أبد الدّهر” (ص 165). هي الأمّ الصّبورة الّتي لا تشتكي لأحد، هي المناضلة الّتي لا تخشى شيئًا، والّتي قادت أطفالها الصّغار وحدها في تجربة النّزوح، حيث كان زوجها قد سافر قبلها، وبعد أن رفض والدها ووالدتها استقبالها مع أطفالها ومشاركتهم المخبأ حتّى تتوقّف الحرب عام 67 (ص54).
تنتقد الكاتبة على لسان فرح المهاجرين العرب في السّويد الّذين لا يسعون للاندماج على الرّغم من كلّ ما قدّمه لهم هذا الوطن من احتضان ومحبّة واحترم لإنسانيّتهم، تلك الإنسانيّة الّتي سلبت في أوطانهم الحقيقيّة، وكأنّها تؤكّد أنّه إذا كان المنفى ومجتمعاته من يمنح الحبّ والحرّيّة للإنسان المهاجر فهو بالضّرورة سيمسي له وطنًا بالمفهوم الحقيقيّ للوطن. ولذا تؤكّد على أنّه يجب على المهاجر منح الحبّ والاندماج لهذا الوطن. كما تنتقد تعامل الرّجال العرب مع نسائهم في ظلّ ثقافة جديدة مقابل أعراف ومفاهيم مترسّخة في أذهانهم، فتقول: “الحقيقة كنت أشفق على بعضهم، فعدا مقاعد الدّراسة الّتي تضع قدرات المرأة والرّجل على الملأ، ظلّ خوفهم من تأثير ثقافة البلد الجديد على عقول نسائهم وبناتهم يضيق مداركهم. على الرّغم من أنّ الدّراسة فرصة في أي زمان، خاصّة وأنّها تقترن بأنّ يتقاضى الدّارس أجرًا ظلّت غير محبّبة للكثير من الرّجال. لا أدري إن كان اللّوم كلّه يرمى على العقليّة الّتي لا تؤمن بقدرة النّساء. لقد ظلّ جزء كبير من الرّجال يميل إلى منع النّساء من الخروج إذا ما سنحت لهم الفرصة”(ص 213). فتتساءل: “لماذا لا أرى الشّوق للتّعلّم وتقويم الذّات؟.. الكلّ يريد أن يثبت للآخر أنّه يكره عادات البلد الجديد، ولديه ما يضيف، في كوننا أفضل منهم، وبلادنا أفضل من بلادهم (الكافرة). يتباهون بما ليس بهم.. وكأنّ أهل البلد المضيف الّذين يطعمونهم ويحترمون إنسانيّتهم هم أعداؤهم الحقيقيّون”(ص97). كانت فرح ترى غربتها في كافيتريا الجمعيّة بألوان شتّى، فأمثال خالد ينسبون فشلهم للمجتمع السّويديّ، وأمثال أحمد يصرّون على أنّ الدّين لا يسمح بخروج النّساء من البيوت، فيلجؤون إلى التّعصّب الدّينيّ كملاذ لفقدانهم السّيطرة على زوجاتهم وبيوتهم، وتكتمل الحلقة بنساء أمثال خديجة، أقصى طموحهنّ قلب رجل أو بطنه (ص 213). إنّ الخلل برأيها يكمن “بحقيبة السّفر الّتي تلبسنا باسم العادات، وفي أوهام عن مجد كاذب لبسناها تحت جلودنا.. ما زلنا أمّة انحدرت ولم تقرأ، أجهضت أحلامنا وما زلنا نلهث وراء أطلالها”(ص213).
ومن جهة أخرى لا تنفكّ ذاكرة جسد فرح عن الصّراخ في كلّ مرّة تتذكّر فيها عدد المرّات الّتي وقعت فيها في الفخّ، فخّ الرّجل العربيّ المغتصب الّذي ينظر إلى المرأة على أنّها جسد يثير الشّهوة فيسوّل لنفسه الاعتداء عليها، فتتذكّر وهي في سيّارة الأجرة، وبعد خروجها من السّجن، وحين يعتريها خوف من أن يكون هذا السّائق فخًّا آخر، محاولات الاغتصاب والاعتداءات الّتي تعرضّت لها من الرّجال في فترة مراهقتها وفي فترة دراستها في الجزائر.
**في أدب السّجون
يتوفّر في هذه الرّواية حضور واضح لكلّ من ركائز أدب السّجون الأساسيّة، أهمّها: السّجن، السّجّان، السّجين، التّعذيب الجسديّ والمعنويّ وغيرها. تكتب دلال لتعرّي وتبوح، وفي بوحها شهادة ووثيقة.
في السّجن تتولّد ثنائيّات متناحرة تحاصر الإنسان في دوائرها، وكلّها تنبثق عن جدليّات السّجن والحرّيّة، فلا تتجلّى الحرّيّة في مكان ما أكثر من السّجن، بل هي سؤال السّجن الأعظم؛ و”في ظلمات السّجن يقطن عشّاق الحرّيّة”.
لا شكّ أنّ المرأة السّجينة تتحوّل داخل قضبان السّجن إلى سجين له سلوكيّاته النّمطيّة المعروفة، فتشبه أيّ سّجين في تصرّفاته وسلوكيّاته حين تسلب حرّيّته. ففي ظلّ عزلتها اللّاإراديّة في السّجن لا بدّ للوعي والخيال أن ينفتحا ويعملا كردّ فعل طبيعيّ على هذا القيد الجسديّ. كما أنّ الصّمت والوحدة يوقظان ذاكرتها ويشعلان فكرها وخيالها. فإنّ السّجين غير القادر على تغيير المكان وزمانه يضطرّ بالضّرورة، وبغريزة البقاء، إلى تغيير واقعه، أو بمعنى آخر أن يتأقلم مع مكان السّجن وزمانه، فيخلق له مكانًا وزمانًا وهميين، بلا وعي وبآليّة الدّفاع السّايكولوجيّ. وهذا لا يحدث إلّا في المخيّلة وأحلام اليقظة. هكذا يصبح الذّهن وعاء يستوعب هذه القمعيّة فيخفّف من وطأتها بالانفتاح على الأفكار والخيالات ومناجاة النّفس. إذًا هي محاولات للبحث عن معنى للحياة ولإثبات الحضور في ظلّ الغياب. وحتّى يتمّ هذا الانفتاح يجب الانتقال من القصّ الخارجيّ إلى القصّ الذّاتيّ الدّاخليّ من خلال تيّار الوعي. وعليه، ليس غريبّا أن تبحث هذه الشّخصيّات المهشّمة عن زمن آخر، فتنفصم عن الزّمن الخارجيّ وتعيش زمنًا نفسيًّا يمنحها القدرة على التّحرّر من قيود السّجن المغلق. من هنا تعتمد روايات السّجن على زمنين متصارعين هما: زمن السّجن (الزّمن الخارجيّ) وزمن الحرّيّة (الزّمن النّفسيّ)؛ الزّمن الخارجيّ الموضوعيّ- زمن السّجن البائس الّذي يقاس بالدّقائق والسّاعات ويدرك بالحركة في المكان، مقابل الزّمن النّفسيّ الشّعوري الدّاخليّ- زمن الحرّيّة والأحلام والذّكريات. إنّ الزّمن الخارجيّ هو زمن ثابت، هو ملك السّجن والسّجّان ومتآمر معهما. أمّا الزّمن النّفسيّ فهو زمن السّجين الّذي يتدفّق بسيولة وبتحوّل دائم بحركة الوعي الحرّة، وذلك باستحضار الماضي، بالعودة إليه وجلبه إلى الحاضر، ثمّ تأمّل الحاضر والحلم بالمستقبل. تدرك فرح، كغيرها من السّجناء، أنّ خارج ذاتها هو السّجن، وبحركة انسحاب من الخارج إلى الدّاخل يكون الاحتماء، بعكس طبيعة الحياة الّتي تنبثق من الرّحم. تنسحب للبحث عن معنى للحياة حين يمسي الخارج مساويًا للموت. فالرّوح ملك لها، فكرها وملاذها. أمّا الجسد فيستطيعون النّيل منه: “فعيب الإنسان في جسده، إذا ضعف الجسد وتهاوى سقطت روح الإنسان وتفتّتت إرادته” مثلما يقول رجب في شرق المتوسّط للكاتب عبد الرّحمن منيف.
حين يشتدّ الألم يكون ملاذها في استدعاء حلم أو ذكرى، فكانت في تخيّلاتها كأنّها تشتري لنفسها تذكرة تنقلها خارج قضبان السّجن، فتعود بهذه التّذكرة وتدور بها عجلة الزّمان إلى الماضي القريب، إلى تلك المرّات الّتي كانت تهتاج الأحاديث بين الطّالبات في غرف السّكن الجامعيّ، عن الحبّ والحرّيّة. تنسحب فرح إلى أحلام اليقظة أحيانًا فتحلم أنّها تمارس علاقة حبّ وتتحوّل إلى طائر لا يعترف بالقضبان ولا بحدود، طائر لا يوقفه جنديّ أو محقّق. تهرب بهذه الأحلام تبحث عن حبّ ظلّ أسير أحلام يقظتها وشهادة مخدّتها، فتستعيده في زنزانتها بين القضبان، تعيشه في مخيّلتها وتمارسه بلهفة التّعطّش إلى الحبّ. وفي أحيان أخرى تستحضر “حوريّة”، تلك الشّخصيّة الوهميّة الّتي انبثقت من داخلها وباتت لا تتركها، أو تستحضر صديقتها فايزة الّتي جرّبت السّجن قبلها فتتخيّلها بجانبها تعينها على التّعامل مع سجّانها وأساليبه، تلهمها الفكرة والسّبيل، فتجد لديها الشّجاعة الّتي تفتقدها. وكم من مرّة ناجت ليال أو نادرة لدعمها ولتعزيز عزيمتها حتّى لا تنهار مثلما يريد سجّانها!
لقد لعبت هذه التّخيّلات والذّكريات والاسترجاعات دورًا هامًّا في تعزيز عزيمتها وإعادة الأمان والثّقة إلى نفسها. إنّها الحريّة الروحيّة التي تمنحها التّوازن الدّاخليّ الّذي افتقدته. فتمسي آليّات تيّار الوعي آليّات تعويضيّة. إنّها آليّات تعويضيّة طالما حرّيّة الجسد غير ممكنة، يبحث الفكر عن أي شيء يلهيه ويقتل من خلاله عدوّه الوقت. هي الحرّيّة الرّوحيّة الّتي لا يمكن لأحد أخذها من السّجينة، وهي الّتي تجعل للحياة معنى وهدفًا خلف القضبان.
إنّ كلّ هذا يحدث بلا تسلسل منطقيّ، وتقلّ فيه السّببيّة المباشرة وتنكسر حركة الزّمن الخارجيّة الّتي تسير في خطّ مستقيم، من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، وبإيقاع متغيّر غير ثابت، وذلك لأنّه يقوم على الشّعور والخيال، وهذان متعلّقان بالسّجين، والسّجين شعور وروح، والرّوح زمان نفسيّ، زمان غير جامد وغير متسلسل منطقّيًا، بل ثائر وحرّ. وهنا يتأكّد لنا مضمون روايات أدب السّجون: جدليّة البحث عن الحرّيّة وكسر قيود السّجن- المكان. ولمّا كانت هذه الرّوايات تستدعي الأزمنة في حركة حرّة وتعتمد آليّات تيّار الوعي، كالمونولوج والاسترجاع والحلم والتّقطيع الزّمانيّ والمكانيّ وتفتيت الحبكة التّقليديّة وغيرها، فإنّها تشير إلى تجانس الشّكل الفنّيّ مع المضمون. وكأنّ تفتيت الحبكة التّقليديّة والبحث عن الحرّيّة على صعيد الشّكل الفنّيّ هو انفتاح وحلم بالحرّيّة على صعيد المضمون، وتعبيرًا عمّا يدور في وعي السّجينة، ومحاولة لكسر مبنى السّجن وشكله الهندسيّ الثّابت. لا غرو إذًا أن نجد هذا المبنى مهشّمًا متشظيًّا كتعبير فنّيّ وشكليّ للواقع المتشظّي.
وفي السّجن يكبر التّيه والتّشظّي، فتسأل نفسها: “من أنا؟ هل أنا الّتي رغبت أن تكون أم أنا الّتي أجبرت على أن أكونها؟”(ص185). ولا يختلف السّجّان/ الجلّاد في هذه الرّواية عن صورته النّمطيّة، فهو تلك الشّخصيّة القاسية يسعى إلى سحق السّجينة وإذلالها، مستخدمًا كلّ آليّات العنف الجسديّ والنّفسيّ. فتتعرّض فرح كغيرها من السّجينات إلى الاغتصاب، تجرّد من إنسانيّتها، تسلب الإرادة والحرّيّة. وبالمقابل تحاول الصّمود، رافضة السّماح له بإذلالها أو النّيل من كرامتها، باحثة عن كلّ قوى الصّبر في نفسها لتتماسك في وجه مغتصبها. ولا شكّ أنّ الاغتصاب أو الاعتداء الجنسيّ بالنسبة إلى المرأة في ظلّ مجتمع شرقيّ يرى بعفافها أثمن ما تملكه هو أفظع ألوان التّعذيب وأشدّها وطأة وإذلالًا. إنّ اغتصاب جسدها هو معادل موضوعيّ للنّكبة والتّهجير. وحدها هالة تعيد إليها الثّقة: “لقد أخذ منّي عدوّي أغلى ما لديّ”. فتردّ هالة: “لا يهمّ من منّا اغتصب، المهمّ ألّا تلومي ذاتك ولا تخجلي، فهل أسفل جسدك أغلى من أعلاه؟ من غزا جسدك قد دنّس شرف العرب كلّهم قبل أن ينال منك. أنت يا غاليتي بما نالك أشرف نساء العالم وأكثرهم عزّة، فها هي الأيام والأشهر تمرّ، وعلى الرّغم من كلّ ما حصل لم ينالوا منك حرفًا تخونين به وطنك.. لو نظرت حولك وفي الخارج سترين الخونة يعيثون فسادًا، لا تحزني، إنّ شرف العروبة قد بيع في المناقصات العلنيّة قبل أن تنتهك حرمتك”(ص156).
تلعب الرّائحة الكريهة وقذارة الزّنزانة ومساحتها الّتي لا تتجاوز المترين ووجود الصّراصير والفئران دورًا آخر في تعذيبها نفسيًّا، ويصل خوفها إلى درجة باتت فيها تتمنّى لو أنّها لم تعارض أمّها الّتي حذّرتها من العودة فتقول: “ليتني بقيت جاهلة بكوني نازحة، ليتني بقيت أعيش في اللّا وطن، ليتني لم أحلم بحرّيّة أنوثتي، فلا وطن تحرّر ولا نساء خلعن عنهن السّواد. لقد ظلّت العتمة والغربة وطنًا أنا فيه لاجئة حبيسة”(ص 67).
لم تعد فرح في الزّنزانة الانفراديّة تدرك مرور الزّمن، كانت تعدّ الأيّام في البداية لكنّها ملّت العدّ، أو فلنقل: نسيها الزّمن. فمن يسقط في قاع الحياة وقاذورات الأمكنة لا يدري به الزّمان، لا بل ينساه. ولعلّ ذلك هو السّبب الّذي يدفع فرح حين ترى نفسها تأكل كالحيوانات ما يجود به السّجان من طعام بائس جافّ، متنازلة عن الاهتمام بقاذورات تلك الزّنزانة الحقيرة، تقول: “وضعت إنسانيّتي في صندوق أقفلته، ثمّ ألقيته في حفرة المرحاض ليسبح هناك مع الفئران والصّراصير”(ص108). في السّجن تدفعها غريزة البقاء في ظلّ عيشها بين الفئران والصّراصير لاكتساب عادة جديدة هي هزّ قدمها في جلوسها ونومها لإبعادهم عنها. والمفارقة أنّ صداقة تتولّد بينها وبين هذه الحيوانات والحشرات. وحين لا تكون معلّقة ليتسلّى بها المحقّق كانت تعدّ النّقاط السّوداء الّتي تكوّن شكل البلاط في الأرض حتّى تنام من شدّة التّعب. لم تكن فرح بطلة بالمفهوم التّقليديّ للبطولة، رغم محاولات تمرّدها وصمودها، فلم تجد إلّا الانكسار في زمن الهزائم والقهر. وأحيانًا كانت أمنية الموت من أجمل الأماني في السّجن.
بعد أن يفقد السّجّان الأمل باعتراف يريده، يطلق سراحها وترحّل إلى حدود الأردن. وهناك تبحث عن أبي هاني، من أبناء قريتها، فيساعدها ولكنّه يحذّرها بضرورة خروجها من الأردن بسرعة، تركب سيّارة أجرة وتتفاقم مصيبتها حين تنزف في السّيّارة عار الاغتصاب وتخرج ما تبقّى في رحمها من حياة. كيف ستخفي عارها دون أن يلاحظ السّائق ما ستتركه وراءها من مصيبة؟ وحين تخبره أنّها نفيت من وطنها ولا تملك مالًا بخلاف ما أوصاها أبو هاني. يحاول السّائق إنزالها لكنّها تأبى ذلك، ثمّ تحاول السّقوط من السّيّارة والانتحار، لولا أنّ ذراعها الأيمن علق بالحزام الواقي. وفقط بعد محاولة الانتحار الفاشلة يضطرّ إلى إيصالها إلى بيت قريبة زوجها في عمّان، تلك القريبة الّتي كانت قد اتّهمتها بأنّها بلا شرف، لأنّ السّيّدة الشّريفة لا تترك البيت دون زوجها، فكيف لها أن تسافر وحدها! ولم يكفها هذا حتّى يكوي أذنيها ما قاله السّائق: “أكيد عاملتلها عملة وحطتها بسيّارتي، بنات الحرام هالأيّام كتار، دايرات على حلّ شعرهن، أستغفر الله من قرف النّساء”(ص 268).
تنجح فرح بالعودة إلى المنفى الخليجيّ حيث أهلها، محذّرين إيّاها من فتح فمها بكلمة حول ما جرى لها. وظلّ جرحها النّازف يغلي ويفور، وتتفاقم أزمتها حين يخطّ أحد ضبّاط الضّفّة الشّرقيّة على جواز سفرها: “يمنع تجديده”، حتّى جاء وقت الحساب لتضطرّ إلى مراجعة فرع المخابرات باستمرار، مخاطبة نفسها: “إن خرجتِ حيّة من هنا ستظلّين تركضين لاهثة كالكلاب الضّالّة وراء جواز سفر. إليه أضيف قلقي على أطفال أنجبتهم لمستقبل مظلم بلا أوراق بلا علم ولا مدرسة، لم أجد أمامي سوى المجهول أدقّ بابه علّني أجد لنا سبيلًا لوطن وأمان”(ص271). “بعد فقدان الأمل بالعيش في سلام في آخر معاقل العرب، بعد أن سقطت الشّعارات، ترنّحت الكرامة والحقّ، وأغلقت كلّ الأماكن أينما ولّيت وجهك، وحين لفظتك وبترتك رابطة العروبة والدّين، فرض عليك الفرار بأقلّ الخسائر. وحين صفعك الماضي لتمضي وتصبحي العائد الّذي لا يعود لا يبقى لك سوى الجري بعيدًا، لاهثة تلملمين بقايا إنسانيّتك المنتهكة في اللّجوء إلى المجهول”(ص272).
تنتهي حكاية السّجن في الفصل قبل الأخير تلك الّتي حدثت كما يبدو في بداية الثّمانينيّات، فعلى الرّغم من أنّ الكاتبة لم تذكر أيّ تفاصيل تتعلّق بفترة السّجن أو مدّتها، إلّا أنّنا نستنتج، ووفقًا للمعطيات النّصّيّة، أنها سجنت لأشهر عديدة، وخرجت بعد حدوث مجزرة “صبرا وشاتيلا” في لبنان. الأمر الّذي قد يعني أنّها سجنت بين عام 1982 و 1983. تعود الكاتبة في الفصل الأخير، وبمبنى دائريّ لتغلق حكاية الهروب من سورية، تلك الّتي بدأتها في الفصل الأوّل، والّتي حدثت في نيسان 2015. إذ تهبط الطّائرة بفرح وزوجها وولديها في الأرض البولونيّة فتتلقّفهم هناك أيدي المهرّبين العرب، وتنهب منهم المال مقابل أيّ معلومة يحتاجونها لمواصلة الرّحلة. وتكشف لنا فرح أنّها بعد عناء ثلاثة أعوام من تقديم رشاوى لم تثمر، ومحاولات تجديد جواز ختم بالأحمر لم تجد أيضًا، استطاعت وزوجها الظّفر بجواز مزوّر وتمّ إلصاق صورة جماعيّة للأسرة في صفحة التّعريف، لتعيش صراعًا آخر بعد أن هبطت طائرتها تسابق الزّمن بألّا يولد طفلها حتّى لا تزداد العائلة فردًا إضافيًّا ويفقد جواز السّفر جدواه. كانت فرح قد حصلت على شهادة طبّيّة تقول إنّها حامل في الشّهر السّادس، رغم أنّها كانت على وشك الولادة، فتسنّى لها السّفر على متن الطّائرة. هو سباق مع الزّمن ومع الحيطان الّتي لها آذان عملاء أجهزة الأمن. تصف فرح لحظة وصولها إلى المحطّة الأخيرة حيث الحدود البحريّة قائلة: “البحر أمامنا والسّجن وراءنا، تهمة لا تشبه إلّا تهمة الذّئب بقتل يوسف”(ص 276)، “الخوف هو الخوف، والتّهمة ما زالت التّهمة، ويوسف ما زال في البئر يصرخ: يا أبتاه، والصّرّة هي الصّرّة، تحوّلت فقط إلى حقيبة سفر، والشّاحنة تحوّلت إلى طائرة وقارب مطاطيّ في القرن الّذي تلاه”(ص 277).
هكذا تتمّم فرح سرد حكايات صناديق ذاكرتها الّتي انثالت عليها بلهفة السّجين إلى الحرّيّة، وتنهي روايتها بتساؤلها: “يظلّ السّؤال: هل ظفرت بيوسف ليفسّر الحلم أم ما زال الباب موصدًا دوني؟”(ص278). لا شكّ أنّها نجحت في الإجابة عن سؤاله واستطاعت كشف أسباب هجرتها إلى المنفى، ذاك المنفى الّذي استطاع أن يمسي لها وطنًا بديلًا، ويمنحها كلّ ما افتقدته من أمان وكرامة وإنسانيّة، لكنّها تؤكّد: “مهما عشت في وطني الثّاني من سنوات طويلة سيظلّ السّؤال مطروحًا”(ص133).
هي فرح في كلّ عتبات حياتها كانت تبحث عن ذاتها، عن أناها، تلك الأنا الّتي تخلّت عن حبّها لقمع والدها وأعراف مجتمعها، تلك الأنا الّتي تشرّدت في منافي الوطن، من هجرة لأخرى، ولا تزال تبحث عن ذاتها الضّائعة، عن الخلاص، عن الحرّيّة. إنّ البحث الدّائم عن الحرّيّة هو البحث عن الحياة وأسباب الفرح. وفرح كانت تبحث عن معنى حروف اسمها، تلك الحروف الّتي لم تعرف منها إلّا لفظها. لكنّ فرح كانت قد أكّدت في رواية “ظلّ التانغو” أنّ هجرتها إلى السّويد أصبحت قبلتها وهويّتها.. فيها انتهت غربتها عن ذاتها( ظلّ التّانغو: ص39). وفي “غربة الحجل” تقول في الفصل الأخير من الرّواية: “سأحلم لا لأصلح أيّ معنى خارجيّ، بل كي أرمّم داخلي المهجور”(ص 272).
**وقفة أخرى في الميزات الفنّيّة والشّكل
إنّ رواية “غربة الحجل” نصّ حداثيّ يتقاطع فيه أدب السّجون مع الأدب النّسويّ. إنّ محاولة المرأة الكاتبة في الأدب النّسويّ للانفلات من الشّكل الكلاسيكيّ للرّواية باتّجاه شكل فنّيّ جديد ينبع من رغبتها في الثّورة على المضامين والتّقنيّات الفنّيّة الأدبيّة الذّكوريّة. هي محاولة للوصول إلى موازٍ لحرّيّة المضمون على صعيد النّصّ الأدبيّ بامتلاك حرّيّة الشّكل. في ظلّ هذا الواقع الصّادم وقضبانه المعنويّة والمادّيّة تعي الكاتبة أنّ عليها أن تثور على واقعها من خلال تقويض الجنس الأدبيّ، فتتّكئ على أساليب وتقنيّات فنّيّة عديدة، فتجعل روايتها هويّة متعدّدة الفنون وسردًا اختراقيًّا متمرّدًا، تمزج فيها آليّات متعدّدة، كالتناصّ، الميتاكتابة، المونتاج تيّار الوعي وآليّاته، اعتماد اللّغة الشّعريّة المجازيّة والمزاوجة بين الفصحى والعاميّة وتفتيت الحبكة وتهشيمها. يأتي كلّ ذلك بدافع التّمرّد ضدّ النّموذج الأبويّ الصّارم ومقاومة هيمنة الكتابة الذّكوريّة والتّيّار الرّئيسيّ التّقليديّ الّذي أسّسه الرّجل. ولا شكّ أنّ تداخل هذه الفنون والآليّات تهشّم الشّكل تمامًا مثلما هي الرّواية مهشّمة بمضامينها.
في هذه الرّواية الّتي تنتمي إلى أدب السّجون أيضّا، والّتي كتبت بقلم امرأة، تدور حول المرأة ويأتي الحكي فيها بلسان المرأة، ممّا يجعل المرأة تكون راوية الحكاية وموضوعها في الآن نفسه، مهيمنة على سلطة السّرد وعلى عالم الرّواية. الأمر الّذي يشير إلى محاولة هيمنة المرأة على الواقع ولو على مستوى الخيال من خلال هيمنتها على النّصّ. كما يعمل على تعزيز مكانة المرأة بجعلها المسيطرة على عالم النّصّ. فإذا كان صوتها في الماضي عورة ومنعت من حقّ البوح وحرّيّة التّعبير والكتابة، فها هي تجهر بصوتها بقوّة، لا بل تقوله مباشرة ودون مواربة، وبضمير الأنا. من أهمّ المظاهر الّتي يتقاطع فيها الأدب النّسويّ مع أدب السّجون هي هيمنة الشّخصيّة المركزيّة على النّصّ. فإذا كان السّجين المقموع هو الشّخصيّة المركزيّة وهو الرّاوي في معظم النّصوص، فكذلك المرأة في السّرد النّسويّ هي الشّخصيّة المركزيّة وهي الّتي تتولّى سرد الأحداث بضمير الأوّل فتسيطر بذلك على الأحداث وعمليّة السّرد. ويعتبر التّمحور حول الذّات وبروز ظاهرة الأنا هو الّذي يحوّل كتابات المرأة الرّوائيّة إلى نوع من أدب الاعترافات الّذي يقوم على البوح والاستذكار والتّداعي في استدعاء مكوّنات السّيرة الذّاتيّة. وكنّا قد أشرنا إلى إمكانيّة وجود عوامل أوتوبيوغرافيّة كثيرة تعتمدها الكاتبة حيث تنبثق من سيرتها الذّاتيّة وسيرة غيرها من النّساء. يعتبر استخدام ضمير المتكلّم مؤشّرًا إلى اقتحام القضايا المطروحة بجرأة وجدّيّة، ودليلًا قاطعًا على سرد مضامين محظورة بجرأة. فإنّ الكاتبات العربيّات يقصدن منح الأسبقيّة للذّات الأنثويّة، لذلك يستخدمن الضّمير الأوّل باعتباره أفضل وسيلة لتحقيق ذلك في الأدب، فهو أقدر على خلق ملاءمة بين الحياة والأدب.
تكثّف الكاتبة من أسلوب الحوار وتطعيم اللّغة الفصحى باللّغة المحكيّة الفلسطينيّة، كما تكثّف من استخدام اللّغة الشّعريّة المجازيّة، فتأتي لغتها خاصّة لإثبات خصوصيّة لغتها وتجربتها، قادرة على احتواء مشاعرها ومعاناتها، وكوسيلة مقاومة للّغة الذّكوريّة. إضافة إلى سعي الكاتبة بتكثيفها للتّناصّ، من الدّين والشّعر والأدب وغيرها، إلى خلخلة شكل الجنس الأدبيّ وزيادة في غموضه ورمزيّته، فإنّها تسعى كذلك إلى تأكيدها على سعة أفقها الفكريّ والثّقافيّ. وممّا يضمن لها كذلك انتهاك نظريّة الأدب الرّسميّ التّقليديّ، مثلما انتهكت شخصيّات الرّواية على صعيد المضمون، وتمامًا مثلما انتهكت قيود السّجن بآليّات الخيال والوعي. تتوق إلى الحرّيّة في خلخلة البنية التّقليديّة محطّمة الثّوابت الكتابيّة الشّكليّة، تمامًا كتوق الشّخصيّات الأنثويّة إلى الحرّيّة.
وفي النّهاية نقول: تبدأ الرّواية بالسّؤال، وبالسّؤال تنتهي، ويبقى الجواب معلّقًا، وتبقى النّهاية مفتوحة.. فمتى يكون الخلاص؟
(ألقيت المداخلة في أمسية إشهار الرواية في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 27.06.2019)